الرابطات والرباطات بالمغرب من خلال كتاب التشوف

بقلم د. الجيلالي كريم

أستاذ باحث، متخصص في تاريخ التصوف المغربي، ابن أحمد.

تعتبر كتب السير والمناقب من المصادر الأساسية في الدراسات التاريخية، فبالإضافة إلى كونها تؤرخ لرجالات العلم والصلاح والأدب والفن وغيرهم، تمثل مادة مصدرية قمينة بإماطة اللثام عن مجموعة من الظواهر

الاجتماعية والثقافية والعاداتية السائدة في المجتمعات، ولعل ذلك راجع إلى غنى مادتها، سواء من حيث المعطيات التاريخية التي تقدمها، أم من حيث الإشارات العارضة بين ثنايا التراجم، والتي تمثل في كثير من الأحيان مرجعا يتيما لعدد من القضايا المعرفية.
والكتاب الذي بين أيدينا(1) يعتبر أنموذجا لهذه المصنفات، إذ يمثل مادة منقبية فريدة في أسلوبه التأليفي ومضمونه المعرفي، وقد عنونه صاحبه كالآتي: التشوف إلى رجال التصوف، من تأليف أبي يعقوب يوسف بن يحيى التادلي المعروف بابن الزيات المتوفى عام 627هـ أو 628هـ.
ولما كان هذا الكتاب أهم المصادر المؤسسة للتاريخ الصوفي بالمغرب، رأيت من المفيد قراءته وكشف بعض مضمراته المتعلقة برابطات ورباطات التصوف الأولى بالمغرب، لاسيما وأنه يمثل أولى المصادر التي وصلتنا في هذا الباب بعد المستفاد(2)، فإن كنت اخترت هذا الموضوع على الرغم من أن المعلومات والأخبار المتعلقة به جاءت في غالبها الأعم مجرد تلميحات هامشية وإشارات عارضة، فلأن مادة هذا الكتاب – على محدوديتها – تبقى مهمة على اعتبار أنها تمثل المصدر الوحيد في التأريخ لعدد من الرابطات والرباطات بالمغرب.
ونظرا لهذا المعطى المعرفي، فإن دراستنا  للموضوع ستكون إحصائية بالدرجة الأولى، ثم توطينية، إذ سنعمل على استخراج وتحديد كل الرابطات والرباطات المذكورة في هذا المصدر، ثم تعيين أمكنتها على الخريطة المغربية(3)، أملا في تقديم صورة عامة لمواطن تواجدها على التراب المغربي قبل القرن السابع الهجري، وهذا لا يعني أننا سنغفل باقي جوانب الموضوع بل سنحرص على تتبع كل معلومة قد تفيد في تبيان معالم هذا الرباط أو ذاك، سواء ما تعلق بتاريخه أم بأدواره ووظائفه، وطبعا نفعل ذلك من أجل الخروج بأكبر كَمٍّ ممكن من المعلومات التي جاء بها هذا المصدر حول الرباطات المغربية، لكن قبل ذلك يحتم علينا المطلب المنهجي تقديم تعريف -ولو مبسط- للكتاب ومؤلفه ودواعي تأليفه حتى نعطي للقارئ إمكانية ربط الدراسة بمصدرها.

1- ابن الزيات في سطور:
هو أبو يعقوب يوسف بن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن المعروف بابن الزيات التادلي(4)، المتوفى في 627هـ أو 628هـ، أما السنة المثبتة على غلاف الكتاب (617هـ)، فهي سنة تأليفه لا سنة وفاة المؤلف(5)، أحد الأدباء والفقهاء المتميزين الذين أنجبهم المغرب في العصر الوسيط، عمل قاضيا بقبيلة ركراكة المصمودية زمن الموحدين، صاحب أبا العباس السبتي كما لقي ابن حوط الله، وعلى عكس عادة الأدباء والفقهاء في تلك الفترة الذين كانوا يرحلون إلى المشرق للاستزادة من العلم، لم يغادر ابن الزيات أرض المغرب، بل لم يدخل حتى الأندلس، ولهذا خلت موسوعات الأندلسيين من ذكره، وربما كان هذا أيضا سببا في نذرة المعلومات حول هذه الشخصية وضياع عدد من تآليفه التي تشير إليها المصادر والتي أصبحت تدخل في عداد المفقود، مثل شرحه على مقامات الحريري المسمى: نهاية المقامات في دراية المقامات(6)، أو كتابه: المغرب في ذكر بعض صلحاء المغرب(7)، وربما كان له مؤلفات أخرى لكن لا نعلم عنها شيئا، ولو لم يكن له إلا التشوف لكفاه دليلا على علو شأو هذا الرجل ومكانته الرفيعة وسط علماء عصره.

2- كتاب التشوف إلى رجال التصوف:
شرع ابن الزيات في تأليف هذا الكتاب في شعبان من سنة 617هـ، وفرغ منه يوم الجمعة ثاني عشر من ذي القعدة من نفس العام(8)، أي في أقل من أربعة أشهر، ولعل هذا كما قال المحقق يمثل زمن التحرير(9)، أما الجمع فلا شك أنه استغرق وقتا أطول، ونستشف ذلك من ثنايا التراجم التي أوردها، حيث يشير إلى زياراته العديدة والمتكررة للصالحين وتتبع أخبارهم، وهذا ما يرجح أنه كان يجمع مواد هذا الكتاب(10).
ومهما يكن فزمن تأليف هذا الكتاب يتأطر في بداية القرن السابع الهجري وبالضبط سنة 617هـ، أي كتب في العهد الموحدي زمن الخليفة أبي يعقوب يوسف بن محمد بن يعقوب المنصور الملقب بالمنتصر بالله، الذي عرفت ولايته الكثير من الاضطرابات، مع ما صاحبها من قحط وغلاء شديد وانتشار الجراد، حتى اعتقد الناس بذهاب زمن الصالحين، فجاء هذا الكتاب ليكشف الغطاء ويرد الاعتبار لثلة من الصالحين وأكابر الفضلاء الذين زخرفت أسماؤهم تاريخ التصوف المغربي.
ولا شك أن هذا المصدر يعتبر أهم نص منقبي وسيطي، وإذا ما أضفنا أنه من المصادر التي لا مصدر لها إلا الرواية الشفهية والمعاينة، أمكننا القول إنه يمثل نصا تأصيليا وتأسيسيا للتأليف الصوفي بالمغرب، لاسيما وأنه يعتبر لحد الآن من أقدم النصوص في باب التصوف، خصه صاحبه لترجمة جملة من الأولياء والصالحين، مما يعني أنه يدخل في صنف كتب التراجم العامة، حيث جمع بين دفتيه أخبار مائتين وسبعة وسبعين من الرجال والنساء(11)، منهم تسعة عشر من المجاهيل، وينتمي هؤلاء المترجمون إلى أماكن مختلفة من المغرب(12)، لكن المؤلف ركز بالخصوص على المراكشيين، أو الذين زاروا مراكش أو قبروا فيها، كما أنه لم يتعرض فيه لأحد من الأحياء(13).
ولعل جِدَّةَ النمط التأليفي لهذا الكتاب تفصح عن تأثر مؤلفه بكتب سابقة عليه، مثل حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصفهاني (ت 430هـ)، والمستفاد في مناقب العباد بمدينة فاس وما يليها من البلاد، لأبي عبد الله محمد التميمي الفاسي (ت 603هـ أو 604هـ)، وهذا واضح من أسلوب وتبويب الكتاب وترتيبه وإن كان صاحبه لا يشير إلى ذلك، وقد ظل مخطوطا حتى منتصف القرن العشرين حيث طبع أول الأمر سنة 1958م، بعدما صححه أدولف فور الأستاذ بمعهد الأبحاث العليا المغربية، الذي نشره في الجزء الثاني عشر من منشورات هذه المؤسسة، ولما أسست كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط على أساس مبنى معهد الأبحاث العليا، أعادت نشره بعد عقدين ونصف بحلته الأولى، لكن بعد نفاذ هذه الطبعة تشوف القراء والباحثون إلى تشوف جديد من خلال تحقيق جديد يكون قادرا على فتح مغالق هذا النص التراثي الفريد التي أفلتت من التحقيق الأول، خصوصا لما ظهرت نسخ أخرى لهذا الكتاب وكثر معها التصحيف والغلط لما تضمنه المتن من أسماء الأعلام والأماكن البربرية الصعبة الضبط، فظهرت عدة محاولات لإعادة إخراج الكتاب بتحقيق أكثر عمقا من سابقه، كانت أولاها محاولة محمد القبلي سنة 1978م، وبعدها محمد حجي الذي عهد بمراجعة الكتاب إلى أحمد التوفيق الذي عمل على مراجعته وضبط نصه في محاولة لتجاوز فلتات التحقيق الأول، فجاء تحقيقه في مستوى التطلعات، سواء على مستوى التقديم أو الإخراج أو ضبط المتن أو الفهارس مما جعل هذا النص مادة طيعة وأكثر انقيادا لمتطلبات القراء والباحثين، وهو الأمر الذي يستحق معه كل الثناء والتقدير، وهكذا طبع طبعته الأولى بتحقيقه سنة 1983م ضمن منشورات الكلية المذكورة مع ذيل بأخبار أبي العباس السبتي، ثم أعيد طبعه ثانية سنة 1997م للمحقق نفسه.
ولكتاب التشوف اختصار وضعه أحمد بن محمد بن علوان الشهير بالمصري (ت 787هـ)(14)، واختصار آخر لأحمد بن عبد الله السملالي (ت 1093هـ)(15).

3- تعريف الرباط:
3-1 التعريف اللغوي:
قال ابن منظور: ” الرباط والمرابطة: ملازمة ثغر العدو، وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله للفريق الآخر، ثم صار لزوم الثغر رباطا … والرباط: المواظبة على الأمر… وفي الأصل الإقامة على جهاد العدو بالحرب … والمصدر الرباط، أي الملازمة، وقيل هو اسم لما يربط به الشيئ ويشد، وجمعه الرُّبُطُ، وقيل الربيط: الراهب والزاهد “(16).
فالواضح إذن من خلال هذا التعريف، أن مدلول الرباط يتوزع بين الاسم والمصدر، فالرباط الاسم هو ما يشد به، والرباط المصدر بصفة عامة هو المواظبة على الأمر، وبصفة خاصة هو ملازمة ثغر العدو، وذكرت هذه الكلمة في القرآن الكريم في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) (17)، وفي قوله عز وجل:  (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقون من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (18)، وفسرت هذه الآية تفسيرات جهادية ببذل النفس والمال، وأخرى تعبدية بملازمة حفظ حدود الشريعة، وهو الأمر الذي يزكيه حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: “ألا أدلكم على ما يمحوا به الله الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة إلى الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط.”(19).
وانطلاقا من التعريف اللغوي، ومن الحديث السابق يظهر أن الرباط في الأصل هو جهاد العدو بالحرب، ويبدو أن هذا المدلول هو الذي كان سائدا في بداية الأمر، لكن لما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث إلى أن المواظبة على الطهارة والصلاة كالمرابطة للجهاد في سبيل الله، أٌضيفَ للرباط مفهوم جديد فأصبحت الكلمة تحمل مدلولا مزدوجا يجمع بين الجهاد والتعبد، ولما كان المرابطون في بداية الأمر هم حراس الثغور وقوافل الطرق بأجر أو في سبيل الله، صار الزهاد والعباد ينعتون أيضا بالمرابطين لكون التعبد أضحى أحد أهم مدلولات الرباط.
3-2 التعريف الاصطلاحي:
لم يبتعد المعنى الاصطلاحي للرباط عن معناه اللغوي، فهو عند الفقهاء احتباس النفس في الجهاد والحراسة، أما الصوفية فيطلقون هذا المصطلح على الأماكن التي يجمعون فيها بين العبادة والجهاد مع المداومة والالتزام بذلك، وسموها كذلك لأنها ” تربط صاحبها عن المعاصي وتكفه عن المحارم “(20).
وعليه، فإن الرباط لا يُفتَرضُ وجوده في مكان معين، فقد يكون في الداخل أو على الساحل، في الحواضر أو القرى، في السفح أو الجبل، وقد يكون بناء فخما أو بسيطا أو مجرد كوخ أو خيمة، أو حتى كهف أو مغارة، مما يحدده الهدف من المرابطة وعدد المرابطين وأساليب عيشهم.
وقد أطلقت العديد من المصطلحات على الرباط، كالمسجد عندما يقام به محرس، أو المحرس الذي يكون غالبا في مكان عال أو في موقع استطلاعي لكون ساكنيه يقومون بحراسة الثغور وتأمين الطرق، ويطلق عليه أيضا البرج والمنظرة التي تكون مهمتها الحراسة والمراقبة، إضافة إلى مصطلحات أخرى كالحصن والقلعة والقصبة والقصر، ولعل أقدم هذه المصطلحات شيوعا واستعمالا مصطلح الرابطة الذي غالبا ما كان يطلق على أماكن التعبد والممارسة الصوفية قبل أن تتحول وظيفتها فيما بعد إلى جهادية-تعبدية، فبدأ مدلولها يتداخل مع مدلول الرباط، وفي الدعاء: (اللهم انصر جيوش المسلمين ومرابطاتهم)، والمراد بها خيولهم المرابطة.

4- الرابطات والرباطات المذكورة في التشوف:
4-1 الرابطات:
4-1-1 الرابطات الساحلية:
•    رابطة تامرنـوت:
أشار إليها التادلي في الترجمة 260 الخاصة بأبي محمد عبد الحق بن أبي طاهر المغيطي المعروف بأمسطوط أي “المجنون”، حيث قال: ” سمعت عيسى بن موسى يقول: كنت مع عبد الحق بن أبي طاهر برباط آسفي في ليلة ممطرة في بيت، والبيت شديد الظلمة، ثم خرج عني وغاب ساعة، ثم دخل علي وقال: تعال! فقلت له ما الخبر؟ فقال لي: أتاني قوم من مؤمني الجن فأعلموني أن برابطة تامرنوت الساعة رجلين من الأولياء، فأردت أن أذهب معهم إليهما، فقالوا ارجع إلى صاحبك حتى تذهب معه، قال: فقمنا إلى تلك الرابطة فوجدنا فيها رجلين يصليان، فأردت أن أركع فأقعدني ومد يده وشرع في الدعاء”(21).
وكما يتضح من النص ان الرابطة المذكورة هي القريبة من رباط أبي محمد صالح الماجري الموجود بمدينة آسفي، والمشار إليه في الترجمة برباط آسفي، فالرجلين خرجا منه إليها في وقت قصير، كما يرجح أن يكون فيها مسجد لأداء الأوقات، وهي إحدى الرابطات القديمة، حيث تشير المصادر إلى أنها أقدم من رباط آسفي نفسه المؤسس في آخر القرن السادس الهجري، ودليلنا في ذلك ما قاله الماجري في وصفها: ( …وهو مسجد مبارك لم يزل الشيخ -أبو محمد صالح الماجري- قبل بناء الرباط يتحنث فيه)(22)، مما يعني أنها ترجع للعهد المرابطي أو بدايات العهد الموحدي، وتقع في الجهة الساحلية للمدينة (انظر الخريطتين رقم 1 و5).
•    رابطة تامَنْغْطَتْ:
قيل اسمها تامَنْغَاطَتْ وقيل تامَتْغاطَت، ذكرها ابن الزيات في ترجمة أبي العباس أحمد بن محمد  بن يوسف دفين سلا، فقال بلسانه: ” نمت البارحة برابطة تامنغاطت على قرب من ساحل آنفا “(23).
فالظاهر أن الرابطة توجد على مقربة من ساحل آنفا، والتي يقصد بها هنا تلك العمارة القديمة التي كانت قائمة في جانب من مدينة الدار البيضاء الحالية التي خربها البرتغال في منتصف القرن 15م، وأعيد بناؤها في بداية القرن 16م، وعرفت عند الأجانب بالدار البيضاء(24)، وكانت عبارة عن مرسى بين فضالة – المحمدية- ومازيغن –الجديدة-(25)، فمكانها يوجد بساحل الدار البيضاء، هذا عن تواجدها المكاني، أما عن وجودها الزمني، فالأكيد أنها من الرابطات القديمة التي يرجع تاريخها للعهد المرابطي لكون أبي العباس الذي نام بها توفي قبل 540هـ. (انظر الخريطة رقم 5).

•    رابطة القـدم:
ذكرها ابن الزيات مرة واحدة في الترجمة 73 لأبي موسى الدكالي، لكن دون أية إشارة إلى مكانها أو مؤسسها سوى أنها مدفن الأولياء، قال التادلي: “…وقد نقل من ذلك القبر إلى قبر حفرته له ملالة بنت زياد الله في رابطة القدم، وعملت عليه قبة أنفقت عليها خمسمائة دينار)(26).
وبما أن المصادر تشير إلى أن أبا موسى الدكالي مدفون بساحل سلا، فلا شك أن مكان هذه الرابطة هو ساحل مدينة سلا، ولعله المكان المكان الموجود اليوم خارج سور المدينة على الشمال المعروف بسيدي موسى نسبة إلى دفينه، وتوجد به قبة كبيرة قد تكون هي القبة المذكورة في الترجمة، والتي قال عنها محمد بن علي الدكالي: ( إن القبة التي عليه الآن مجددة في زمن السلطان مولانا اسماعيل)(27)، وتجديد القبة يعني وجودها قبل ذلك التاريخ. (انظر الخريطة رقم 5).

5-1-2 الرابطات الداخلية
•    رابطة أبي إسحاق:
ذٌكرت هي الأخرى مرة واحدة في التشوف عند الترجمة لرجل مجهول، قال ابن الزيات التادلي: ” سمعت محمد بن يحيى بن علي يقول: سمعت أبا علي عمر بن علي بن عبد العزيز يقول: صليت المغرب في رابطة أبي إسحاق التي هي داخل باب إيلان، فلما سلمت وقع بصري على رجل توهمت فيه أنه ولي… فسلم قبلي وخرج من المسجد فسلمت واتبعته، فصعد في درج سطح المسجد، فقلت قد يسر الله لي الحديث معه على السطح في خلوة، فصعدت الدرج، فلما علوت السطح نظرت فلم أجد له أثرا ولا علمت أين ذهب ) (28).
فأول ما يمكن استفادته من الترجمة وجود مسجد بهذه الرابطة يرجح أنه كانت تؤدى به الأوقات، كما يمكن أن نتلمس بعض معالمه الأثرية والهندسية فهو يتكون من طابقين يصل بينهما درج: ( فصعدت في درج سطح المسجد)، كما يبدو أيضا أن هذا السطح كان من أماكن الخلوة التي يلجأ إليها، هذا عن معالم الرابطة ومسجدها، أما عن مكان وجودها فهي كما جاء في النص (…داخل باب إيلان)، ومعلوم ان هذا الباب من الأبواب الموحدية التي أسست لتوسيع مدينة مراكش من الشرق، ويستقبل الوافدين من هيلانة وأغمات، وقد عرف بنشاطه الصوفي وبمقبرته التي دفن بها العديد من العلماء والأولياء، وعليه فالرابطة تقع في الجانب الشرقي من مراكش، وبالضبط في المكان الذي يعرف اليوم بضريح سيدي إسحاق، لكن الشخص الذي تنسب إليه الرابطة يبقى مجهولا، وإن كان البعض يرجح أنه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد السلمي، أحد مشاهير صوفية ألمرية الذي استقدمه يوسف بن عبد المومن إلى مراكش وبها توفي وإليه ينسب حي سيدي إسحاق(29)، لكن الملاحظ أن هذا الحي بعيد عن باب إيلان الذي توجد به الرابطة. (انظر الخريطة رقم 3).
أما عن زمن وجودها، فيرجع إلى ما قبل 592هـ، لكون عمر بن علي بن عبد العزيز الهزرجي الذي صلى بها توفي في هذا التتاريخ، مما يعني أن تأسيسها يعود لبداية العهد الموحدي أو قبله.
•    رابطة الغار:
ذكرها ابن الزيات مرتين، الأولى عند الترجمة لأبي يعقوب يوسف بن علي المبتلى، والثانية في ترجمة أبي عمران الهسكوري، حيث قال عن الأول: ( كان بحارة الجذماء قبلي مراكش، وبها مات في رجب عام 593هـ، ودفن خارج باب أغمات عند رابطة الغار)(30)، وقال عن الثاني: ( من أهل الجانب الشرقي من مراكش وبها مات في عام 590هـ، ودفن برابطة الغار بخارج باب أغمات)(31).
زمنيا يمكن أن نستنتج من خلال الترجمتين أن هذا الرابطة كانت موجودة قبل 590هـ، كما نستشف أنها كسابقتها كانت بها مقبرة لدفن العلماء والصالحين والأولياء، واسمها يعود لكونها كانت عبارة عن غار يعيش فيه المصابون بالجذام، حتى صار الغار وما حوله عبارة عن حارة للجذماء، وأشهر هؤلاء الجذامى يوسف بن علي الصنهاجي الذي ابتلي بالجذام حتى مات به وإليه تنتسب الرابطة، أما عن مكانها فهي توجد شرق مدينة مراكش خارج باب أغمات بحسب ما جاء في الترجمتين، وهو المكان المعروف اليوم بحي سيدي يوسف بن علي شرق مراكش.(انظر الخريطة 3).
•    رابطة زرهون:
ذُُكرت مرة واحدة في ترجمة أبي عبد الله محمد بن موسى الأزكاني، حيث جاء في آخر الترجمة: ( قال أبو زكرياء يحيى بن داود: قعدت مع أبي عبد الله برابطة زرهون في جماعة من الصالحين، فتحدثوا في شأن الدراهم …)(32).
تشير هذه الترجمة إلى أن الرابطة كانت محل اجتماع العلماء والصالحين، ومكان مناظراتهم وحديثهم، كما تشير إلى وجودها الزمني السابق لسنة 590هـ لأنها سنة وفاة أبي عبد الله المذكور فيها، مما يعني أنها كسابقاتها كانت موجودة في القرن 6هـ، أما مكانها فيرجح أن يكون هو المكان الموجود بضواحي فاس والمسمى باسمها، أو لعلها كما قال المحقق ضريح المولى إدريس الأكبر(33). (انظر الخريطة 5).
•    رابطة أنبدور:
جاءت الإشارة إليها في ترجمة أبي العباس التوزري، قال التادلي: ( سمعت أبا عبد الله محمد بن أبي القاسم يقول: حدثني أبو زكرياء يحيى بن ميمون قال: اعتكف عندي أو العباس التوزري برابطة أنبدور خارج مدينة سجلماسة)(34).
فالواضح إذن أنها كانت توجد خارج سور سجلماسة، وأنها كانت محل تعبد وإقامة واجتماع العباد، وهي كغيرها من الرابطات كانت موجودة في القرن 6هـ، فأبو العباس الذي اعتكف بها توفي سنة 610هـ، وقد أسقطها المحقق سهوا من الخريطة بعدما وطن مكانها اسم تامرنوت، وكما سبقت الإشارة فرابطة تامرنوت توجد بالقرب من آسفي من جهة البحر، بينما التي توجد قرب سجلماسة هي رابطة أنبدور. ( انظر الخريطة 5).
•    رابطة التونسي:
قال ابن الزيات متحدثا عن أبي محمد عبد السلام التونسي: (ودفن بالعُبَّاد في الرابطة المعروفة برابطة التونسي)(35).
فالرابطة إذن توجد بالعباد، القرية الواقعة بضواحي تلمسان من جهة الجبل والتي يوجد بها ضريح الشيخ أبي مدين الغوث، وعرفت بكونها مدفنا لعدد كبير من العلماء والصالحين، فهذا هو مكان الرابطة المذكورة، أما عن تاريخ إنشائها، فالواضح أنها من الرابطات القديمة، وهي منسوبة للتونسي المذكور في الترجمة، ومعلوم أن هذا الأخير عاش زمن المرابطين، حيث تحكي المصادر أن أمير تلمسان مزدلي بن تلكان أحد أقارب يوسف بن تاشفين زاره هناك للتبرك به وأكل طعامه، وبما أن هذا الأمير توفي غازيا في 508هـ، فالأكيد أن الرابطة ترجع إلى العصر المرابطي. (انظر الخريطة 5).
•    رابطة الزيات:
ذكر ابن الزيات هذه الرابطة في ترجمة رجل مجهول فقال: (حدثني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد الأنصاري قال: كنت ليلة ببجاية برابطة الزيات، وكان معي أبو علي منصور الملياني، فقمنا إلى وردنا في ليلة ممطرة…)(36).
فكما هو منصوص عليه في الترجمة، توجد هذه الرابطة بمدينة بجاية، كما يظهر أيضا أنها كانت مجمعا للصوفية، حيث كانوا يقرؤون فيها الأوراد والأذكار، وربما كانت تمارس فيها بقية الطقوس الصوفية.

4-2 الرباطات
4-2-1 الرباطات الساحلية:
•    رباط آسفي
ذكره ابن الزيات ثلاث مرات، الأولى في المقدمة في معرض حديثه عن أبي محمد صالح مؤسس هذا الرباط(37)، والثانية في ترجمة أبي محمد عبد الحق بن أبي طاهر المغيطي في قوله: “سمعت عيسى بن موسى يقول: كنت مع عبد الحق بن ابي طاهر برباط آسفي في ليلة ممطرة…”(38)، والثالثة في ترجمة أبي زكرياء يحيى بن أبي بكر الزناتي قائلا: ” حدثني أبو علي عمر بن يحيى قال: مر أبي لزيارة الشيخ الصالح أبي محمد صالح بن ينصارن برباط آسفي، فحدثني أنه لما قرب من موضعه تلقاه تلامذته وعليهم المرقعات وهم في وردهم من الذكر، فاعتنقوه وهم يبكون وهو يبكي معهم “(39).
الملاحظ أن الترجمة الأولى لا تقدم أية معلومات عن الرباط، في حين تشير الترجمة الثانية إلى أن الرباط كان به علماء ومتصوفة كبار تشد إليهم الرحال، وعلى رأسهم الشيخ أبي محمد صالح الماجري، هذا إضافة إلى كون الرباط كان يمارس نشاطه التعليمي والصوفي لوجود التلاميذ مع الشيوخ وتأدية الأوراد الراتبة، وهذا يبين النشاط الكبير لهذا الرباط زمن مؤسسه الشيخ أبي محمد صالح الماجري، الذي أنشأه بعدما رجع من المشرق، وقد أكدت المصادر انه شيده على شاكلة الخوانق المشرقية التي تتخذ أشكالا معمارية متميزة حيث مكان الشيخ والخادم، ثم مكان الصلاة وأماكن الجلوس والسقاية والمطبخ، وإذا ما علمنا أن أبا محمد صالح توفي في 631هـ، أمكننا القول أن هذا الرباط أسس في أواخر القرن السادس الهجري أو بداية القرن السابع، وقد امتد نشاطه منذ تأسيسه إلى مطلع القرن العاشر حيث خربه البرتغال وطمسوا مآثره. (انظر الخريطتين 1 و 5).
•    رباط تيطنفطر
بالرغم من أن التادلي ذكر هذا الرباط ثلاث مرات، إلا أنه لم يزد في التراجم الثلاث على قوله: ” … من أهل رباط تيطنفطر من بلاد أزمور”(40).
فإشارة ابن الزيات هنا لا تتعدى التحديد المكاني، وهو قرب الرباط من أزمور، إلا أنه ولحسن الحظ تحدثت بعض المصادر والدراسات عن هذا الرباط(41)، فهو من أقدم الرباطات المغربية، إذ يرجع عهده – حسب ما أورده الآزموري في البهجة- إلى ما قبل المرابطين استنادا للظهائر القديمة التي احتفظ بها بنو أمغار من زمن جدهم اسماعيل، ومكان هذا الرباط اليوم يقع على بعد بضعة أميال جنوبي الجديدة على شاطئ المحيط الأطلسي (انظر الخريطة 1 و 5)، وقد لعب هذا الرباط أدوارا مهمة طيلة تاريخ وجوده، سواء في المجالات الصوفية أم التعليمية أم الإقتصادية أم الإجتماعية أم السياسية أم العسكرية(42).
وتجدر الإشارة إلى أنه ارتبط بإحدى أكبر الأسر الصوفية المغربية، إنها أسرة آل أمغار التي قال عنها ابن قنفد إنها تتوارث الصلاح كما يتوارث الناس المال(43)، فقد أسسه جدهم إسماعيل أمغار في بداية القرن الخامس الهجري.
•    رباط إيسين
أشار إليه ابن الزيات في ترجمة أبي زكرياء يحيى بن ميمون الصنهاجي الأسود، حيث أخبر أنه “…من أهل رباط إيسين من بلد أزمور، وبه مات عام أحد وستمائة”(44).
الملاحظ هنا أيضا أن التادلي اكتفى بالتحديد المكاني للرباط، وهو انتماؤه لبلاد أزمور، مع إشارة زمنية تفيد قدم الرباط الذي يرجع تاريخه إلى ما قبل عام ستمائة للهجرة – سنة وفاة المترجم-، وإذا تتبعنا لفظة إيسين التي سمي بها الرباط، نجد أن أحد معانيها هو رباط الخيل، وربما كانت هذا إشارة إلى الوظيفة الدفاعية والعسكرية التي كانت لهذا الرباط، إلا أن هذا الاسم لم يعد معروفا بهذه المنطقة في الوقت الراهن. (انظر مكانه المفترض على الخريطة 1 و 5).

4-2-2 الرباطات الداخلية
•    رباط أوجدام
تمت الإشارة لهذا الرباط في ترجمة أبي محمد جَلِّدَاسن ابن أبي إسحاق الرَّكوني، عندما قال عنه التادلي: “صحب عبد الخالق بن ياسين، وكان من الأفراد، توفي ببلده برباط أوجدام من بلد ركونة عام سبعين وخمسمائة”(45).
ومن هذه الإشارة يتضح أن الرباط ينتمي لبلد ركونة، أي المنطقة التي توجد جنوب مراكش عند قدم جبل الأطلس الكبير، وهي ما يعرف اليوم بقبيلة احمر، أما عن تاريخه فيرجح أنه يرجع إلى منتصف القرن السادس الهجري لكونه ينسب لأبي محمد أوجدام الركوني المذكور في الترجمة والذي توفي في 570هـ، حيث سمي بلقبه الذي يعني الأقطع أو الأبتر، وتنطق أكجدام أو أغجدام، وقد كان هذا الشيخ أقطع اليدين، قال ابن الزيات:” سمعت أبا إبراهيم بن عبد العزيز يقول: كان أبو محمد جلداسن أقطع اليدين من الكفين، وسبب ذلك أنه صعد وهو صغير على شجرة تين فسقط عنها على كفيه فانكسرت يداه فاعتلتا حتى سقطتا، وكان مع ذلك يكتب في خلوة ولا يدرى كيف يكتب”(46). (انظر الخريطة 2 و5).
•    رباط تاسماطت
ويقال تامَسْطَتْ وتاسماط(47)، ذكره التادلي أربع مرات، إلا أنه على الرغم من ذلك، لم يشر لأي مواصفات تخصه ولا أنشطته أو أدواره، ففي الترجمتين الأوليتين لم يزد على أن الرجلين من أهل رباط تاسماطت(48)، في حين أشار في الترجمتين الأخريتين لمكان الرباط حيث ذكر أنه من عمل مراكش (49).
فالأكيد إذن أن الرباط قريب من مراكش، ويعد ضمن أعمالها، وقد أشار المحقق أنه يوجد ببلاد إيلان غير بعيد عن أيت ورير، لكن دون تحديد مكانه بالضبط حيث قال: ” لكنا لم نقف على الموقع بالرغم من التحري وهناك تامسماطت من فرقة إيسول من غجدامة”(50)، لكنه أعطى احتمالا في كون تاسماطت قد تكون هي ما يعرف اليوم بتانزَّاط التي كان لها ماض بناحية مراكش(51).
وقد أشار التادلي في ترجمة أبي تونَّارتْ الإيلاني إلى أن الرباط كان يضم مسجدا، أو كان هو مسجدا للمرابطة وتأدية الأوقات المفروضة، حيث قال: ” حدثوا عنه أنه كان يصلي العشاء الآخرة بجامع تاسماطت ويبيت مكة”(52)، ويؤكد ذلك ما جاء في ترجمة أبي إبراهيم بن ويعزَّان الذي كان ” ملازما لمسجد تاسماطت يواصل فيه سبعة أيام على الدوام …”(53).
وما هذه الإشارات إلا دليل على أن الرباط كان يعرف العديد من الأنشطة التعبدية (الصلاة، الاعتكاف، الانطلاق للحج…)، أما عن المعطيات الزمنية للرباط فتبقى غامضة، بحيث لا نعرف بالضبط فترة تأسيس الرباط، فالتادلي لم يذكر أي مؤشر زمني يخص المترجَمين الذين ذُكِر الرباط في متن ترجماتهم، مما يجعل هذه الفترة غامضة وغير محددة.
•    رباط شاكر
وهو من أشهر الرباطات المغربية وأهمها وأقدمها، وأكثرها ذكرا في كتاب التشوف، حيث ذُكِرإثنتا عشرة مرة، ولعل الخلاصة التي يمكن الخروج بها من خلال هذه التراجم، هي أن الرباط كان مجمع الصوفية ووجهتهم الأولى، وقد وفرت لنا هذه التراجم معلومات هامة عن هذه المعلمة الصوفية، وهي تعتبر أقدم وأصح ما عُرِف عنه، وقيل إن اسم الرباط منسوب ” لشاكر بن عبد الله الأزدي أحد مشاهير التابعين، دخل المغرب مع عقبة بن نافع الفهري، فخلفه عقبة يعلم المصامدة وغيرهم”(54).
وقد كان هذا الرباط مجمع صلحاء المغرب وصوفيته، لاسيما في شهر رمضان، وبخاصة ليلة السابع والعشرين من أجل ختم القرآن الكريم، فكان يحضر به العلماء والفقهاء والمريدون من جميع مناحي المغرب، ويقيمون به موسما سنويا في مثل هذه اليلة من كل سنة، وقد أشار ابن الزيات إلى أنه حضره ودوَّن أخبارا عن الحياة العلمية والدينية هناك، كما أشار إلى حلقات الذكر الجماعية التي كانت تقام به، هذا إضافة لمنابر الوعظ والإرشاد التي كانت قائمة به لنشر الإسلام، وما كان لها من علو شأن، ورفعة ومكانة العلماء الذين كانوا يصعدونها، يقول ابن الزيات عن أبي محمد بن يجلي بن موسى الدغوغي: ” كان واعضا برباط شاكر، في وقت لا يصعد منبر شاكر إلا الآحاد”(55).
وهذا إنما يدل على المكانة الرفيعة التي كانت لهذا الرباط، مما جعله يستقطب أشهر العلماء والمتصوفة، وهو ما تبرزه تراجم التشوف بشكل واضح، خاصة ما كان يصدر عنهم من كرامات وخوارق، والأكثر من ذلك أن هذه الأشياء لم تكن حكرا على الرجال، بل هي شاملة للرجال والنساء على حد سواء، فقد قال ابن الزيات في رواية عن أبي عبد الله محمد بن خالص الأنصاري أن منية بنت ميمون الدكالي قالت: ” حَضَرَتْ هذا العام بهذا الرباط ألف امرأة من الأولياء”(56).
كما أن المريدين والعامة كانوا يقصدونه للقاء الصالحين والتفقه في الدين، ومثال ذلك ما أخبر ابن الزيات عن أبي محمد عبد الله محمد بن موسى الأزكاني: ” ففر إلى الله تعالى وساح في طلب الصالحين برباط شاكر وغيره”(57).
وهذا الرباط واحد من الرباطات الداخلية التي أنشئت على هوامش المناطق السهلية التي كانت تحتلها القبائل البورغواطية، وكان به مسجد كبير قيل إن يعلى بن مصلين الركراكي هو من بناه، عندما كان يقاتل البورغواطيين في نهاية المائة الرابعة للهجرة، مما يعني أن الرباط كان في بداياته محجا للمجاهدين أكثر منه موطنا للزهاد والعباد.
ويوجد الرباط اليوم بقرية سيدي شيكر بجانب المسجد العتيق المعروف بالرباط، وقيل إن سيدي شيكر هذا هو ولد يعلى بن واطل أحد رجال ركراكة السبعة، والمسافة بين رباط شاكر ومراكش 85 كلم، منها 56 في الطريق الصويرية، ثم ترجع إلى اليمين فتصل تانسيفت بعد قطع 21 كلم، ثم تصل رباط شاكر بعد قطع 8 كلم، فإذا أردت الرجوع إلى مراكش على طريق الشماعية، فمن رباط شاكر إليها 42 كلم، ومن الشماعية إلى مراكش 81 كلم(58).(انظر الخريطة 2 و5).
•    رباط عقبة
ذكره ابن الزيات في ترجمة أبي يلجوط تونارت بن واجُرَّام الهزميري فقال: “حدثني أبو علي عمر بن يحيى قال: حضرت ليلة برباط عقبة من بلد نفيس…”(59).
فكما هو واضح فالمقصود هنا الرباط الموجود ببلاد نفيس، وكان يطلق عليه رباط عقبة وأيضا رباط نفيس، وسمي بالاسم الأول لاعتقاد بعض المؤرخين أن عقبة قد بنى به مسجدا، كالبكري الذي سماه كذلك وجعله على واد نفيس على الطريق بين أغمات وكوز، يقول البكري عن مسجد هذا الرباط ومدينة نفيس التي كان بها: “وهي مدينة قديمة أزلية غزاها عقبة بن نافع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصر بها الروم ونصارى البربر… حتى فتحها وبنى بها مسجدا … بينها وبين أغمات 35 ميلا “(60). وأطلق عليه البيدق أيضا التسميتين معا، وقال عنه: “هو الذي كان قائما في القرن 5هـ”(61).
وهناك إشارة زمنية في التشوف تؤكد وجود الرباط في القرن 5هـ، فالمترجم المذكور توفي في رباط نفيس في 608هـ، كما تبين هذه الترجمة ما كان يعرفه هذا الرباط من دروس وعظية يلقيها المتصوفة على المصامدة وغيرهم في مواضيع الزهد والإقبال على الآخرة، مما يعني أنه كان بدوره مجمعا للصوفية ومحلا للتربية والتعليم.
ومكان الرباط اليوم يوجد قرب ما يعرف بدركالة الموجودة حاليا في بلد إنْتِيغْرن، وهي قريبة من سد لالة تاكركوست الشهير على واد نفيس. (انظر الخريطة 2).
•    رباط تانوتن طهير
ذكره التادلي في الترجمة الخاصة بأبي محمد زمور أبي يعلى الهزرجي الذي ” أقام مدة برباط تانوتن طهير من دكالة ثم قدم مراكش “(62).
وقد رسم اسمه في إحدى نسخ التشوف(63): تانوت انْطْبِير، ويعني بئر الحمام، وفي نسخته الأميرية(64): اسمه تانوت نْطَّيْر أي بئر الطير.
فالرباط إذن ينتمي لبلاد دكالة، لكن هذا الاسم لم يعد موجودا اليوم، وأقرب اسم له هو تانوتين الذي يعني الآبار الصغيرة، والمُعَرَّب بـ (مائة بير وبير)، مما يرجح أن الرباط كان بهذا المكان من بلاد هزرجة بين أغمات وريكة ومسفيوة، أما عن تاريخه فلا نملك معلومات مدققة عن مؤسسه ولا تاريخ ذلك، إلا أنه كان موجودا قبل منتصف القرن السادس الهجري لكون المترجم الذي أقام به مدة توفي في 555هـ. (انظر الخريطة 1).
•    رباط حكـم
ذُكِر أيضا مرة واحدة في ترجمة أبي الأمان ابن يلاَّرزج الهسكوري الأسود الذي قال عنه ابن الزيات: ” مات عام أربعين وخمسمائة، ودفن برباط حكم من بلد هسكورة “(65).
فالواضح من الترجمة أن الرباط كان قائما قبل 540هـ، مما يعني أنه من الرباطات القديمة التي يرجع تاريخها للعهد المرابطي، كما أنه ينتمي لبلاد هسكورة أي المنطقة الواقعة بين تادلة ودكالة حيث كان مدفنا للأولياء والعلماء، ومكانه اليوم في سهل السراغنة بين دمنات وقلعة السراغنة قرب تاغرودين. (انظر الخريطة 1 و 5).
•    رباط ملولاسن
أحد الرباطات التي لم يقدم عنها التشوف الكثير، أشار إليه ابن الزيات في ترجمته لأم عصفور تيعزات بنت حسين الهنتيفي(66)، التي ذكر أنها من أهل هذا الرباط، ولم يذكر تاريخ وفاتها ولا ما كانت تقوم به هناك.
أما عن مكانه فينتمي لبلاد هسكورة، وهو قريب من هنتيفة، المكان المعروف اليوم بفم الجمعة الموجود بين بزو وتنانت التابعة إداريا لإقليم أزيلال. (انظر الخريطة 4 و 5).

خاتمــة
تجدر الإشارة في الختام إلى أنني اقتصرت على ذكر الرابطات والرباطات التي نعتها ابن الزيات التادلي بوصف: رابطة أو رباط، وإلا فهناك رابطات ورباطات أخرى عُرِفت زمن المؤلف أو قبله ولم يذكرها، مثل رباطات سلا والتي قيل إنها كانت تجمع مائة ألف من المجاهدين الذين كانوا يتطوعون لمحاربة البورغواطيين، ثم رباط ماسة من قبائل المصامدة، وغيرها من الرباطات، هذا دون أن ننسى أن بعض الرباطات كانت توصف بمسميات أخرى، مثل رباط وكاد بن زلو اللمطي الذي كان يُعرف بدار المرابطين(67)، ورباط أكوز من بلاد رجراجة والذي نعته المؤلف بقرية أكوز، مشيرا إلى أنها كانت مرسى على البحر يقيم بها العامل، كما كان بها مسجد وسجن.
وعلى العموم فأول ما يمكن الخلوص إليه في ختام هذا العرض هو قدم الظاهرة الصوفية بالمغرب، وبالتالي قدم مؤسساتها المتمثلة خاصة في الرابطات والرباطات، حيث شكلت هذه الأخيرة أداة فعالة لتركيز العقيدة الإسلامية في هذه البلاد من خلال تأطيرها الجهادي والسياسي، هذا إضافة لمساهمتها المهمة في نشر التثقيف الديني والعلمي والصوفي، ولطالما مثلت هذه المراكز نواة لقيام مدن ومراكز حضارية.
أما فيما يخص كتاب التشوف إلى رجال التصوف، الذي اشتغلنا عليه في هذا البحث، فعلى الرغم مما فيه من شح المعلومات المتعلقة بالرباطات والتي جاء أغلبها على شكل تلميحات هامشية، فإنه يبقى مصدرا مهما وأساسيا في كشف الغطاء عن حقبة مهمة من تاريخ التصوف المغربي، بل يعتبر هذا الكتاب المرجع الأساس في أخبار بعض الرباطات كرباط شاكر، ويكفينا دليلا على أهميته إيرادُه لأسماء العديد من الرباطات التي لم يذكرها غيره والتحديدات المكانية لها، لكن الاعتماد عليه لوحده في دراسة الرباطات في المغرب غير كاف لتقديم دراسة شافية شاملة حولها، لذلك يحتاج الباحث للاستعانة بغيره من المصادر والمراجع لتعضيد آرائه ومعلوماته، وملء الفراغات والثقوب التي قد يتركها في الإحاطة بمعرفة خصائص ووظائف هذا الرباط أو ذاك.

—————————————

الهوامش

* أستاذ باحث، متخصص في تاريخ التصوف المغربي، ابن أحمد.
1 – نشر هذا المقال بمجلة دعوة الحق التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ضمن عددها الخاص بالتصوف المغربي (عدد 395 أبريل 2010).
2 – من أقدم مصادر التصوف المغربي التي ظهرت لحد الآن نجد كتاب: المستفاد في مناقب العباد بمدينة فاس وما يليها من البلاد، لأبي عبد الله محمد بن عبد الكريم التميمي الفاسي (ت 03/604هـ)، حيث ظهرت منه نسخة وحيدة ومبتورة قام بتحقيقها محمد الشريف في إطار أطروحته لنيل دكتوراه الدولة في الآداب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، وقد صدر سنة 2002م ضمن منشورات الكلية المذكورة في جزأين، الأول خاص بدراسة المحقق، والثاني يشتمل متن المستفاد.
3 – تم الاعتماد على  الخريطة التي أنجزها المحقق مع بعض التصرف والتصويب.
4 – ترجمته عند:
–    التنبكتي، أحمد بابا ، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، مكتبة الثقافة الدينية، ط 1، 1422هـ/ 2003م، ج 2، ص 325.
–    التنبكتي، أحمد بابا ، كفاية المحتاج لمعرفة من ليس في الديباج، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1421هـ/ 2000م، ج 2، ص 265، ترجمة 674.
–    مخلوف، محمد بن محمد، شجرة النور الزكية، دار الفكر، دون تاريخ، ص 185، رقم 612.
–    الزركلي خير الدين، الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1998م، ج 8، ص 257.
–    ابن إبراهيم، العباس بن محمد بن محمد السملالي المراكشي، الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، تحقيق عبد الوهاب ابن منصور، المطبعة الملكية الرباط، 1403هـ/ 1983م ، ج 10، ص 394، رقم 1639.
–    ابن سودة عبد السلام، دليل مؤرخ المغرب الأقصى، ج 1، ص 221، رقم 1019.
–    بروفنصال ليفي، مؤرخوا الشرفاء، تعريب عبد القادر خلادي، دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، 1397هـ/ 1977، ص 152.
–    ابن المؤقت، محمد بن محمد بن عبد الله المسفيوي المراكشي، السعادة الأبدية بمشاهير الحضرة المراكشية، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، بتقديم وتحقيق حسن جلاب/ أحمد متفكر، الطبعة الأولى سنة 1423هـ/ 2002م، ج 1، ص 246، ترجمة 195.
5 – هذا الأمر أوقع عددا من الدارسين والقراء في الخلط في تاريخ وفاة المؤلف، إذ غالبا ما يثبت الباحثون سنة 617هـ بجانب ابن الزيات، مما يوهم أنها سنة وفاته، انظر مثلا مقال: شعرية التصوف، قراءة في كتاب التشوف لابن الزيات، ضمن اعمال الملتقى العلمي لمنطقة تادلة الذي نظمته كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، أيام 15، 16، 17 أبريل 1992م، والذي نشرته الكلية المذكورة في 1993م.
6 – ذكره الفيروز آبادي (ت 817هـ)، في كتابه: البلغة في تاريخ أئمة اللغة، راجع الترجمة 421 من طبعة دمشق بتحقيق محمد المصري. وأيضا السيوطي في بغية الوعاة، انظر الترجمة 2200 من طبعة القاهرة بتحقيق أبي الفضل إبراهيم. وحاجي خليفة في كشف الظنون…، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ/ 1992م، ج 2، ص 1790.
7 – راجع: الغبريني، عنوان الدراية في من عرف في المائة السابعة ببجاية، تحقيق عادل النويهض، طبعة بيروت، ص 50.
8 – ابن الزيات التادلي، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، تحقيق أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، الطبعة الثانية، 1997م ، المقدمة، ص 41.
9 – المصدر نفـسه ، ص 13.
10 – نفســه، راجع التراجم: 140، 143، 157، 183، 197…إلخ.
11 – ذكر المحقق أن التادلي ترجم لمائتين وتسعة وسبعين من الرجال والنساء (279)، لكن الحقيقة أنه لم يترجم إلا لمائتين وسبعة وسبعين (277). راجع، ابن الزيات التادلي، التشوف…، مصدر سابق ، ص 13.
12 – من أهم المناطق التي ينتمون إليها: مراكش وأغمات وتادلة وهسكورة ودكالة وفاس ومكناس وسجلماسة وسبتة وسلا وبجاية وتلمسان…إلخ.
13 – فيه إشارة واحدة إلى أبي محمد صالح الماجري وهو ساعتئذ من الأحياء، قال ابن الزيات: « ولم أتعرض فيه لأحد من الأحياء، وأكبر من في وقتنا هذا ممن هو حي الشيخ الصالح الصوفي أبو محمد صالح بن ينصارن بن غفيان الدكالي ثم الماجري نزيل رباط آسفي»، المقدمة، ص 41.
14 – راجع: عبد السلام ابن سودة، دليل مؤرخ المغرب الأقصى، البيضاء 1960م، ص 257. وانظر ترجمة ابن علوان المصري عند: أحمد بابا التنبكي، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، طبعة بيروت، ص 74.
15 – راجع: محمد المختار السوسي، سوس العالمة، طبعة البيضاء، ص 184.
16 – ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ج 7، ص 303.
17 – ســـورة آل عمــران، الآية: 200.
18 – ســــورة الأنفال، الآيـة: 60.
19 – الحديث رواه مسلم في صحيحه، والترمذي في سننه، والنسائي في سننه، والإمام أحمد في المسند، والإمام مالك في الموطأ، وغيرهم.
20 – ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج7 ، ص 304.
21 – ابن الزيات، مصدر سابق، ص 433
22 – الماجري، أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن أبي محمد صالح، المنهاج الواضح في تحقيق كرامات أبي محمد صالح، القاهرة، 1332هـ، ص114، والصفحة 177 من النسخة المخطوطة بالخزانة العامة بالرباط رقم د 674.
23 – ابن الزيات، مصدر سابق، الترجمة 48، ص 166.
24 – المصدر نفسه، هامش 308.
25 – الإدريسي، نزهة المشتاق، الجزائر 1957م، ص 48.
26 – ابن الزيات التادلي، مصدر سابق، ص 207.
27 – نفســه، هامش 448.
28 – نفســه، ترجمة 149، ص 305.
29 – حسن جلاب، بحوث في التصوف المغربي، طبعة مراكش، الأولى: 1416هـ/ 1995م، ص 32.
30 – ابن الزيات التادلي، مصدر سابق، ص 312.
31 – نفســـه، ص 343.
32 – نفســـه، ترجمة 191، ص 368.
33 – نفســه، هامش 148.
34 – نفســه، ص 412.
35 – نفســه، ترجمة 13، ص 110.
36 – نفســه ، ص 330.
37 – نفســه، ص 41.
38 – نفســه، ص 433.
39 – نفســه، ص 439.
40 – ابن الزيات التادلي، مصدر سابق ، الصفحات: 209، 233، 426.
41 – راجع: – الآزموري، محمد بن عبد العظيم، بهجة الناظرين وأنس الحاضرين ووسيلة رب العالمين في مناقب رجال أمغار الصالحين، نسخة
مخطوطة بالخزانة العامة بالرباط، رقم د 1501، ك 2877 وغيرها في عدة مواطن.
– الحسن بن محمد الوزان، وصف افريقيا، الرباط 1980م، ج1، ص 120.
– Basset )H( et Terrasse )H( :  »sunctuaires et forterresse almohades: le ribat de Tit«  hesperis 1927 .
42 – راجع في هذا الصدد: محمد المازوني، رباط تيط: من التأسيس إلى ظهور الحركة الجزولية ، ضمن الرباطات والزوايا في تاريخ المغرب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1997م، ص 25.
43 – ابن قنفد، أبو العباس أحمد، أنس الفقير وعز الحقير، منشورات المعهد العالي للبحث العلمي بالرباط، بعناية أدولف فور، 1965م، ص 22.
44 – ابن الزيات التادلي، مصدر سابق، الترجمة 238.
45 – نفســه، الترجمة 80، ص 227.
46 – نفســه، ص 227.
47 – راجع: عبد العزيز بنعبد الله، معطيات الحظارة المغربية، دار الكتب العربية، الرباط 1963م، ج1، ص 146.
48 – ابن الزيات التادلي، مصدر سابق، الترجمة 57 (ص 181)، والترجمة 90 (ص 235).
49 – نفســه، ص 164، 208.
50 – نفســه، هامش 301-302، ص 164.
51 – نفســه، هامش 304، ص 165.
52 – نفســه، ص 164.
53 – نفســه، ص 236.
54 – ابن إبراهيم، العباس المراكشي، الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، م س، ج3، ص 132.
55 – ابن الزيات التادلي، مصدر سابق، ص 402.
56 – ابن الزيات التادلي، مصدر سابق، ص 316.
57 – نفســه، ص 365.
58 – ابن إبراهيم العباس المراكشي، الإعلام …، م س، ج5، ص 132.
59 – ابن الزيات التادلي، مصدر سابق، ترجمة 223، ص 400.
60 – البكري، المسالك والممالك، ص 38.
61 – البيدق، أخبار المهدي، طبعة دار المنصور الرباط، ص 92.
62 – ابن الزيات التادلي، مصدر سابق،  ص 225.
63 – هي النسخة التي ذكرها عبد الله عنان في فهرسه برقم 4354.
64 – أي التي كانت للأمير عبد الله الواثق، والتي كان محتفظا بها بخزانة الكلاوي برقم 859.
65 – ابن الزيات التادلي، مصدر سابق، ص 152.
66 – ابن الزيات التادلي، مصدر سابق، ص 388.
67 – نفســه، ترجمة 5، ص 89.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *