خطبة “الشتاء ربيع المؤمن” في جزئها الرابع والأخير
الحمد لله، الحمد لله حمدا يليق بجلاله وقدرته، خلق الخلق لشكره وذكره وعبادته، القائل: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون،
إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين”،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل لعباده المؤمنين مواسم يتقربون إليه فيها بأنواع الطاعات ويتطهرون بها من أدران السيئات، وسن لهم أياما يجعلونها مطية لإكثار من أنواع القربات ويشكرونه خلالها على ما أنعم به عليهم من صنوف المكرمات، دعانا للتعرف عليه والتفكر في آلائه آناء الليل وأطراف النهار، القائل: “إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لاَيَـٰتٍ لاِوْلِى ٱلاْلْبَـٰبِ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار”، نحمده تعالى ونشكره على نعم لا تزال تتوالى على ممر الأوقات،
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أول مسارع لفعل الخيرات، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين كانوا سباقين إلى اغتنام الأوقات للإكثار من فعل الخيرات وترك المنكرات والتقرب إلى بارئ الأرض والسماوات، وسلم تسليما كثيرا ما غشيت العباد الرحمات،
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون، في الجمع الماضية تكلمنا عن فضل فصل الشتاء، وأنه كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: “الشتاء ربيع المؤمن”، إذ طال ليله للمحبين فقاموه بالذكر والتفكر وترتيل كتاب الله والخلوة مع الله ، وقصر نهاره فصاموه تقربا لله، واليوم بإذن الله تعالى بعد أن تكلمنا في الجمع الماضية عن قيام الليل والوسائل المعينة عليه، نسلط الضوء على خير الأعمال التي نستغل بها نهار فصل الشتاء، لنغتنم هذا الفصل بأنواع العبادات.
أخي المؤمن، إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع خلال أيامه ولياليه في بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة، ومن الغنائم التي ينبغي الحرص عليها في هذا الفصل المبارك الإكثار من الصيام، ففي الصحيح أخرج الإمام الترمذي بسنده عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم: “الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة”، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: “ألا أدلكم على الغنيمة الباردة، الصيام في الشتاء وقيام ليل الشتاء”، وذلك لأن المؤمن يقدر على صيام نهار هذا الفصل من غير أن يحس بمشقة الصيام، وكلفة الجوع والعطش، فالصوم في الشتاء البارد لا يحس فيه الصائم بالعطش لبرودة الجو ولا بألم الجوع لقصر النهار،
فأين من يبحث عن الثواب الجزيل بلا تعب كثير خاصة النساء اللائي أفطرن في شهر رمضان خلال دورتهن الشهرية أو بسبب الحمل أو الوضع حيث أباح لهن الشارع الإفطار لهذه الأعذار، وطالبهن بالتعويض في أيام أخر، حيث قال سبحانه: “ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”، فهاهي أيام اليسر قد أقبلت، فتنافسن في قضاء ما عليكن من دين الصيام، وليعمل أزواجكن وأبناؤكن على التعاون معكن فتصوموا جميعا وتتعاونوا جميعا على هذا الفضل، وكذلك الرجال الذين كانت لهم أعذار من مرض أو سفر، روى الترمذي بإسناد حسن عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض” ، وأخرج النسائي بإسناد صحيح عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين جهنم مسيرة مائة عام”،
أيها المؤمنون، بعد القيام والصيام هناك بابا ينبغي أن نعيره كامل اهتمامنا، إنه باب إسداء النفع لإخواننا الفقراء والمعوزين في أطراف مدينتنا وفي أماكن أخرى من بلدنا، فللفقراء والأرامل واليتامى علينا حقٌ دائم، ويتأكد هذا الحق في الأزمات والملمّات، وفي النكبات والصعوبات، ومن ذلك أن نرحمهم ونعطف عليهم مع برد الشتاء، وتقلب الأحوال، فلقد شرع الإسلام التكافل المالي بين المسلمين وإسعاف ذوي الحاجات منهم والسعي لسد حاجاتهم، فمن الناس من لا يملك ما يدفع عن نفسه ضرر هذا البرد فهاهي الفرصة قد سنحت لأهل الخير والثراء والأغنياء ليتفقدوا جيرانهم وأقاربهم، والطلبة في المدارس العتيقة بتخوم الجبال، وضحايا الفيضانات يتفقدونهم بالملابس والأغطية والمدافئ والتموين والغذاء، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له”، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الأشعريين جزاء صنيعهم حيث قال صلى الله عليه وسلم: “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم” .
جعلني الله وإياكم من الموفقين ، الممدوحين بقول الله العلي الكريم، “تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءا بما كانوا يعملون”، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، لقد عرف المغاربة منذ اعتناقهم لدين الإسلام بأريحيتهم، ومسابقتهم للخيرات، ومنافستهم في أعمال البر والإحسان، وما أكثر إخواننا الذين يضحون بأموالهم وبأوقاتهم لنفع الآخرين في أماكن نائية من بلدنا شماله وجنوبه، والقيام بحاجات طلبة العلم في المدارس العتيقة وذلك بعمارتها وتجهيزها والإنفاق عليها من حر أموالهم ابتغاء مرضاة الله، ولن تعدم الأمة أمثال هؤلاء، من أهل الفضل ممن يتشوقون إلى الانخراط في مثل هذه الأعمال الجليلة والصدقات الجارية، ولكنهم لا يجدون من يعينهم على إيصال هذه النفقات، فلنتعاون جميعاً على ذلك، ولنرشد الأثرياء إلى الفقراء، ولنرفع حاجة من لا يستطيع رفعها، فإن هناك من لا يسأل الناس إلحافاً وهم معروفون بسيماهم لا يخفون على من يريد البذل والإحسان.
وأخيراً، أختي المؤمنة، أخي المؤمن، لست وحدك، فإذا وفقك الله للأعمال الصالحة من قيام لليل ، وصيام بالنهار، وإسعاف لذوي الحاجات بما تستطيعه من إطعام وكسوة وإنفاق، فلتعلم أن الله يحبك، وأنه ينبغي عليك أن تدل أصحابك للحذو حذوك وللعمل الصالح مثلك، “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”.
الدعاء…