خطر التبرج
الحمد لله، الحمد لله الذي أوجد الخليقة من العدم، وأنشأها وقام بأرزاقها وكفاها مناها، وأظهر لها طريق رشدها وهداها، ولقربه وخدمته وطاعته اصطفاها، فهي في رضاه تسير، وبطاعته تتباها،
نحمده تعالى على نعمه التي لا تتناهى، ونشكره شكر من عرف نعمة ربه فرعاها،
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من عرف معناها، وعمل ظاهرا وباطنا بمقتضاها، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله إلى الأمة فهداها، وبالقرآن العظيم علمها ورباها، على آله وأصحابه خير الأمة وأزكاها وأتقاها، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون،
في الجمع الماضية، وبمناسبة تخليد المرأة لعيدها العالمي، تكلمنا عن الحقوق التي ضمنها الإسلام للمرأة باعتبارها أما وأختا وزوجة وبنتا وقريبة من الأقارب ومسلمة، وبيننا كيف أن الإسلام هو الذي منح المرأة من الحقوق ما لم يضمنه لها قانون أو تشريع إنساني، واليوم أريد أن أقف مع أخواتي النساء وقفة صغيرة بين يدي آية كريمة، يقول المولى عز وجل في كتابه المكنون: “يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة، إن الله كان لطيفا خبيرا”،
أيها الإخوة المسلمون، أيتها الأخوات المسلمات، إن الإسلام يحرص كل الحرص على تكوين المجتمع المسلم المثالي الخالي من العيوب والشذوذ، البعيد عن الفسوق عن أمر ربه والخارج عن الحدود، فالقرآن الكريم الذي يهدي الخلائق إلى الصراط المستقيم يخاطب نساء رسول الله وهن العفيفات التقيات المستقيمات، ويأمرهن بالاستقرار في البيوت وينهاهن عن التبرج وإظهار الزينة للرجال الأجانب، كتبرج النساء في الجاهلية قبل الإسلام، ليزيل عنهن ما يدنس العرض فيجعلهن عرضة للكلام.
فنساء المسلمين بهذا الأمر الحكيم أحق وأولى، لأن من أقبح المنكرات وأكبر البلايا التي أصيبت بها المجتمعات، وأصبحت خطرا على الذكور والإناث، تبرج المرأة وإظهار مفاتنها وزينتها للرجال في الأسواق ومحلات التجارة وأماكن اللهو والفسوق وفي الطرقات والإدارات وعلى الشواطئ والغابات، فيراها الكبير والصغير والغني والفقير والمسلم والنصراني ومن لا خلاق له ولا دين يردعه عن النظر والنطق بالكلمات الفاحشات التي يندى منهن الجبين.
والتبرج هو إظهار المرأة من جسدها ما يجب إخفاؤه وستره، وقد ذكره القرآن في سورة النور فقال عز وجل: “والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وأن يستعففن خير لهن، والله سميع عليم”، وذكر بصيغة النهي عنه والتشنيع عليه في سورة الأحزاب، فقال تعالى: “ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة”.
فالمرأة اليوم تزداد في تبرجها، وتتفنن في أشكال ملابسها، وتحاول مزاحمة الرجال في مجالات الحياة كلها، وهذا أمر من البدع الخطيرة التي لا يجوز لمسلم التغاضي عنها، ولا ينبغي لدوي الغيرة والقدرة السكوت عليها، وقد بين الله عز وجل خطرها، وحذر رسول الله من مغبة الوقوع فيها، فقال عز وجل: “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديد العقاب”، وقال فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: “صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخث المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا”.
أتدرون أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات ما معنى الجاهلية الأولى التي حذر الله نساءنا من الوقوع فيها؟ ذكر أهل التفسير أن تبرج النساء في الجاهلية الأولى كان بمشيهن بتكسر وتغنج وتبختر أو تلقي المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فلا يواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها، وقال ابن حيان: “كانت تُلقي الخمار على رأسها ولا تشده، فتظهر قلائدها وقرطها، ويظهر قرطُها وعنقها، هذا التبرج الذي كان في الجاهلية الأولى”، وقال ابن كثير: “ربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقرطة أذنيها”،
ولتعلم أختي المؤمنة أن سفورها وتبرجها يبعد الملائكة من مصاحبتها، فقد جاء في السيرة النبوية أن خديجة بنت خويلد أرادت أن تكتشف هل ما يجده النبي من الوحي أم ما هو إلا تهيئات وتخيلات، فطلبت منه أن يخبرها إذا ظهر له الملك، فلما أخبرها بأنه يراه أزالت الخمار عن رأسها ثم اختفي فلما أعادت وضع الخمار على رأسها ظهر من جديد، وهذه القصة دونها أصحاب السنن والسير، وعبر عنها الإمام البوصيري ح بقوله في الهمزية:
وأتاهُ في بيتها جبرَئيلُ ** ولذي اللبِ في الأمور ارتياءُ ** فأماطَتْ عنها الخِمارَ لتدري ** أهو الوحيُ أم هو الإغماءُ ** فاختفى عند كشفِها الرأسَ جبريلُ ** فما عاد أو أعيدَ الغطاءُ،
فإذا كان تبرج الجاهلية الأولى يعنى إظهار موضع القرط من الأذن، وموضع الخلخال من الرجل، وإظهار ظفيرة المرأة، فما نقول اليوم فيما أصبحنا نراه، فتبرج الجاهلية الأولى لا يقاس مع العري الفاضح المنتشر في زماننا هذا، فيبدو أن ما كان يعد تبرجاً في الجاهلية الأولى يعتبر اليوم تستراً وحشمة في زماننا.
لقد خرجت المرأة المسلمة عن السنن الإسلامية، ودخلت في عادات الكافرين، وألقت بنفسها وبمجتمعها فيما يعود عليهما بالندامة يوم الدين، وطرحت عليها ثياب الحشمة والوقار وخلعت عن وجهها برقع الحياء وصارت لا تراعي حرمة الآداب، ولا تبالي بهتك الحجاب، وأصبح حال المرأة اليوم في الأمم العربية والإسلامية أسوأ من حالها أيام الجاهلية، وكل هذا جاء من تقليدها للمرأة الغربية، واستحسانها لعاداتها المتفشية والإفتتان بزينتها من غير عقل ولا روية، وبذلك ضاعت الأموال، وتبدلت أحوال، وفسد النساء والرجال، وساءت الظنون،وانعدمت ثقة الشباب بعفة الفتيات، فأعرضوا عن الزواج، وأقبلوا على البغاء والدعارة وأوقعوا أنفسهم في الأذى وغضب الله، لقلد قلدت المرأة المسلمة المرأة الكافرة في كل عاداتها القبيحة، فخسرت نفسها، وأضاعت كرامتها، ولوثت سمعتها، وأزالت الثقة منها، وصارت حملا ثقيلا على أهلها، وعارا كبيرا على مجتمعها،
وليعلم الآباء والأولياء أنهم مسؤولون، وعن عدم تغيير المنكر الذي يشاهدونه في بيوتهم وعائلاتهم ومجتمعهم، وعن تبرج أزواجهم وبناتهم وأخواتهم سيندمون، قال تعالى: “لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبيس ما كانوا يفعلون”، وكان رسول الله إذا رأى بعض مظاهر التبرج يلفت نظر النساء إلى أن هذا فسق عن أمر الله ويردهن إلى الجادة المستقيمة ويحمل الأولياء والأزواج مسؤولية هذا الإنحراف الخطير، روي عن أمنا عائشة أنها قالت: “بينما رسول الله جالس في المسجد إذ دخلت امرأة من مزينة ترفل في زينتها في المسجد، فقال: “يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة والتبختر في المسجد، فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة وتبخترن في المسجد”.جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، إن صغائر المعاصي تجر إلى كبائرها، كما أن معظم النار من مستصغر الشرر، فمعصية التبرج والاختلاط تؤدي إلى افتتان الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وتجر إلى الزنا والأذى واختلاط الأنساب، وانتشار الفاحشة في أفراد الأمة والعزوف عن الزواج من طرف الشباب، وكل هذا شر مستطير، وجرم كبير ووبال علينا خطير، في هذه الدنيا ويوم العرض على الله العلي القدير، قال تعالى: “إن الذين يجبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون”،
فلا يليق بمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر ويغار على الآداب والأعراض الإنسانية أن يستصغر هذه المعصية ويتهاون بتلك البدعة الغير مرضية فيسكت عنها ويغض الطرف على المفتونين والمفتونات بها، بعد أن عرف ما فيها من المفاسد الخطيرة، قال: “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم”.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، وأكثروا من الصلاة والتسليم على أشرف الورى وسيد لمرسلين.
الدعاء.