فضل بناء المساجد

الحمد لله، الحمد لله الذي جعل المساجد بيوتا للعبادة، وأضافها لنفسه تشريفا لقدرها واعتناءا بشأنها، وجعل ذلك من صفات المؤمنين الآخذين بأسباب السعادة، فقال: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)،

وحث على عمارتها تسهيلا للعبادة، وأثنى على من أحياها ببناء أو زيادة، وجعلها موضع التجلي والتحلي والمدارسة، نحمده تعالى ونسأله إمداده زتوفيقه وإرشاده،
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، إمام الأنبياء وسيد الأتقياء، والشفيع يوم القيامة، اللهم صل وسلم على  سيدنا محمد خير الأنام، أول من أسس المساجد في الإسلام، وعلى آله وصحبه الذين أثنى عليهم رب الأنام، (رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)، أما بعد،
فيقول الله تبارك وتعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)،
عباد الله، إن عمارة وبناء المساجد من شعائر الدين، والعناية بها من أوصاف المؤمنين الذين يسارعون إلى مغفرة من ربهم (وجنة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينن)، وما ينفق من مال في بناء المساجد وما تحتاج إليه من مرافق كالإمامة والتأذين والفراش والتطهير، لا يفعله إلا الأغنياء المحسنون الذين يؤمنون بالله ويصدقون بيوم الدين، فطوبى لمن رزقه الله مالا حلالا يعمر به المساجد والمدارس والمستشفيات، ويطعم به القانه والمعتر والبائس الفقير، وذوي الحاجات، وطوبى لمن بنى مسجدا لله يبتغي به وجه الله تعالى وعلو الدرجات، فبنى الله له بيتا في الجنة مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “من بنى مسجدا لله صغيرا كان أو كبيرا بنى الله له بيتا في الجنة”، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن مما يلحق المرء من عمله وحسناته بعد موته علما علمه وتشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مسجا أو بيتا لإبن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته”، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: “ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها، فمن بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة، فقال رجل يا رسول الله، وهذه المساجد التي تبنى في الطريق؟ فقال نعم، وإخراج القمامة منها مهمور الحور العين”،
وعن أبي أمامة وأبي الدرداء وواثلة أبي الأسقع رضي الله عنهم أجمعين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجمع”.
وهكذا أيها الإخوة المؤمنون ينبغي أن تكون بيوت الله في غاية النزاهة والنظافة والتطهير لأنها تشيد للصلاة والإعتكاف وتلاوة القرآن وذكر الله ومجالسة العلماء آناء الليل وأطراف النهار، ومن أجل ذلك فقد لعب المسجد في تاريخ المسلمين دورا هاما، واحتل مكانة رفيعة، فهو جامعتهم الشعبية للتثقيف والتهذيب، وبرلمانهم للتشاور والتفاهم، ومجمعهم للتعارف والتحابب، فأي جامعة كالمسجد تسع الجميع في رحابها الليل والنهار، والصيف والشتاء، لا ترد طالبا ولا تشترط رسوما ولا تأمينا ولا قيودا ولا عراقيل في طريقها لأحد، وأي جامعة كالمسجد تعلم قواعد العقائد وفرائض العبادات ومكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وطرائق المعاملات، وتعقد فيها للعلم حلقات تغشاها الرحمة، وتنزل عليها السكينة وتحفها الملائكة؟
ولم تكن حلقات المسجد مقصورة على علوم الدين، بل شغلت كل ما وصل إليه العقل البشري من معارف أدبية وإنسانية، فمنذ صدر الإسلام نرى حلقة كحاقة حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما تتسع لعلوم ومعارف مختلفة بفرد لكل منها يوما، ولا غرو أن ينشأ العلم موصلا بالعبادة، وأن تنمو الجامعات العريقة تحت سقوف الجوامع، فمن منا يجهل المكانة العلمية لجامع القرويين بفاس؟ وابن يوسف بمراكش، والزيتونة بتونس، والأزهر بمصر، وما قدمته هذه الجوامع والجامعات من خدمة للعلم والثقافة قرونا طويلة وما تزال؟، وأي برلمان كهذا المسجد الذي يعقد جلساته في كل يوم خمس مرات، ونوابه هم “التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله”؟، وأي محمع كالمسجد يجمع خلاصة الحي في كل صلاة، وصفوة البلد في كل جمعة؟،
ومن أجل هذا كله دعا الإسلام أبناءه إلى الجماعة ليتعارفوا فلا يتناكروا، ويتقاربوا فلا يتباعدوا، ويتحابوا فلا يتباغضوا، ويتصافوا فلا يتجافوا، ولقد عرف أسلافنا قيمة المسجد فكانوا يعقدون فيه عقود زواجهم امتثالا للحديث الشريف: “اعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف”،
وأي معهد للتربية والتعليم كالمسجد؟ فيه تخرج كبار الصحابة في القيادات العلمية والحربية، وفي كل علم وميدان، وقادة الفكر والتخصصات في أبواب القضاء والبيان، فمن المسجد تخرج أبو بكر وعمر وعثمان وعلي حاملين درجة الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه تخرج زيد بن ثابث وابن عباس يحملان وسام العلم والعمل، ومنه تخرج أبو هريرة يحمل لواء الحديث، ومنه تخرج خالد بن الوليد يحمل أكبر وسام عسكري في الإسلام –سيف الله- فغزا  أكثر من مائة غزوة لم تنكس له راية ولم ينهزم له جيش،
ولم بقتصر المسجد على هؤلاء وأضرابهم، ولكن تخرج فيه من النساء من صرن في المجتمع الإسلامي ثريات تضيء دياجير الظلام أمثال فاطمة الزهراء، وعائشة، وحفصة، وأم عمارة وأم سليم، وغيرهن كثيرات كن يتزودن بالعلم والمعرفة في المسجد كما يتزود الرجال على حد سواء، وهكذا كانت الغاية من إعداد المساجد وبنائها، ومازالت عناية المسلمين بالمساجد ولله الحمد معروفة إلى اليوم ينفقون عليها الألوف المؤلفة، ومالا يدخل تحت عد ولا مقدار، وهذا المسجد الذي يدشن اليوم واحد منها، شيده أهله يبتغون بذلك فضلا من الله ورضوانا، (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورر، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ).
ونسأل الله لنا ولهم  القبول  وحسن الجزاء في الدنيا والآخرة ويوم العرض على الله العلي القدير يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الأاباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا ينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبوة والرسالة، وعلى آله وصحبه وكل من انتمى له، عباد الله، من اتقى الله فاز برضى مولاه ومن جاءته موعظة من ربه فانتهى فأجره على الله، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات،
إن المساجد تشهد يوم القيامة لمن بناها وشيدها، كما تشهد لمن بالذكر والطاعة أحياها، وإن المساجد من أعلام الدين إذا بنيت، ومن علامات النصر والخير إذا عرف حقها المؤمنون، وأخلص فيها لله المخلصون، عرف هذا أهل الخير قبلكم فبنوا المساجد مثلكم ولم يتركوها عرضة للضياع، بل وقفوا لها من المشارع والمحلات ما يصون كرامتها ويحفظ لها حياتها ويضمن بقاءها، وقد فرحوا بها يوم افتتاحها كما نفرح بتدشين هذا المسجد اليوم، وفرح معهم بها أهل الأرض والسماء، فمنهم من فارقوا الدنيا وتركوا آثارهم ومساجدهم شاهدة لهم بصدق الإيمان وقوة العزيمة، وإيثار الدارالآخرة، لم يبخلوا بما آتاهم الله من فضله، ولم يترددوا في الإنفاق عليها من أجله، وإن إقامة هذا المسجد العظيم بهذا الحي الكريم للسان ناطق، وشاهد صادق على حب من أقامه للخير وغيرته على شعائر الدين، وفي هذا (فليتنافس المتنافسون)، وإنه كان لمن الواجب علينا أن ندعو للأولين السابقين ونشكر لهم حسن صنيعهم،
واليوم نضرع لربنا أن يتقبل أعمال إخواننا المحسنين ويجازيهم بأحسن الجزاء وأعظم الأجر في الدارين، فقد جاء في الحديث عن رب العالمين: “عبدي إذا لم تشكر من أجريت الخير على يديه لم تشكرني”، اللهم كما أكثرت المساجد في البلاد أكثر للمساجد من أهل الخير والإصلاح والرشاد، وأكثر في الساجد من أهل الهدى والإستقامة والفلاح ودرء الفساد، حنى يبقى الدين وتبقى الشعائر قائمة يا رب العالمين، وقد جاء في الحديث القدسي عن رب العزة: “إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لمن تطهر في بيته وزارني في بيتي، وحق على المزور أن يكرم زائره”. اللهم أكرم زوار بيتك هذا الذي أنشئ ليذكر فيه اسمك، وأكرم المحسنين الذين أنفقوا مما يحبون، ووفق الساهرين على إنجازه إلى ما يرضيك ويرضي رسولك، واجعل أعمالهم هذه خالصة لوجهك الكريم، وتقبل منهم ومنا إنك أنت السميع العليم وعلى ما تشاء قدير وبالإجابة جدير، وأكثروا إخواني أخواتي  من الصلاة والتسليم على أشرف الورى وسيد المرسلين.
الدعاء…

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *