العلاجات التي قدمها الإسلام لداء الغضب
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك،
وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، في الخطبة الماضية تحدثنا عن ذلكم الخلق الذميم المعروف بالغضب، الذي قال عنه بعض العلماء: أنه غول العقل يغتاله كما يغتال الذئب الشاة، وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته، فعرفنا به وتكلمنا عن درجات الناس في قوة الغضب وأسبابه وأنواعه، وبقي أن نتحدث عن مختلف العلاجات التي قدمها الإسلام لهذا الداء ونتائجه الوخيمة، وأن نذكر صورا من هدي السلف الصالح عند حالة الغضب.
أيها الإخوة الكرام، إن أول العلاجات التي حث عليها ديننا الإسلامي الحنيف لعلاج الغضب تتمثل في الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، يقول تعالى: “وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”، وعن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجلان يستبان، فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد فقالوا له: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “تعوذ بالله من الشيطان”، فقال: وهل بي جنون، وثاني هذه العلاجات، تغيير الحال، فعن أبى ذر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع، ومن أدويته النافعة عند المخاصمة التزام السكوت، ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “علموا وبشروا ولا تعسروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت”، قال أحد الربانيين: ما امتلأتُ غضبا قط ولا تكلمتُ في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت، وأنت تعلمون قولة الحكيم الشيهرة: إذا نطق السفيه فلا تجبه، فخير من إجابته السكوتُ،
ومن أدوية الغضب الإسراع إلى الوضوء أو تجديده، ورد عن عطية السعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ”،
ومن علاجاته كذلك استحضار الأجر العظيم لكظم الغيظ، فمن استحضر الثواب الكبير الذي أعده الله تعالى لمن كتم غيظه وغضبه كان ذلك سببا في ترك الغضب والانتقام للذات، وبتتبع بعض الأدلة من الكتاب والسنة، نجد جملة من الفضائل مذكورة لمن ترك الغضب منها: الظفر بمحبة الله تعالى، والفوز بما عنده والمباهاة به على رؤوس الخلائق، والنجاة من غضب الله تعالى، وأنه سبب لزيادة الإيمان وسبب لدخول الجنة، وأنه من أفضل الأعمال، قال تعالى:” فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون”،
ومن الأدوية الإكثار من ذكر الله تعالى والعمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين طلب منه ذلكم الصحابي الجليل الوصية مرارا، فقال له: لا تغضب، وهنيئا لمن امتثل هذه الوصية وعمل بها ولا شك أنها وصية جامعة مانعة لجميع المسلمين،
ومن العلاجات أيضا أيها الإخوة الكرام، النظر في نتائج الغضب، فالشخص الكثير الغضب تجده مصابا بأمراض كثيرة كالسكري والضغط والقولون العصبي وغيرها مما يعرفها أهل الاختصاص،كما أنه بسببه تصدر من الغاضب تصرفات قولية أو فعلية يندم عليها بعد ذهاب الغضب، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرمة كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان، وكثير من الأقوال المحرمة كالقذف والسب والفحش، وربما ارتقى إلى درجة الكفر والعياذ بالله، وكثيرا ما نسمع أن والدا قتل ولده، أو ولدا قتل والده فضلا عن غيرهم بسبب الغضب، وكم ضاع من خير وأجر وفضل بسبب الغضب، وكم حلت من مصيبة ودمار وهلاك بسبب الغضب، وبسبب ساعة غضب قطعت الأرحام، ووقع الطلاق، وتهاجر الجيران، وتعادى الإخوان، وقامت بين الجيران والقبائل والعشائر والدول العداوات والخصومات، عن وائل رضي الله عنه قال: إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال: يا رسول الله هذا قتل أخي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أقتلته”؟ فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة، قال: نعم قتلته قال: “كيف قتلته”؟ قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته،
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى عامل من عماله: ” أن لا تعاقب عند غضبك، وإذا غضبت على رجل فاحبسه فإذا سكن غضبك فأخرجه وعاقبه على قدر ذنبه”، لأن الغضبان كما هو معلوم عند الحكماء لا رأي له، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان”،
ومن العلاجات أن تعلم أن القوة في كظم الغيظ ورده لا في التعبير عن الغضب والمصادمة، روي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بقوم يصطرعون فقال ما هذا؟ فقالوا يا رسول الله فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفلا أدلكم على مَن هو أشد منه، رجل ظلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه”،
ومن الأدوية قبول النصيحة والعمل بها، فعلى من شاهد غاضبا أن ينصحه، ويذكره فضل الحلم، وكظم الغيظ، وعلى المنصوح قبولُ ذلك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: استأذن الحر بن قيس لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزْل (أي العطاء الكثير) ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ”، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله،
ومن الأدوية النافعة أخذ الدروس من الغضب السابق، فلو استحضر كل واحد منا قبل أن يُنفذ غضبه الحاضر ثمرةَ غضبٍ سابقٍ ندم عليه بعد إنفاذه، لما أقدم على ما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء مرة ثانية، فمنع الغضب أسهل من إصلاح ما يفسده، ومن العلاجات كذلك اجتناب وإزالة أسباب الغضب، وقد سبق ذكر جملة منها، ومن العلاجات النافعة معرفة أن المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة، فتركه إغلاق لباب من أبواب العصيان، ولما كانت المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة وكان نهاية قوة الغضب القتل، ونهاية قوة الشهوة الزنى، جمع الله تعالى بين القتل والزنى وجعلهما قرينين في سور عديدة من القرآن، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد فيا عباد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ثلاثة مَن كنَّ فيه آواه الله في كنفه وستر عليه برحمته وأدخله في محبته قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: مَن إذا أُعطي شكر، وإذا قَدر غفر، وإذا غَضب فتر”، بمعنى ترك الغضب،
أيها الإخوة الكرام، وبخصوص بعض الصور من هدي السلف الصالح رحمهم الله عند الغضب فهي كثيرة أكتفي منها بذكر بعض الأمثلة فقط، ذكر أن رجلا سب ابن عباس رضي الله عنهما، فلما فرغ قال: يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى،… وقال أبو ذر رضي الله عنه لغلامه: لِمَ أرسلت الشاة على علف الفرس؟ قال أردت أن أغيظك، قال: لأجمعن مع الغيظ أجرا أنت حر لوجه الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
الدعاء.