الزواج نصف الدين(2)
الحمد لله، الحمد لله القائل في كتابه المبين: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنو إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)،
نحمده تعالى على ما هدانا إليه، ونسأله سبحانه أن يجعلنا من الشاكرين لنعمائه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم)،
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده رسوله حث على الزواج ورغب في تيسيره وتسهيله، لما فيه من المصالح الدينية والدنيوية، والعواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، مبشرا من أقدم عليه بعون من الله قال صلى الله علسه وسلم: “ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف” صلى الله علسه وسلم وعلى آله وأصحابه المهتدين بهديه المتمسكين بشريعته، وسلم تسليما كثيرا أبدا،
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون،
في الأسبوعين الماضيين، كنا قد تكلمنا عن موضوع الزواج، وبيننا الآيات والأحاديث التي تأمر المسلمين بالعمل على تيسيره والترغيب فيه لما فيه من المصالح الدينية والدنيوية، من الإعانة على غض البصر وحفظ الفرج، والسكن الروحي والاستقرار الاجتماعي، وحفظ الأنساب، وتلاقي الأسر، وصيانة المجتمع من التفسخ والانحلال الذي عم البلدان التي لا ضابط لأخلاقها وشهواتها، قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)، ووقفنا عند شروط الزواج المتعلقة بالزوج والزوجة نلخصها في هذين الحديثين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله علسه وسلم قال: “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض”، وقال أيضا “تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك”.
أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات،
من شروط الزواج علاوة على الأخلاق التي ركز النبي صلى الله علسه وسلم عليها في كلا الزوجين المهر، وهو ذلك الصداق الذي يعتبر عربونا عن الوفاء والمحبة ونية الديمومة في الحياة الزوجية بين الزوجين، ولكن الناس في زماننا هذا جعلوا منه وسيلة لإثقال كاهل الشباب، خاصة لما تشترط أسرة الزوجة مهرا غاليا مكلفا تتباهى به بين الناس في حين أن الزوج ربما يضطر للاستدانة أو يتراجع عن نيته في الزواج، وبهذا تحصل الفتنة،
واعلموا أن غلاء المهر سبب رئيسي لإحجام الكثير من شبابنا وعزوفهم عن الزواج خوفا من أن يثقل أحدهم كاهله بدين يصعب على الجبال الراسيات حمله، ولقد استنكر النبي صلى الله علسه وسلم المغالاة في المهور، كما ورد ذلك عنه صلى الله علسه وسلم أنه قال لرجل: “على كم تزوجت؟ قال الرجل: على أربع أواق يعني من الفضة، فقال له صلى الله علسه وسلم: على أربع أواق، كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل” قال العلماء: أنكر عليه صلى الله علسه وسلم هذا المبلغ لأنه كان فقيرا.
فالفقير يكره له تحمل الصداق الكثير بل يحرم عليه إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة، والغني يكره له دفع المهر الكثير إذا كان من باب المباهاة، ولأنه يسن سنة سيئة لغيره، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا تغلوا في صدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة، كان أولاكم بها النبي صلى الله علسه وسلم ما أصدق رسول الله صلى الله علسه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية”، وقد قال عليه الصلاة والسلام: “خير الصداق أيسره”، وقال أيضا: “أكثر النساء بركة أيسرهن مؤونة”،
وكم من النساء ضعن بسبب غلاء المهر الذي كان يطلبه أولياؤهن، وهم لا يعلمون أن بصنيعهم هذا فوتوا على بناتهم وعلى من ولاهم الله أمر رعايتهن وتزويجهن خيرا كثيرا، وربما دفعوا بهن إلى العنوسة والضياع وارتكاب الفواحش، إما بسبب غلاء المهور أو بسبب استكمال الدراسة، ونحن نجني في مجتمعنا الآن عواقب ذلك إذ تؤكد الإحصائيات أن السبب الأول في عنوسة النساء اللائي لم يجدن خاطبا أنهن فضلن عن وعي أو عن غير وعي أن لا يتزوجن حتى ينهين دراستهن، فماذا كانت العواقب، أن بعد انتهاء الدراسة والحصول على الدبلومات العالية والوظيفة السامية فاتهن قطار الحياة وفقدن ما يدفع الرجال للتفكير بهن كزوجات، ضاع الجمال، وكبرت السن، واحتد المزاج، وترجلت المرأة فكيف لرجل أن يعاشرها ويفكر فيها.
وليس معنى هذا أننا لا نرى دراسة المرأة بل تدرس وتطلب الشهادات العليا لكن إن تقدم إليها عريس وكان كفؤا فلترض به ولتتزوج ولا تتعذر بالدراسة لأنه قد يكون أول عريس وآخر عريس ويفوتها القطار وتعض بعد ذلك أصابع الندم، فاتقوا الله ولا تمنعوا زواج بناتكم من أجل أهوائكم ورغباتكم الشخصية أو من أجل أطماعكم الدنيئة أو عدم مبالاتكم، فإنهن أمانات في أعناقكم وقد استرعاكم الله عليهن “فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”. جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون،
إذا كانت حكَِم الزواج وأسراره عظيمة، ومنافعه وآثاره على المجتمع محمودة جلية، فما بالنا نرى مجتمعاتنا الإسلامية تشكو العنوسة وتأخر سن الزواج في الفتيان والفتيات، تتقدم بهم السنون، وتزداد أمامهم العراقيل، وتتفاقم في وجوههم المشكلات، كل ذلك نراه خلافا لما كان عليه حال آبائنا وأجدادنا؟ كان الزواج يتم بأيسر الطرق وأقل التكاليف.
والسبب في ذلك الشروط الكثيرة التي يطوق بها الخاطب، إن تضييق فرص الزواج علة خراب الديار، به يُقتل العفاف، وتوءد الفضيلة، وذلك التضييق هو طريق الفساد، وهتك حجب الستر والصيانة، إنها سوءات وخبائث لا تظهر إلا إذا افتعلت الحواجز، وتنوعت العوائق أمام الراغبين من البنين والبنات.
لقد أصبحنا ونحن نجد في مجتمعنا نساءً كبرن أو تجاوزن سن الزواج دون زواج، ولا شك أن ذلك مأساة كبيرة، وخطر عظيم، يواجهه العالم أجمع لكنها ظاهرة غريبة على مجتمع يعيش تعاليم شرعية، وأحكامًا إسلامية، وعادات وتقاليد سامية، بل إن هذه الظاهرة تنتشر لدى الشباب أيضا فترى بعضهم ممن يتقدمون إلى الأسر فيُردون عن الزواج لأسباب واهية تسببت في تأخير زواج كثير منهم أو زواجهم من غير مجتمعهم وبيئتهم.
إنها مشكلات وعوائق راجعة إلى خلل في التصور، وزعزعة في الفكر، وراجعة إلى ضعف في العقيدة، وخلل في تطبيق الشريعة، إنه التفكير المشوش حول المستقبل إنه تعلق بالشهادات وتأمين فرص العمل والاشتغال بالترقي في سلالم التعليم حتى يفوت الجميع قطار الزواج، ومشاركة الوالدين وتأييدهما وقبول المجتمع لهذه الظاهرة يؤكد هذا الخلل في التفكير والانقلاب في الموازين، وتزعزع الثقة في الله، الذي وعد المقدمين على الزواج بنية الإحصان والاستعفاف بعونه وعطائه، قال تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله .
الدعاء.