مناسبة عيد العرش بين الحدث التاريخي والتأصيل الشرعي

لقد ثبت في التاريخ القديم والحديث أن لكل أمة ذكريات وأحداث تمجدها وتقدسها، والأصل في إحياء الذكريات والاحتفال بها هو أن تكون مصدرا للعظة والعبرة ونبراسا للاقتداء والاهتداء، والذكريات سبب من أسباب ربط الأمم بماضيها وتذكيرها بأمجادها حتى لا تضل الطريق ولا ترجع إلى الوراء قال الله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)، وقال أيضا في سورة إبراهيم: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور).

قال الطاهر بن عاشور في تفسير قوله تعالى: (وذكرهم بأيام الله) أي بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه وإنجائه إياهم من عدوهم وفلقه لهم البحر وتضليله إياهم بالغمام وإنزاله عليهم المن والسلوى “. (ج13ص190،بتصرف).

قلت: هذا في زمن سيدنا موسى عليه السلام وفرعون، أما في زماننا فينبغي تذكير الناس بالأحداث التي عرفتها بلادهم ونعمه عليهم فيها، لأن ذلك أقرب وأبلغ في الاتعاظ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربط الحوادث الدينية بالأزمنة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ماهذا؟ قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجى الله بني اسرائيل من عدوهم فصامه قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه”، صحيح البخاري رقم :2004 ،ج2-ص 704.

وقال الله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)، وقد اعتاد الناس أن يتحدثوا عن الأمور التاريخية في مثل كل يوم وقعت فيه، لأن ذلك يجعل أثرها أبلغ. قال ابن حجر معلقا على الحديث الذي رواه أبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، لعبت الحبشة فرحا بذلك، لعبوا بحرابهم، ولا شك أن يوم قدومه صلى الله عليه وسلم كان عندهم أعظم من يوم العيد. (فتح الباري، ج2 ص443 ، باب الحراب والدرق دار المعرفة).

فذكرى الهجرة وذكرى بدر وذكرى القادسية كلها أيام وطنية كان يحتفل بها المسلمون، بل إن الذين شاركوا في بدر أُعْطُوا وساما من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال لسيدنا عمر رضي الله عنه وقد هم بضرب رأس حاطب بعدما تبثث خيانته: “إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله عز وجل قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم  فقد غفرت لكم” (النووي، شرح مسلم ، ج16ص 56).

وأخرج البخاري ومسلم عن أمنا عاشة رضي الله عنها قالت: “دخل علي أبو بكر ،وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله؟ وذلك يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :يا أبا بكر ، إن لكل قوم عيدا، وإن عيدنا هذا اليوم، وعن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنكم تقرءون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيدا، فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت وأين أنزلت وأين كان رسول الله حين أنزلت، أنزلت يوم عرفة ورسول الله واقف بعرفة، والآية هي قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، نزلت ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله بعرفات.  (تفسير الطبري ج6\ص 82).

هذا وإن لكل بلد أيامه ولكل بلد أعياده التي يستقبلها بشوق وسرور، وهذه سنة الله في خلقه. والمغرب أيها الإخوة الكرام له والحمد لله أحداثه التاريخية الكبرى التي تزهو بها صفحات أمجاده منذ أن نور الله بالإسلام ربوع بلاده.

ولا شك أن حب الوطن من الأمور الفطرية التي جبل الإنسان عليها، فليس غريبا أبدا أن يحب الإنسان وطنه الذي نشأ على أرضه وشب على ثراه وترعرع بين جنباته، كما أنه ليس غريبا أن يشعر الإنسان بالحنين الصادق لوطنه عندما يغادره إلى مكان آخر، فما ذلك إلا دليل على قوة الارتباط وصدق الانتماء.وهناك آيات قرآنية وأحاديث شريفة استنبط منها العلماء مشروعية حب الوطن والحنين إليه )ابن حجر فتح الباري ج4 ص 494وانظر المباركفوري ،تحفة الأحوذي ج9 ص283).

وحتى يتحقق حب الوطن عند الانسان المسلم لابد من تحقق صدق الانتماء إلى الدين أولا، ثم الوطن ثانيا، إذ إن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحت الإنسان على حب الوطن، ولعل خير دليل على ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف يخاطب مكة المكرمة مودعا لها، وهي وطنه الذي أخرج منه، جاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة :”ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك”.

ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معلم البشرية يحب وطنه لما قال هذا الكلام الذي لو أدرك كل إنسان مسلم معناه لرأيت حب الوطن يتجلى في أجمل صوره وأصدق معانيه، ولأصبح الوطن لفظا تحبه القلوب وتهواه الأفئدة وتتحرك لذكره المشاعر.

وإذا كان الإنسان يتأثر بالبيئة التي ولد فيها ونشأ على ترابها وعاش من خيراتها فإن لهذه البيئة ـ بما فيها من كائنات ومكونات ـ عليه حقوقا وواجبات كثيرة، منها أن تفرح لما يُفْرحها وتَغْضب لما يغضبها وتهتم لاهتماماتها وتدعوا لها بالفرج والتيسير والنصر والتأييد، وفي الاحتفال بهذه الذكريات شد المواطن إلى الارتباط بوطنه وتمتين الوحدة بين أفراده ونبذ الفرقة والتشرذم بين ساكنته، هذا بالإضافة إلى أنها تحميه من التأثر بالأفكار الدخيلة للأعداء، خصوصا اليوم عندما غدا العالم أشبه بالقرية الصغيرة، وسهل على كل واحد اختراق الآخر.

إن كل مسلم ومسلمة ينبغي له ويتعين عليه أن يهتم بتاريخ الإسلام والمسلمين بدءا من السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين وتابعيهم بإحسان في كل عصر وجيل ،وأن يعتني كذلك بتاريخ وطنه وبلده المسلم في كل وقت وحين، فيرجع إليه ويقرأه ويدرسه ويتأمله ليتعرف من خلاله على سيرة السلف الصالح من آبائه وأجداده، وعلى حياتهم وتاريخهم الإسلامي المجيد وجهادهم المستميت في سبيل عزة الدين ونصرة الوطن والمسلمين .

لقد تضمن ديننا الإسلامي الحنيف جملة من المبادئ والأحكام والفضائل والتعاليم، ترشد الإنسان إلى أقوم طريق، وتنير له السبيل في أمور دينه ودنياه وتسعده في حياته وأخراه، ومن جملة تلك المبادئ الدينية والأحكام الإسلامية التي تضمنها، ما يتعلق بنظام الحكم في الإسلام، والعلاقة القائمة بين الراعي والرعية، والرابطة القوية التي تجمع بين الإمام الخليفة وأمته التي ولاه الله أمرها في ظل الإسلام وهداية الإيمان .

وتستمد الإمامة مشروعيتها من إجماع علماء الإسلام من عصر الصحابة والتابعين وأهل السنة والمرجئة والشيعة والمعتزلة والخوارج باستثناء نفر منهم يسير على أن الإمامة أمر واجب وفرض محتم.

قال ابن حزم في كتاب الفصل: “اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة، وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقيـاد لإمام عادل، يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم-“. وهي علاقة ورابطة تقوم على أساسين اثنين:

أولهما: البيعة الشرعية من الأمة، تلك البيعة التي هي استمرار للبيعة النبوية واستمداد من بيعة المسلمين والمسلمات للنبي صلى الله عليه وسلم، ولخلفائه الراشدين من بعده، رضوان الله عليهم أجمعين، تلك البيعة التي ذكرها الحق سبحانه مخاطبا نبيه بقوله الكريم: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسنوتيه أجرا عظيما)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”.

وثانيهما: السمع والطاعة لأولي الأمر من الخلفاء في الإسلام، تلك الطاعة التي أمر بها الله سبحانه في كتابه، وقرنها بطاعته وطاعة رسوله إبرازا لأهميتها في المجتمع الإسلامي، وإظهارا لفضلها وميزتها في الحفاظ على جمع كلمة الأمة وضمان الاستقرار لها والطمأنينة مصداقا لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال:”سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البَّر ببره والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم”.

وإذا رجعنا إلى تاريخ مغربنا العزيز وتأملناه من منظور ديني وواقعي واجتماعي، وجدنا أن الله تعالى أكرم هذا الوطن بقيادات دينية ترعاه بدين الإسلام وشريعة القرآن، وتحكمه بما أوجب الله لأولي الأمر من الطاعة والامتثال، وذلك منذ عهد الدولة الإدريسية الشريفة حوالي اثني عشرة قرنا من الزمان.

وفي هذا المقام يقول شيخ مشيخة العلماء في وقته العلامة الدكتور محمد يسف حفظه الله: “ومن عهد المولى إدريس إلى مولانا محمد السادس حافظ المغرب على نظام الخلافة والبيعة الشرعية بما يفرضه من تحديد واجبات الراعي والرعية وحقوقهما، في نسق تلتقي فيه الأصالة في أنقى مظاهرها، والمعاصرة في أحدث مبتكراتها، فلا المعاصرة تضيق بالأصيل، ولا الأصالة ترفض الجديد المفيد.” (مقال منشور بموقع المجلس العلمي الأعلى) .

وهذا كله جعل هذا الشعب المؤمن يعرف هذه النعمة وفضلها ويقدرها حق قدرها ويحمد الله ويشكره عليها فبقي متشبثا ببيعته الشرعية وطاعته الدينية والوطنية، لأنه يرى في ذلك وفاء بالعهد المأمور به في قوله تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا ) وقوله: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني”.

وعلى ضوء هذه المبادئ الدينية وما تضمنته من أحكام ربانية وتوجيهات نبوية حكيمة سن آباؤنا المخلصون للدين والوطن تقليدا حميدا وأسسوا لنا عيدا وطنيا مجيدا منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمان للتعبير عما يجمع بين إمارة المؤمنين والرعية من أواصر المحبة والولاء، ذلكم هو عيد العرش السعيد الذي يخلد في ذكرى تربع أمير المؤمنين على العرش .يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم والدارمي وأحمد عن عوف بن مالك رضي الله عنه: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم “أي تدعون لهم ويدعون لكم”، وهي مناسبة تجدد فيها الرعية بيعتها لأمير المؤمنين كل سنة فلماذا لا نفرح بذلك ونجعله عيدا من أعيادنا؟ والحمد لله رب العالمين.

د. عبد المغيث بصير

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *