إصلاح ذات البين-2-

الحمد لله، الحمد لله الذي أمر بإصلاح ذات البين، ونهى عن الإفساد بين المجتمعين، فقال وهو أصدق القائلين: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين)، نحمده سبحانه وتعالى حمد الشاكرين، ونسأله التوفيق والسداد في كل حين،

ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم، القائل في كتابه المبين: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك  ابتغاء مرضاة الله فسوف نوتيه أجرا عظيما)،
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المصطفى الكريم، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات،
في الجمعة الماضية تكلمنا عن فضل إصلاح ذات البين التي حث عليها ديننا الإسلامي للحفاظ على لحمة المسلمين مجتمعة متآخية، وبيننا أن هذا العمل يفضل عبادات كبيرة كالصلاة و الصيام والصدقة، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة”، وأن الله تعالى يحب من عباده من يسعى للصلح والعفو، وأنه تعالى  يصلح بين العباد، وهو سبحانه أمر عباده بالمبادرة للصلح بين المتخاصمين، فقال وهو أصدق القائلين: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله،  فإن فاءت فأصلحوا يبينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)،
ذلكم أيها المسلمون أن المصالحة هنا تعني وقف الصراع والقتال وحقن الدماء وتوفير المال، وتوفير الجهد والطاقة، وتنجي من الكوارث التي تقضي على الحياة الطبيعية التي ينشدها الإنسان.
ويلي ذلك مرتبة  إصلاح ما بين الزوج وزوجه لتوفير حياة آمنة للأولاد واستقرار للأسرة،وتأصيل للعلاقة العائلية والجو الأسري بوجه عام، ومن أجل إبقاء العلاقات حسنة بين الناس كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري قائلا له: “رد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن”، وقال  لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: “ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله؟ تصلح بين أناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا”،

 

أيها المسلمون: من تصدى للإصلاح بين الناس فعليه أن يخلص نيته لله تعالى، ولا ينشد ثناء الناس وشكرهم؛ فإن هذه المهمة الجليلة مظنة للسؤدد والرفعة والثناء، وقد يدخل الشيطان من خلالها على العبد فيفسد نيته، والله تعالى يقول في الإصلاح بين الناس: “وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا”،  وعليه أن يستعين بالله سبحانه على مهمته، ويسأله تأليف قلبي صاحبيه، وإلانتهما لقبول مبادرته؛ فإن القلوب بيده عز وجل يقلبها كيف يشاء، وهو يقربها ويباعدها، ولا عون له في صلحه إلا بالله تعالى، وعلى الساعي بالإصلاح أن يتحرى العدل في صلحه، فلا يميل لأحد الخصمين لقوته ونفوذه، أو لإلحاحه وعناده، فيظلم الآخر لحسابه، فيتحول من مصلح إلى ظالم، ولا سيما إذا ارتضاه الخصمان حكما بينهما فمال إلى أحدهما، وقد أمر الله تعالى بالعدل بين الخصوم في قوله سبحانه (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ)، وليتسلح في إصلاحه بالعلم الشرعي، أو سؤال أهل العلم ما يحتاج إلى سؤال، فإن كان الخلاف على مال أو إرث أو أرض فلا بد أن يعرف حكم الشريعة في ذلك قبل أن يُقْدِم على الصلح، وله أن يُقَرِّب بين الخصمين، ويقنعهما بالصلح، ثم يختار لهما حكما من أهل العلم يرضيانه،
وإن كان الخلاف بين زوجين فلا بد أن يعلم بالحقوق الشرعية للزوجين، ليتبين الظالم من المظلوم، والمخطئ من المصيب، فينبه الظالم على ظلمه، ويدل المخطئ على خطئه.
ومن فقه المصلح أن يختار الوقت المناسب للصلح، فلا يبادر إلى الصلح عقب التشاتم والتعارك والتقاتل، بل يتربص بقدر ما يسكن الخصمان، ويعودان إلى رشدهما، وتذهب سورة الغضب، وتضعف دواعي الانتقام، فيلقي بمبادرته إليهما.
وعليه أيضا أن يَجِدَّ في قطع الطريق على النمامين ونقلة الكلام الذين يعجبهم أن تسود البغضاء بين الناس، فإنهم ينشطون في الأزمات لبث الشائعات، ونقل الكلام، فَيُحَذِّر الخصمين من الاستماع إلى أراجيفهم، ويثبت لهما كذبهم، وما يريدونه من الإفساد والوقيعة بينهما، وعليه أن يختار من الكلام أحسنه، ويرقق قلبيهما، ويبين لهما حقارة الدنيا وما فيها فلا تستحق أن يتعادى الإخوان من أجلها، ولا أن تقطع القرابة بسببها، ويذكرهما بالموت وما بعده من الحساب، وعليه أن يعظهما بنصوص الكتاب والسنة فإنهما أعظم زاجر للمؤمن، فيذكرهما بأن أعمالهما الصالحة موقوفة عن العرض على الله تعالى، وأنه سبحانه يُنْظرُهما إلى أن يصطلحا، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا” رواه مسلم.
اللهم أصلح ذات بيننا، واهدنا إلى إصلاح أنفسنا، واجمعنا على الخير ما أحييتنا، فإنك على كل شيء قدير، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، إذا كان الله عز وجل يقوم بدور الإصلاح بين الناس يوم القيامة فيأخذ من حق هذا لذاك، ويصلح بين الأخ وأخيه، ويطلب من صاحب الحق أن يعفو عمن ظلمه، أليس أولى بنا ونحن ما زلنا في الحياة الدنيا، نطلب رحمة الله ورضوانه، ونعمل ليوم تجد فيه كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه  أمدا بعيدا، ألا يجدر بنا أن نقوم بهذا الدور قبل فوات الفرصة وتضييع القدرة، قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار، وليس أسهل من قيام العاقل المؤمن بالجزاء بهذا الدور إذا أصلح سريرته وأخلص نيته، وأصدق كلمته، وما أيسر ذلك إذا أخذ نفسه بالفطرة السليمة ومقتضيات العدل مع النفس ومع الناس، واعلموا أن طريق الإصلاح بين واضح، وهو طريق يؤدي إلى السلامة في الدنيا والنجاة من عذاب النار واستوجب ثواب شهيد، فعن محمد ابن المنكدر قال: تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما فلم أزل بهما حتى اصطلحا، فقال أبو هريرة رضي الله عنه وهو يراني: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد”،
فحاول أخي المؤمن أن تكون من السباقين إلى إصلاح ذات البين لتنال ما عند الله من ثواب عظيم وتفوز بخير الدنيا والدين، وتكون من المتخلقين بأخلاق القرآن الكريم، المتبعين لشريعة النبي العظيم في كل وقت وحين، قال الله تعالى: “وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا  فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا، والصلح خير، وأحضرت الأنفس الشح، وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا”،
الدعاء.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *