الكلمة الترحيبية لمولاي اسماعيل في الذكرى 43
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
السيد والي صاحب الجلالة على جهة تادلة ـ أزيلال وعامل إقليم بني ملال المحترم.
السيد عامل صاحب الجلالة على إقليم أزيلال المحترم
السيد عامل صاحب الجلالة على إقليم الفقيه بن صالح المحترم.
السادة رؤساء المصالح الخارجية المرافقين للسيد الوالي والسادة العمال.
السادة العلماء والأساتذة والأكاديميون المشاركون في أعمال هذه الندوة العلمية الدولية.
السيد ممثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
السادة رؤساء المجالس العلمية المحلية المحترمين.
السادة شيوخ وأعيان القبائل الصحراوية الذين أتونا من أقاليمنا الجنوبية الغالية.
أيها السادة والسيدات الحضور الكريم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،
بداية، يشرفني ويسعدني أصالة عن نفسي ونيابة عن كافة أهل البصير ومريدي الطريقة البصيرية ومقدميها وأساتذة مدرسة الزاوية وطلبتها، أن أرحب بجمعكم العظيم في هذه الزاوية العامرة بالله، وأقول لكم جميعا: مرحبا وأهلا وسهلا، نزلتم أهلا ووطئتم سهلا، ونحن الضيوف حقيقة، وأنتم رب المنزل كما يقال.
أرحب بكل من أتانا ليشاركنا أعمال هذه الندوة العلمية الدولية، التي تخلد الذكرى الثالثة والأربعين لانتفاضة سيدي محمد بصير الشهيرة بمدينة العيون، واسمحوا لي باسمكم جميعا أن أرحب بشكل خاص بالسادة العلماء والأساتذة المبجلين الذين استجابوا لدعوتنا مشكورين وقدموا إلينا من دولة الجزائر، وموريطانيا، والسودان، وبوركينافاسو، وسوريا، وفلسطين، والهند، والولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا، وإسبانيا، جزاهم الله عنا كل خير آمين، ولا أنسى أن أقول مرحبا وألف مرحبا لإخواننا وأبناء عمومتنا من أهل الصحراء الذين وصلوا رحمهم وأبناء عمومتهم في هذه البلاد، وصلهم الله بكل خير.
أيها السيدات والسادة الحضور الكريم، ننظم اليوم هذه الندوة العلمية الدولية تحت شعار: “حقوق الإنسان بين الحقيقة والاستغلال”، وذلك في إطار تخليدنا للذكرى الثالثة والأربعين لانتفاضة سيدي محمد بصير المعروف ببصيري.
وعندما نقول حقوق الإنسان، فإننا نقصد بها تلكم السيادة التي ينبغي أن يتمتع بها كل إنسان يحيى فوق هذه الأرض، وما يتبع ذلك من حقوق مترتبة عنها، يقول تعالى:” ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”، ومن الواضح أن التعبير القرآني بكلمة “بني آدم”، يدل على التعميم الذي يخترق الفوارق الطبقية وفوارق الألوان والأعراق، وحتى الديانات، ومنح الله هذا التكريم للإنسان كان أسبق من حظوظه اللونية والعرقية ومن اختياراته الدينية.
وعندما يقول الحق سبحانه تعالى:”وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس، أبى واستكبر وكان من الكافرين”، أو عندما يقول عز وجل:” إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”، فإن هذه الآيات لم ترد فيها كلمة السيادة، وإنما جاء التعبير بالتكريم والتفضيل وبإسجاد الله الملائكة للإنسان، وذلك كله من معاني السيادة التي منحها الله للإنسان، ويعني ذلك أنه سبحانه وتعالى رفع من شأنه وسما به حيث اقتضى أن يأمر الملائكة بالسجود له سجود تبجيل وتكريم لا سجود عبادة وتأليه، والنظم الغربية شهدت للإسلام بهذا السبق وبهذا الشمول، ولعل من أهم الشهادات الناطقة بذلك، شهادة المؤتمر الذي عقدته جامعة باريس تحت اسم” أسبوع الفقه الإسلامي” سنة 1951م، فقد ورد في تقريره الختامي مانصه: “إن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها، وإن اختلاف المذاهب الفقهية ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ومن الأصول الحقيقية هي مناط إعجاب، وبها يستطيع الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها”.
