سيدي محمد بصير وحضوره الإيجابي في المجتمع الصحراوي
بسم الله الرحمن الرحيم
مداخلة تحت عنوان: “محمد البصير وحضوره الايجابي”
الحمد لله الذي تفرد بجميع المحامد، فبادر بحمد نفسه قبل أن يحمده حامد، والصلاة والسلام على الملهم للمحامد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد، أيها الحضور الكريم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن مداخلتي هذه إلى جانب العلماء الأماجد تتمحور حول “الفقيد سيدي محمد بصير وحضوره الايجابي” على أرض الصحراء طبعا لأن المناسبة شرط في الكلام.
تجدر الإشارة إلى أنه المقصود بالحضور الإيجابي هو اتخاذ الوضع الأفضل في الظرف الأسوأ، والإيجابية هي سلوك فاعل نحو الإصلاح، وآفتها الجبن والكسل.
وبالنظر إلى هذه المعاني فإن الفقيد محمد بصير استطاع بعصاميته أن يبني شخصيته وفق هذا النسق الإيجابي، حيث استطاع أن يسخر كل ما حباه الله به من بسطة في العلم والجسم لخدمة دينه ووطنه، لذلك لم يكن حضوره بين أهله في أرض الصحراء العزيزة سلبيا، وإلا لم نكن لنجتمع اليوم هنا على غرار السنوات الفارطة، ولما كنا لنستكمل وحدتنا الترابية، وما كنا لنلقى العداء من أقرب الناس إلينا لأنه كل ذي نعمة محسود كما ورد.
لقد تحدث القرآن عن فضيلة الإيجابية في مواضع كثيرة من القرآن وجعلها من سمات الصالحين، مثل المسارعة والمسابقة والمنافسة، قال تعالى: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات)، وقال أيضا: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم)، وقال: (السابقون السابقون أولئك المقربون) وقال: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) وكذلك السنة المطهرة فقد بينت أهمية هذه القيمة الإسلامية العظيمة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها”، فبين أن يكون المسلم إيجابيا حتى قيام الساعة، وحتى آخر رمق في حياته.
إذن فليس غريبا أن يصف “أليخاندرو كارسييا” الفقيد محمد بصير في كتابه:
“HISTORIAS DEL SAHARA: EL MEJOR Y EL PEOR DE LOS MUNDOS”
“قصص من الصحراء أحسن وأسوأ البلدان”
بأنه “إيجابي وجدي فيما يريد” وأعطى المثال من نفسه لمن حوله ليكونوا كذلك وأقسم عليه قال غارسيا: “أحدث قسما كان كل عضو في حركته التحريرية يردده ويده اليمنى فوق القرآن:” أقسم بالله العظيم وبكتابه الكريم أن لا أخون شعبي وأن أعمل بجد حتى آخر قطرة من دمي من أجل وطني”
فحضور الفقيد في الصحراء لم يكن موسوما بالإيجابي هكذا اعتباطا، بل هو نتاج جملة عناصر تضافرت لتجعل منه رجلا عصاميا، فريدا دوخ المستعمر وقلب حساباته وبعثر أوراقه، إذا فما هي العوامل؟
يمكن القول أنه قبل أن يكون الإنسان إيجابيا لابد من تأهيل مسبق عن هذه المرحلة التي يكون المرء فيها في الواجهة تعد حسناته كما تعد سيئاته، ولكي يكون كذلك يكون لزاما عليه التحقق بأربعة خصال:
1/ التسلح بالإيمان الراسخ مع الوثوق بوعد الله.
2/ الثقة بالنفس فلا إيجابية صادرة عن شخص مائع مهزوز.
3/ حب الاقتحام والمغامرة، فالشخص الإيجابي هو الشخص الذي يقتحم صفوف الباطل وأسوار الظلم.
4/ مقاومة الكسل والجبن عمليا بالتحرك السريع لإنجاز المهام.
وإذا راجعنا سيرة الشهيد رحمه الله وما كتبه عنه الغرباء فضلا عن الأصدقاء لوجدنا أن الفقيد رحمه الله كان يتمتع بكل هذه الصفات مما أهله لقيادة ثورة قل نظيرها في العالم، فضلا عن أخلاقه الفاضلة التي جعلته إيجابيا بامتياز، قال عنه أليخاندرو: “ما تعرف أحد إلى بصيري إلا أحبه، شاب كريم، محبوب ومحترم، يستمع أكثر مما يتكلم، لكن عندما يتناول الكلمة يلاحظ بسرعة مما يدل على سعة ثقافته، يبدي وجهة نظره في أي موضوع طرح بوضوح شديد كان ذكيا وحريصا”.
وهذه سمات التربية الصوفية التي ورثها عن سلفه، وقديما قيل: “الولد سر أبيه” لا يخفى على ذي لب ما يكون من تأثير الوالد على ولده بحكم الوراثة والمعاشرة، فالطبع للطبع يسرق، لقد كان والده الشيخ سيدي إبراهيم البصير إيجابيا في كل لمحة ونفس من حياته، كيف لا وهو الشيخ المربي الذي شدت له الرحال للنهل من معينه الرباني، وقد سرى هذا السر في غالب أبنائه، لذلك يمكن القول بأن انتماءه الأسري كان له وقع في هذا التكوين، كما أن همة الشهيد سيدي محمد بصير رحمه الله التي لم تقنع بما تجود به المؤسسات التعليمية المغربية حفزته لشد الرحال إلى مصر وسوريا ولبنان لاستكمال بناء شخصيته وتلقيح معلوماته، فلا غرابة أن يكون المثقف الوحيد في الصحراء في وقته.
ولا غرو أن يؤوب بعد هذه الرحلة الشاقة نبعا فياضا يزخر بأفكار جديدة تتطلب ميدانا فسيحا لزرعها وأشخاص إيجابيين للقيام بها وعقولا نيرة لاستثمارها، ويمتهن الصحافة التي زادته قوة إلى قوته في طرح الموضوعات الشائكة بل القاتلة التي ستؤجج فيه نار الإيجابية. يقول اليخاندرو في قصص الصحراء عن الشهيد: “ينحدر من أسرة مرابطة وشريفة، كان المثقف الجامعي الوحيد في المستعمرة بالإضافة إلى نجابة شخصيته التي جعلته متميزا بين الناس”.
فدخل الصحراء على حين غفلة من أهلها ومستعمريها، فوجد فيها فئتان تقتلان هذه من شيعته وهذه من عدوه، فمال بالطبع إلى شيعته الذين كانوا على شفا مسخ هويتهم الصحراوية، لكنه لم يبق الطاعم الكاسي، بل راح يدرس الوضع من جميع جوانبه، فخالط الناس وخاطبهم واستمع إلى معاناتهم، فوجد فيهم قابلية التغيير مع الاحتفاظ بما تزخر به الشخصية الصحراوية من التدين وحب العلم وأهله والأنفة والجود والكرم مع قلة ذات اليد وشظف العيش والاستغناء بالله عن الخلق، فشمر عن ساعد الجد وأبان عن إيجابيته يقول أليخاندرو كارسيا في المرجع السابق: “لكن بصيري دخل إلى الصحراء بمشروع”.
مشروع أبان عنه، يقول أليخاندرو: “بعد سنة ونصف من وصوله في مارس 1969 فتح مدرسة لتعليم : (الحروف الأبجدية وتعليم اللغة العربية والثقافة العامة (يراد بها الدين الإسلامي)) لمائة من الأشخاص” تغيا من ورائها إعداد أبناء عمومته لما هو أكبر ألا وهو التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار فأضحت كما يضيف كارسيا “في الواقع المدرسة مركز التكوين السياسي”.
هذا العمل الذي استطاع أن يلم به الشمل المتشتت بين حيرة القبض على جمر الدين والأصول وبين الارتماء في أحضان الاستعمار الذي كان قدرا مقدورا لا طاقة لهم على اجتثاثه.
إن إيجابية هذا الشاب هي التي أدخلت الصحراوين التاريخ من بابه الواسع، فأثمرت الانتفاضة الأبية التي شارك فيها الشيب والشباب ذكرانا وإناثا، وزادتهم قوة إلى قوتهم، نظرا للحب والثقة المتبادلين بين سيدي محمد بصير وأبناء عمومته، خولتها له جديته في علاقته مع ربه ومع نفسه ومع محيطه يقول أحد أصدقائه: “وخلال الشهور الأولى التي قضاها بصير في الصحراء جاءت تقاريره ورسائله المكتوبة والمنقولة شفاهيا تؤكد بشكل مدهش إقبال المواطنين جميعا على الانخراط في التنظيم السري…” فكان لزاما أن تنتج هذه الإيجابية شهادة في سبيل الله.
أيها السادة والسيدات الأفاضل:
ليس الأمس بأحوج من اليوم لهذا الحضور الإيجابي، وما تجربة سيدي محمد بصير والتي تعد بحق ــ بشهادة أحد رفقائه ــ أعظم تجربة عرفها تاريخ الصحراء، يقول: “لقد أعطتنا تجربة بصير دروسا عظيمة في الكفاح السياسي والشعبي داخل الصحراء” فأين نحن اليوم من هذا؟ أثرنا السلبية وجمعناها من أطرافها، ونسينا بأن شرف الأصل، وطيب المنبت، وكرامة المحتد تأبى على المرء إلا التخلق بالمكارم، والاتصاف بمعالي الأمور، اقتداء بآبائه، وتأسيا بأشراف قومه، لو أريد شرا بدينه ووطنه وأهله، أو ارتكاب منكر اتجاه وحدة وطنه، لأبت عليه أصوله، وعاتبه ضميره، والمعتز بحسبه وكريم نسبه لا يفعل إلا ما يشكر عليه، ولا يقول إلا ما يصدق فيه.
وقد تحدثه نفسه بشيء من الجبن والبخل والكسل والتهور، والخمول القاتل، والشهرة الكاذبة، فيتذكر كرم أهله، وشجاعتهم في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ونشاطهم في دين الله وإناءتهم، وظهورهم بكل مكرمة، وقصورهم عن كل مذمة، فيثنيه ذلك عن قصده المذموم، ويرده عن غرضه السيء، متذكرا قول الله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما آلتناهم من عملهم من شيء كل امرء بما كسب رهين”.
إن الشريف الأصل، والطيب المنبت، والكريم المحتد، ثابت على مبدئه، متمسك بتقاليد قومه، لا يجيب كل ناعق، ولا يلتفت إلى كل داعي، حتى يعلم ما يدعو إليه، ويتبين السبيل التي يدل عليها ويرشد إليها، فإذا ظهر له الحق تمسك به ودعا إليه، أشرب قلبه حب وطنه بعد حب دينه، وعلم أن حب الأوطان من الإيمان، فدافع عن وحدته بكل ما أوتي من قوة، وصبر على ما يلقاه في سبيلها، ملتزما بذلك شابا وشيخا، صحيحا ومريضا، مسافرا ومقيما، حتى يكون أشد الناس به تمسكا، وأكثرهم له حبا سواء جار عليه وطنه أو عدل لأن العربي القديم قال: “تجوع الحرة ولا تأكل بثديها”.
أيها الإخوة إن وطننا اليوم يدعونا أن نكون إيجابيين أكثر من ذي قبل وإذا أردنا أن نحسب في صفوف الإيجابيين وجماعتهم، فلنحذر أن نكون من الفئة التي سماها الله تعالى “المعوقين” فقال: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا) الأحزاب: 18 .صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمته وبركاته.