همة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله خير النبيئين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله النخبة الأبرار المتقين.
أما بعد:
أيها الناس، أوصيكم ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وطاعته، امتثالا لقول الباري عز وجل: (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
أيها المؤمنون والمؤمنات إننا اليوم في حاجة ماسة لأن نتعلم من أصحاب النبي المختار الذين فهموا أن الانتماء لدين الله جل وعلا يستوجب أن يبذل الواحد منهم أقصى ما في طاقته من جهد لهذا الدين، وها أنا اليوم أقدم لكم نموذجا رائعا من ذلكم الجيل الفريد إنه صديق الأمة الأكبر، إنه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه الذي قال فيه سيدنا محمدا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام : “لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا”، وأتمنى عليكم أن تتدبروا هذه النماذج، فأنا لا أسوقها لمجرد الثقافة الذهنية الباردة، ولا من أجل التسلية وتضييع الوقت، بل إني أجعلها محور خطبتي ليقف كل واحد منا مع نفسه ويسألها بعد ذلك ماذا قدمت أنا لدين الله جل وعلا؟.
إن هذا الدين – عباد الله – أمانة في عنق كل واحد منا، فلا تظنوا أن الأمر لا يعنيكم من قريب أو من بعيد وإلا فباعتقادنا هذا نهلك مع الهالكين.
أيها المؤمنون، إن من فضائل أبي بكر رضي الله عنه أنه أول من أسلم من الرجال، وهو الذي نزلت في شأنه آيات من القرآن في غير ما موضع، نذكر منها قوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى)، فالله عز وجل سماه الأتقى في الآية الكريمة.
وهو الرجل الذي استحق أن يكون أقرب الخلق إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: “يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة قال: من الرجال؟ قال: أبوها، قال عمرو: ثم من؟ قال المصطفى: ثم عمر”.
أيها المؤمنون والمؤمنات إن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه يعد مثالا أسمى في اليقين المطلق والهمة العالية فقد جاء في صحيح البخاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال الصديق صاحب أعلى همة في الأمة بعد نبيها: يا رسول الله! فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟ قال المصطفى: نعم، وأنت هو يا أبا بكر”.
إنها الهمة العالية التي لا ترضى إلا بقمم الأشياء، لم ينل سيدنا أبو بكر ما نال بالتمني والتواكل والكسل ولكن بالجد والاجتهاد والمثابرة، صح أيضا عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه سأل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ذات يوم: “من أصبح اليوم منكم صائماً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فسأل: من أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فيقول أبو بكر: أنا يا رسول الله، فيسأل النبي: من تبع اليوم جنازة؟ فيقول أبو بكر: أنا يا رسول الله! فيسأل النبي: من عاد اليوم منكم مريضاً؟ فيقول أبو بكر: أنا يا رسول الله! فيقول المصطفى: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة”، يبشره بالجنة وهو لا زال يمشي على وجه الأرض.
ومن الذي بشره هذه البشارة العظمى؟! هل هي هيئة مشبوهة تعمل لزيد من الناس أو عمرو؟ لا أيها المؤمنون، وإنما الذي بشره بالجنة أعظم البرية صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى.
إنه التسابق! إنه التنافس على الخيرات والطاعات، وبهذا ارتقى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الدرجات العالية.
أما ما ذكر عن بذل الصديق وعطائه، فاستمعوا لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “ندبنا النبي صلى الله عليه وسلم للصدقة ذات يوم فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر ولم أكن أسبقه في شيء طول الدهر، فجئت بنصف مالي فتصدقت به، فقال: ما أبقيت لأهلك؟، قال عمر: أبقيت لهم مثله، ويأتي أبو بكر بكل ماله لم يبق قليلا ولا كثيرا، فيقول له رسول الله: ما أبقيت لأهلك؟، قال: أبقيت لهم الله ورسوله !! فيقول عمر: فقلت في نفسي والله لا أسابقك إلى شيء بعد اليوم أبدا”.
وهو الذي أعتق عشرين من الصحابة من ربقة العبودية، وكانوا يعذبون بأشد أنواع العذاب وأقساه، وأنفق في ذلك أربعين ألف دينار، هي كل تجارته، ليحقق معنى الجسد الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وكان صاحب يقين مطلق في رسول الله والذي يدلنا على ذلك أن المشركين جاءوا إليه صباح ليلة الإسراء والمعراج مستهزئين متهكمين مطمئنين من الإجابة بالسلب والإنكار فسألوه: “أو ما سمعت يا أبا بكر؟! يزعم صاحبك أنه أسري به من مكة إلى المسجد الأقصى ثم إلى السماوات العلى وعاد إلى بيته في نفس الليلة؟!” فيرد صحاب اليقين الثابت ويقول: “أوقد قال ذلك؟! فقالوا: نعم.قال: إن كان قال ذلك فقد صدق!” يقين مطلق!! ويوم مات المصطفى صاح عمر الفاروق الملهم: والله لأعلون بسيفي هذا من زعم أن رسول الله قد مات، فرسول الله ما مات، بل ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن فليقطعن أرجل وأيدي المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات، تصوروا معي أن هذا الكلام صدر من عمر ومن جمع من أكابر الصحابة طاشت عقولهم من هول ذلك الموقف الجلل الذي لم ولن تصب الأمة بمثله قط، لم تحملهم أقدامهم! وجاء الصديق بيقين ثابت فدخل غرفة عائشة وتيقن أن الخبر قد وقع، وأن حبيبه قد مات، فكشف الغطاء عن وجهه، وقبل بين عينيه، وقال منادياً: وآخليلاه وآحبيباه وآنبياه! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها فلا ألم عليك بعد اليوم، وخرج الصديق فقال: على رسلك يا عمر! فالتف الناس حوله، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، مذكرا إياهم بقوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)، لله دره.
وروى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي، فقال أبو بكر وددت يا رسول الله أني معك حتى أنظر إليه، فقال له عليه الصلاة والسلام:أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي.
الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فيأيها المؤمنون والمؤمنات، يقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى الالْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُومِنُونَ).
أيها المؤمنون والمؤمنات، لقد وقفنا وإياكم وقفة قصيرة مع رجل لا كالرجال، وفذ لا كالأفذاذ، يكفيه أنه صاحب رسول الله المقدَّم، إنه عظيم القدر رفيع المنزلة، نصر سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم، يوم خذله الناس وآمن به يوم كفر به الناس وصدقه يوم كذبه الناس، جَهل مقامه وقدره وتضحياته الكثير من أبناء المسلمين، ولم يقدروه حق قدره، وهو واحد من الصحابة الأجلاء الذين ينبغي أن نقتدي بهم.
وللأسف الشديد نجد الكثير من أبناء جيلنا ورجالنا ومثقفينا وكتابنا وشبابنا وبناتنا يغفلون عن الانتباه إلى التأسي بأمثال هؤلاء العظام، في حين يعرفون عن مغنية أو مغنًّ أو لاعب رياضي أو ساقط أو ساقطة، أكثر مما يعرفون عن رجالات تاريخهم التالد والحمد لله رب العالمين.
الدعاء…