ومادمنا اليوم نجتمع بكم لتخليد ذكرى الفقيد محمد بصير في يوم انتفاضته الشهير، هذا الرجل الفذ الذي اختفى عن الأنظار، منذ ثلاثة وأربعين عاما ولم يعرف له مصير إبان سيطرة دولة إسبانيا على جزء من أقاليمنا الجنوبية حرسها الله وأمنها، لذالكم فنموذج بصيري اليوم يعد واحدا من أبرز النماذج على الانتهاكات الأولى لحقوق الإنسان في الصحراء، نجده قاد ونظم صفوف المقاومة الصحراوية في إبانه، ورفض تبعية الصحراء لإسبانيا على الدوام، وقاد انتفاضة العيون الشهيرة، وسجن على إثرها وعذب أصناف التعذيب وذاق أثناءها أشد ألوان الآلام، كما يشهد على ذلك رفيقه في الكفاح السيد أحمد رحال حفظه الله تعالى، واختفى اختفاء قصريا منذ ذلك الحين، وهناك من يدعي تصفيته، كل هذا يجعل ملف بصيري من الملفات الأولى لانتهاكات حقوق الإنسان في الصحراء من قبل إسبانيا…، وما أكثر الانتهاكات التي ارتكبت من قبلها وهي تبسط سيطرتها الاستعمارية على الصحراء، واليوم وجب فضح مختلف هذه الانتهاكات، فلماذا نسكت إذن عن هذه الانتهاكات؟ لماذا تتهمنا هي اليوم بين الحين والآخر بانتهاك حقوق الإنسان، ونظل نحن مكتوفي الأيدي رغم توفرنا على ملفات حقوقية ضدها؟
ولكن للأسف الشديد نجد إسبانيا، هذه الدولة المنتمية للاتحاد الأوربي، المتبجح بضمان حقوق الإنسان، حيث صادقت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948م ، فعلت فعلتها الشنيعة في عمنا الفقيد محمد بصير عام 1970م، وأخفت جريمتها النكراء، ومنعت وحالت دون كل من يريد النبش في دهاليز أرشيفها الكبير، ولم تمتلك الشجاعة الكافية لتقول كلمة الإنصاف في هذا الملف وغيره من الملفات، وأخبركم حقيقة أننا حاولنا هذه السنة طلب تأشيرة إسبانيا من أجل الذهاب لاستكمال إجراءات تسجيل الدعوة رسميا، بتنسيق مع محامي العائلة السيد إيفان خمينيز آيبار، إلا أن السفارة رفضت الطلب بعد علمها بنوايا سفرنا، وحالت دون ذلك، هذا علما أننا فيما مضى حصلنا على تأشيرتها وتأشيرة بعض دول الاتحاد الأوربي أكثر من أربع مرات.
ويزداد تأسفنا أكثر عندما نعلم أن أبناء عمومتنا المقيمين في تندوف، والذين يعتبرونه -زورا وبهتانا- رمزا وأبا روحيا لكيانهم المزعوم، لم يكلفوا أنفسهم طيلة هذه المدة كلها مساءلة إسبانيا عنه، أو رفع دعوى قضائية للكشف عن مصيره المجهول، أو جعله أولوية من أولوياتهم، وفي هذا المقام جدير أن تعرفوا أنه في سنة 1974م عندما حصل تبادل الأسرى بينهم وبين إسبانيا لم يسألوا عنه رغم أن الفرصة كانت مواتية جدا، لذلك نحن عائلة آل البصير نقول لهم ولإسبانيا: إنه لاداعي اليوم للمناورة مجددا حول ملف عمنا الفقيد سيدي محمد بصير، ونحن اليوم مستعدون لمساءلة إسبانيا عنه أمام مختلف المحاكم الدولية، وما ضاع حق وراءه طالب كماهو مشهور ومعروف، ونرفض مختلف الطلبات التي يقدمها كل من تسول له نفسه المناورة واللعب بهذا الملف، والإدعاء أنه اليوم يريد مساءلة إسبانيا عنه، فمن أراد أن يسأل عن بصيري من مختلف الجمعيات والمنظمات الوطنية والدولية، فليضع يده في يد عائلة آل البصير، وإلا فإننا لن نزكي طلبه، وطلبه مرفوض في نظرنا ومردود عليه.
أيها السيدات والسادة الحضور الكريم، أين هي مختلف المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام الأجنبية الدولية التي تزور الصحراء من دفاعها المزعوم عن الحقوق؟ أما كان لها أن تجعل من هذا الملف وأمثاله- وهو كثير- مجالا لعملها الأول في الدفاع عن الحقوق؟ هنا يظهر لكم الكذب والمناورة والكيل بمكيالين لهذه المنظمات والجمعيات الدولية التي تزور بلدنا بين الحين والآخر.
نفتح لها الباب بالأحضان وندعها تعمل بكامل حريتها، وما إن تخرج من البلاد حتى تدلي بتقارير ضدنا، هل هذا هو الدفاع عن الحقوق أم هو الاستغلال والامتهان الحقير للحقوق؟، والعجيب الغريب أيها الإخوة والأخوات، أننا في بلادنا ندعهم يدخلون ويخرجون كما يحلو لهم، ويفعلون ما يشاؤون في العيون وغيرها، إلى درجة أن الحرية التي تعطى لهم تتحول أكثر من مرة إلى فوضى هدامة وفتنة ممنهجة، ذهب ضحيتها الكثير من المدنيين ورجال الشرطة الأوفياء، و”الفتنة أشد من القتل” كما قال الحق سبحانه وتعالى، ولا أراني في حاجة إلى أن أشير لبعض تجليات هذه الفتنة.
ولكن أحب أن أتوقف عند أهمها، لماذا نحن في المملكة المغربية مثلا، نسمح لبعض متزعمي انفصاليي الداخل بالدخول والخروج من وإلى العيون- قلب الصحراء- كما يشاؤون ، والقيام بألاعيبهم المكشوفة والتخطيط لذلك كما يشاؤون باستغلال الأطفال القاصرين والنساء والشباب المغرر به، في تنفيذ برامجهم الهدامة بكل حرية؟، في حين لايسمح لبعض منظمات حقوق الإنسان الوطنية والدولية بالدخول إلى تندوف لزيارة أهلينا المحتجزين في تلك البلاد وإعداد تقارير عنهم؟ لماذا تتجاهل المنظمات الحقوقية الدولية هذا الأمر؟ أهذا هو الإنصاف؟ أهذا هو الدفاع عن الحقوق؟، أم هو التخطيط لاستغلال الحقوق في إثارة الفتنة؟
إن مثل هذه الشعارات لا تستفز إلا ضعاف العقول وأصحاب الأحقاد الدفينة الذين يقضون جل وقتهم لاهثين وراء كل ناعق، لكن الحق جل جلاله ما لبث أن أرسل عليهم ريح الخريق ففضحتهم أمام العالم بتدخل العقلاء الذين يعرفون الحق لأهله، لتتفجر عبقرية ملكنا الهمام نصره الله، لتصدح ببيان الانتصار الذي كان ضربة قاضية أخرست كل ناعق، وفي هذا اعتراف من الأمم المتحدة بالجهود الوطنية والمبادرات السامية التي أطلقها صاحب الجلالة نصره الله، وبهذا يكون مجلس الأمن قد أعطى إجابة واضحة لهذه المحاولات المتكررة الرامية إلى توظيف حقوق الإنسان من أجل التخطيط لفتنة الناس وإرهابهم.
نحن أيها الإخوة والأخوات بكل صراحة أصبحنا نعيش في عالم يستغل الحقوق ويمتهنها بحقارة ودناءة، ولا يستشعر حقيقتها وقدرها وقيمتها، وأصبح الكثير من المسترزقين عالة على موضوع:”حقوق الإنسان”.
وعندما نعود إلى حياة هؤلاء المتزعمين لانفصاليي الداخل، المسترزقين بالجانب الحقوقي، والذين يدعون بالمناضلين الحقوقيين، نجدهم كانوا في يوم من الأيام مواطنين صالحين كسائر المواطنين، درسوا بالمغرب، يحفظون النشيد الوطني، رفعوا العلم المغربي مرارا، لكن الذلال الكبير الذي عاشوا تحت ظله، إضافة إلى احتفاء وتكريم الأجانب لهم بمنحهم جوائز يسمونها “جوائز الشجاعة المدنية”، وأنا أحب أن تدققوا في اسم جوائزهم الملغوم: “جوائز الشجاعة المدنية”، أضف إلى ذلك الاغراءات الأجنبية التي تتدفق عليهم من كل حدب وصوب، كل هذا صنع منهم أبطالا في الباطل…وأحب أن أتوقف بشكل خاص عند تلكم المرأة التي قامت أمام مرأى من العالم بتقديم صورة طفلة ميتة، جسدها مليء بالجراح الناتجة عن شظايا قنبلة، وصرحت لوسائل الإعلام الإسبانية أنها طفلة صحراوية ماتت عقب هجوم الأمن المغربي على السمارة، ولكن الصورة في حقيقتها كانت لطفلة فلسطينية قتلت أثناء قصف الكيان الصهيوني لغزة، إنها المناورة والكذب وإطلاق الشائعات من أجل استغلال حقوق الإنسان؟ أين هو الضمير؟ أين هي الرزانة أيتها المرأة الصحراوية؟ هل تعلمون أن الرجال والنساء في الصحراء في ماضيهم التليد هم من ضمنوا كرامة المجتمع الصحراوي، لقد كانوا يحفظون هيبة المجتمع الصحراوي، وحملوا السلاح ضد إسبانيا وجاهدوا وعلموا العلم الشرعي، وربوا أبناءهم أحسن تربية، وأذاقوا الاستعمار شر العذاب، ولكن صدق أهل التصوف عندما قالوا: ” نفسك إذا لم تشغلها بحق شغلتك بباطل”.
فاليوم أيها الإخوة والأخوات ينبغي أن نشغل الناس في الصحراء، وبخاصة منهم النساء والشباب بالعلم والتدين الرصينين، ولا نترك لهم الفراغ فيملؤوه بالباطل والسفاهات، بهذا التأطير الرصين، بالعلم والدين سنفلح بحول الله في إرجاع شبابنا ونسائنا إلى السكة الصحيحة، المتمثلة في الاعتزاز بالهوية الدينية والوطنية الصادقة التي لا تقبل المساومة، ولنا في حديث السفينة عبرة لمن اعتبر، حيث مثّل أفراد المجتمع برُكَّاب السفينة، وربط حياتهم بسلامتها، وهلاكهم بهلاكها، ومن ذا الذي لا يرغب في الحياة ويكره الهلاك ؟! فكما أن ركاب السفينة يحرصون على سلامتها؛ لارتباط حياتهم بسلامتها؛ فكذلك أفراد المجتمع يجب أن يحرصوا على مجتمعهم حرصَهم على حياتِهم وبقائهم وأمنهم.
أيها السيدات والسادة الحضور الكريم، ختاما، وانطلاقا من كون: “الصوفي ابن وقته”، هذه الحكمة التي تتخذها الطريقة البصيرية شعارا لها وتعمل على العمل بمقتضاها، بات لزاما اليوم على أهل الله من أهل التصوف وكافة العلماء العاملين، الكلام على هذا الموضوع الهام الشديد الحساسية في هذه الظرفية التي نمر بها، وذلك بحكم موقعهم الذي يجعلهم في طليعة من يتشبثون بدينهم علما وعملا، وبالتالي أعرف الناس بحقوق الناس، وإن عمل هؤلاء يتجلى أول ما يتجلى في تبيين معنى حقوق الإنسان، وطرق السعي إلى ضمانها لمختلف الأفراد، وفضح المستغلين لهذا الجانب، وفضح أساليبهم المختلفة في تضليل الناس تحت غطاء الدفاع عن الحقوق، وأنا أدعو أهل التصوف الصادقين بالانخراط الجاد في التجاوب مع هموم الناس ومايشغلهم، وذلك بالجواب عن كل موضوع من المواضيع المطروحة للنقاش، والتي أصبحت تحير أولي الألباب في أيامنا هذه.
وإن كل هذه المحاور والأفكار التي وردت في كلمتي، والتي مررت عليها مرور الكرام واختصرتها اختصارا، هي التي سيتناولها السادة العلماء والأكاديميون، والأساتذة المبجلون بالتحليل والمناقشة والبيان، أسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في مشاركاتهم ومجهوداتهم، كما أسأله عز وجل أن يبارك في عمر وأعمال مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره، وأن يكلأه بعين عنايته، وأن يحفظ هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين، وأن يجازي عنا خيرا كل من ساهم من قريب أوبعيد من أجل تنظيم هذا الملتقى وإنجاحه، والحمد لله رب العالمين.
السيد والي صاحب الجلالة على جهة تادلة ـ أزيلال وعامل إقليم بني ملال المحترم.
السيد عامل صاحب الجلالة على إقليم أزيلال المحترم
السيد عامل صاحب الجلالة على إقليم الفقيه بن صالح المحترم.
السادة رؤساء المصالح الخارجية المرافقين للسيد الوالي والسادة العمال.
السادة العلماء والأساتذة والأكاديميون المشاركون في أعمال هذه الندوة العلمية الدولية.
السيد ممثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
السادة رؤساء المجالس العلمية المحلية المحترمين.
السادة شيوخ وأعيان القبائل الصحراوية الذين أتونا من أقاليمنا الجنوبية الغالية.
أيها السادة والسيدات الحضور الكريم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،
بداية، يشرفني ويسعدني أصالة عن نفسي ونيابة عن كافة أهل البصير ومريدي الطريقة البصيرية ومقدميها وأساتذة مدرسة الزاوية وطلبتها، أن أرحب بجمعكم العظيم في هذه الزاوية العامرة بالله، وأقول لكم جميعا: مرحبا وأهلا وسهلا، نزلتم أهلا ووطئتم سهلا، ونحن الضيوف حقيقة، وأنتم رب المنزل كما يقال.
أرحب بكل من أتانا ليشاركنا أعمال هذه الندوة العلمية الدولية، التي تخلد الذكرى الثالثة والأربعين لانتفاضة سيدي محمد بصير الشهيرة بمدينة العيون، واسمحوا لي باسمكم جميعا أن أرحب بشكل خاص بالسادة العلماء والأساتذة المبجلين الذين استجابوا لدعوتنا مشكورين وقدموا إلينا من دولة الجزائر، وموريطانيا، والسودان، وبوركينافاسو، وسوريا، وفلسطين، والهند، والولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا، وإسبانيا، جزاهم الله عنا كل خير آمين، ولا أنسى أن أقول مرحبا وألف مرحبا لإخواننا وأبناء عمومتنا من أهل الصحراء الذين وصلوا رحمهم وأبناء عمومتهم في هذه البلاد، وصلهم الله بكل خير.
أيها السيدات والسادة الحضور الكريم، ننظم اليوم هذه الندوة العلمية الدولية تحت شعار: “حقوق الإنسان بين الحقيقة والاستغلال“، وذلك في إطار تخليدنا للذكرى الثالثة والأربعين لانتفاضة سيدي محمد بصير المعروف ببصيري.
وعندما نقول حقوق الإنسان، فإننا نقصد بها تلكم السيادة التي ينبغي أن يتمتع بها كل إنسان يحيى فوق هذه الأرض، وما يتبع ذلك من حقوق مترتبة عنها، يقول تعالى:” ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا“، ومن الواضح أن التعبير القرآني بكلمة “بني آدم”، يدل على التعميم الذي يخترق الفوارق الطبقية وفوارق الألوان والأعراق، وحتى الديانات، ومنح الله هذا التكريم للإنسان كان أسبق من حظوظه اللونية والعرقية ومن اختياراته الدينية.
وعندما يقول الحق سبحانه تعالى:”وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس، أبى واستكبر وكان من الكافرين“، أو عندما يقول عز وجل:” إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين“، فإن هذه الآيات لم ترد فيها كلمة السيادة، وإنما جاء التعبير بالتكريم والتفضيل وبإسجاد الله الملائكة للإنسان، وذلك كله من معاني السيادة التي منحها الله للإنسان، ويعني ذلك أنه سبحانه وتعالى رفع من شأنه وسما به حيث اقتضى أن يأمر الملائكة بالسجود له سجود تبجيل وتكريم لا سجود عبادة وتأليه، والنظم الغربية شهدت للإسلام بهذا السبق وبهذا الشمول، ولعل من أهم الشهادات الناطقة بذلك، شهادة المؤتمر الذي عقدته جامعة باريس تحت اسم” أسبوع الفقه الإسلامي“ سنة 1951م، فقد ورد في تقريره الختامي مانصه: “إن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها، وإن اختلاف المذاهب الفقهية ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ومن الأصول الحقيقية هي مناط إعجاب، وبها يستطيع الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها”.
ومادمنا اليوم نجتمع بكم لتخليد ذكرى الفقيد محمد بصير في يوم انتفاضته الشهير، هذا الرجل الفذ الذي اختفى عن الأنظار، منذ ثلاثة وأربعين عاما ولم يعرف له مصير إبان سيطرة دولة إسبانيا على جزء من أقاليمنا الجنوبية حرسها الله وأمنها، لذالكم فنموذج بصيري اليوم يعد واحدا من أبرز النماذج على الانتهاكات الأولى لحقوق الإنسان في الصحراء، نجده قاد ونظم صفوف المقاومة الصحراوية في إبانه، ورفض تبعية الصحراء لإسبانيا على الدوام، وقاد انتفاضة العيون الشهيرة، وسجن على إثرها وعذب أصناف التعذيب وذاق أثناءها أشد ألوان الآلام، كما يشهد على ذلك رفيقه في الكفاح السيد أحمد رحال حفظه الله تعالى، واختفى اختفاء قصريا منذ ذلك الحين، وهناك من يدعي تصفيته، كل هذا يجعل ملف بصيري من الملفات الأولى لانتهاكات حقوق الإنسان في الصحراء من قبل إسبانيا…، وما أكثر الانتهاكات التي ارتكبت من قبلها وهي تبسط سيطرتها الاستعمارية على الصحراء، واليوم وجب فضح مختلف هذه الانتهاكات، فلماذا نسكت إذن عن هذه الانتهاكات؟ لماذا تتهمنا هي اليوم بين الحين والآخر بانتهاك حقوق الإنسان، ونظل نحن مكتوفي الأيدي رغم توفرنا على ملفات حقوقية ضدها؟
ولكن للأسف الشديد نجد إسبانيا، هذه الدولة المنتمية للاتحاد الأوربي، المتبجح بضمان حقوق الإنسان، حيث صادقت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948م ، فعلت فعلتها الشنيعة في عمنا الفقيد محمد بصير عام 1970م، وأخفت جريمتها النكراء، ومنعت وحالت دون كل من يريد النبش في دهاليز أرشيفها الكبير، ولم تمتلك الشجاعة الكافية لتقول كلمة الإنصاف في هذا الملف وغيره من الملفات، وأخبركم حقيقة أننا حاولنا هذه السنة طلب تأشيرة إسبانيا من أجل الذهاب لاستكمال إجراءات تسجيل الدعوة رسميا، بتنسيق مع محامي العائلة السيد إيفان خمينيز آيبار، إلا أن السفارة رفضت الطلب بعد علمها بنوايا سفرنا، وحالت دون ذلك، هذا علما أننا فيما مضى حصلنا على تأشيرتها وتأشيرة بعض دول الاتحاد الأوربي أكثر من أربع مرات.
ويزداد تأسفنا أكثر عندما نعلم أن أبناء عمومتنا المقيمين في تندوف، والذين يعتبرونه –زورا وبهتانا– رمزا وأبا روحيا لكيانهم المزعوم، لم يكلفوا أنفسهم طيلة هذه المدة كلها مساءلة إسبانيا عنه، أو رفع دعوى قضائية للكشف عن مصيره المجهول، أو جعله أولوية من أولوياتهم، وفي هذا المقام جدير أن تعرفوا أنه في سنة 1974م عندما حصل تبادل الأسرى بينهم وبين إسبانيا لم يسألوا عنه رغم أن الفرصة كانت مواتية جدا، لذلك نحن عائلة آل البصير نقول لهم ولإسبانيا: إنه لاداعي اليوم للمناورة مجددا حول ملف عمنا الفقيد سيدي محمد بصير، ونحن اليوم مستعدون لمساءلة إسبانيا عنه أمام مختلف المحاكم الدولية، وما ضاع حق وراءه طالب كماهو مشهور ومعروف، ونرفض مختلف الطلبات التي يقدمها كل من تسول له نفسه المناورة واللعب بهذا الملف، والإدعاء أنه اليوم يريد مساءلة إسبانيا عنه، فمن أراد أن يسأل عن بصيري من مختلف الجمعيات والمنظمات الوطنية والدولية، فليضع يده في يد عائلة آل البصير، وإلا فإننا لن نزكي طلبه، وطلبه مرفوض في نظرنا ومردود عليه.
أيها السيدات والسادة الحضور الكريم، أين هي مختلف المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام الأجنبية الدولية التي تزور الصحراء من دفاعها المزعوم عن الحقوق؟ أما كان لها أن تجعل من هذا الملف وأمثاله- وهو كثير- مجالا لعملها الأول في الدفاع عن الحقوق؟ هنا يظهر لكم الكذب والمناورة والكيل بمكيالين لهذه المنظمات والجمعيات الدولية التي تزور بلدنا بين الحين والآخر.
نفتح لها الباب بالأحضان وندعها تعمل بكامل حريتها، وما إن تخرج من البلاد حتى تدلي بتقارير ضدنا، هل هذا هو الدفاع عن الحقوق أم هو الاستغلال والامتهان الحقير للحقوق؟، والعجيب الغريب أيها الإخوة والأخوات، أننا في بلادنا ندعهم يدخلون ويخرجون كما يحلو لهم، ويفعلون ما يشاؤون في العيون وغيرها، إلى درجة أن الحرية التي تعطى لهم تتحول أكثر من مرة إلى فوضى هدامة وفتنة ممنهجة، ذهب ضحيتها الكثير من المدنيين ورجال الشرطة الأوفياء، و“الفتنة أشد من القتل“ كما قال الحق سبحانه وتعالى، ولا أراني في حاجة إلى أن أشير لبعض تجليات هذه الفتنة.
ولكن أحب أن أتوقف عند أهمها، لماذا نحن في المملكة المغربية مثلا، نسمح لبعض متزعمي انفصاليي الداخل بالدخول والخروج من وإلى العيون- قلب الصحراء- كما يشاؤون ، والقيام بألاعيبهم المكشوفة والتخطيط لذلك كما يشاؤون باستغلال الأطفال القاصرين والنساء والشباب المغرر به، في تنفيذ برامجهم الهدامة بكل حرية؟، في حين لايسمح لبعض منظمات حقوق الإنسان الوطنية والدولية بالدخول إلى تندوف لزيارة أهلينا المحتجزين في تلك البلاد وإعداد تقارير عنهم؟ لماذا تتجاهل المنظمات الحقوقية الدولية هذا الأمر؟ أهذا هو الإنصاف؟ أهذا هو الدفاع عن الحقوق؟، أم هو التخطيط لاستغلال الحقوق في إثارة الفتنة؟
إن مثل هذه الشعارات لا تستفز إلا ضعاف العقول وأصحاب الأحقاد الدفينة الذين يقضون جل وقتهم لاهثين وراء كل ناعق، لكن الحق جل جلاله ما لبث أن أرسل عليهم ريح الخريق ففضحتهم أمام العالم بتدخل العقلاء الذين يعرفون الحق لأهله، لتتفجر عبقرية ملكنا الهمام نصره الله، لتصدح ببيان الانتصار الذي كان ضربة قاضية أخرست كل ناعق، وفي هذا اعتراف من الأمم المتحدة بالجهود الوطنية والمبادرات السامية التي أطلقها صاحب الجلالة نصره الله، وبهذا يكون مجلس الأمن قد أعطى إجابة واضحة لهذه المحاولات المتكررة الرامية إلى توظيف حقوق الإنسان من أجل التخطيط لفتنة الناس وإرهابهم.
نحن أيها الإخوة والأخوات بكل صراحة أصبحنا نعيش في عالم يستغل الحقوق ويمتهنها بحقارة ودناءة، ولا يستشعر حقيقتها وقدرها وقيمتها، وأصبح الكثير من المسترزقين عالة على موضوع:”حقوق الإنسان“.
وعندما نعود إلى حياة هؤلاء المتزعمين لانفصاليي الداخل، المسترزقين بالجانب الحقوقي، والذين يدعون بالمناضلين الحقوقيين، نجدهم كانوا في يوم من الأيام مواطنين صالحين كسائر المواطنين، درسوا بالمغرب، يحفظون النشيد الوطني، رفعوا العلم المغربي مرارا، لكن الذلال الكبير الذي عاشوا تحت ظله، إضافة إلى احتفاء وتكريم الأجانب لهم بمنحهم جوائز يسمونها “جوائز الشجاعة المدنية“، وأنا أحب أن تدققوا في اسم جوائزهم الملغوم: “جوائز الشجاعة المدنية”، أضف إلى ذلك الاغراءات الأجنبية التي تتدفق عليهم من كل حدب وصوب، كل هذا صنع منهم أبطالا في الباطل…وأحب أن أتوقف بشكل خاص عند تلكم المرأة التي قامت أمام مرأى من العالم بتقديم صورة طفلة ميتة، جسدها مليء بالجراح الناتجة عن شظايا قنبلة، وصرحت لوسائل الإعلام الإسبانية أنها طفلة صحراوية ماتت عقب هجوم الأمن المغربي على السمارة، ولكن الصورة في حقيقتها كانت لطفلة فلسطينية قتلت أثناء قصف الكيان الصهيوني لغزة، إنها المناورة والكذب وإطلاق الشائعات من أجل استغلال حقوق الإنسان؟ أين هو الضمير؟ أين هي الرزانة أيتها المرأة الصحراوية؟ هل تعلمون أن الرجال والنساء في الصحراء في ماضيهم التليد هم من ضمنوا كرامة المجتمع الصحراوي، لقد كانوا يحفظون هيبة المجتمع الصحراوي، وحملوا السلاح ضد إسبانيا وجاهدوا وعلموا العلم الشرعي، وربوا أبناءهم أحسن تربية، وأذاقوا الاستعمار شر العذاب، ولكن صدق أهل التصوف عندما قالوا: “ نفسك إذا لم تشغلها بحق شغلتك بباطل“.
فاليوم أيها الإخوة والأخوات ينبغي أن نشغل الناس في الصحراء، وبخاصة منهم النساء والشباب بالعلم والتدين الرصينين، ولا نترك لهم الفراغ فيملؤوه بالباطل والسفاهات، بهذا التأطير الرصين، بالعلم والدين سنفلح بحول الله في إرجاع شبابنا ونسائنا إلى السكة الصحيحة، المتمثلة في الاعتزاز بالهوية الدينية والوطنية الصادقة التي لا تقبل المساومة، ولنا في حديث السفينة عبرة لمن اعتبر، حيث مثّل أفراد المجتمع برُكَّاب السفينة، وربط حياتهم بسلامتها، وهلاكهم بهلاكها، ومن ذا الذي لا يرغب في الحياة ويكره الهلاك ؟! فكما أن ركاب السفينة يحرصون على سلامتها؛ لارتباط حياتهم بسلامتها؛ فكذلك أفراد المجتمع يجب أن يحرصوا على مجتمعهم حرصَهم على حياتِهم وبقائهم وأمنهم.
أيها السيدات والسادة الحضور الكريم، ختاما، وانطلاقا من كون: “الصوفي ابن وقته“، هذه الحكمة التي تتخذها الطريقة البصيرية شعارا لها وتعمل على العمل بمقتضاها، بات لزاما اليوم على أهل الله من أهل التصوف وكافة العلماء العاملين، الكلام على هذا الموضوع الهام الشديد الحساسية في هذه الظرفية التي نمر بها، وذلك بحكم موقعهم الذي يجعلهم في طليعة من يتشبثون بدينهم علما وعملا، وبالتالي أعرف الناس بحقوق الناس، وإن عمل هؤلاء يتجلى أول ما يتجلى في تبيين معنى حقوق الإنسان، وطرق السعي إلى ضمانها لمختلف الأفراد، وفضح المستغلين لهذا الجانب، وفضح أساليبهم المختلفة في تضليل الناس تحت غطاء الدفاع عن الحقوق، وأنا أدعو أهل التصوف الصادقين بالانخراط الجاد في التجاوب مع هموم الناس ومايشغلهم، وذلك بالجواب عن كل موضوع من المواضيع المطروحة للنقاش، والتي أصبحت تحير أولي الألباب في أيامنا هذه.
وإن كل هذه المحاور والأفكار التي وردت في كلمتي، والتي مررت عليها مرور الكرام واختصرتها اختصارا، هي التي سيتناولها السادة العلماء والأكاديميون، والأساتذة المبجلون بالتحليل والمناقشة والبيان، أسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في مشاركاتهم ومجهوداتهم، كما أسأله عز وجل أن يبارك في عمر وأعمال مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره، وأن يكلأه بعين عنايته، وأن يحفظ هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين، وأن يجازي عنا خيرا كل من ساهم من قريب أوبعيد من أجل تنظيم هذا الملتقى وإنجاحه، والحمد لله رب العالمين.