الزواج نصف الدين

الحمد لله، الحمد لله القائل في كتابه المبين: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنو إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)،

نحمده تعالى على ما هدانا إليه، ونسأله سبحانه أن يجعلنا من الشاكرين لنعمائه،
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حكم فقدر، وشرع فيسر، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده رسوله حث على الزواج ورغب في تيسيره وتسهيله، لما فيه من المصالح الدينية والدنيوية، والعواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، قال ص: “يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا”، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المهتدين بهديه المتمسكين بشريعته، وسلم تسليما كثيرا أبدا، أما بعد،

فيا أيها الإخوة المؤمنون،
تعلمون جميعا أن الإسلام وقف موقفا حازما دون إرخاء العنان لغريزة الإنسان، وقيدها بقيود تتفق ورسالته التي حمله إياها خالق الأكوان، فحرم عليه الزنا واللواط لما يؤديان إليه من الفساد والخسران، وقاوم الرهبانية التي تتعارض مع فطرة الإنسان، وقال على لسان خير ولد عدنان: “لا رهبانية في الإسلام”، وحارب هذه العناصر بالدعوة إلى الزواج والإحصان، وجعل الله عز وجل الزواج آية من آياته المتجلية في النبات والإنسان والحيوان، فقال تعالى في سورة يس التي هي قلب القرآن: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون)، وقال أيضا: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون).

والزواج هو الأسلوب الذي اختاره الله تعالى للتوالد والتكاثر، واستمرار الحياة بعد أن أعد كلا الزوجين، وهيأهما ليكونا مسؤولين، بحيث يقوم كل واحد منهما بدوره الإيجابي الخاص به في تحقيق هذه الغاية التي خلق من أجلها الإنسان، قال تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا).
والزواج سنة من سنن الأنبياء وهد من هدي المرسلين، وهم القادة الذين يجب علينا أن نقتدي بهداهم، ونعمل على اقتفاء أثرهم، قال تعالى: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك، وجعلنا لهم أزواجا وذرية)،  وقال صلى الله عليه وسلم: “أربع من سنن المرسلين: الحياء والتعطر والسواك والنكاح”.

والزواج أمر طبيعي للرجل والمرأة، ومسألة حتمية مقررة بالفطرة التي فطر الله الناس عليها.فالمرأة بضعة من الرجل لا يتحقق وجوده كاملا بدونها، فهي سكن له، يجد في معاشرتها السكينة وراحة النفس وطمأنينة القلب، وجعل بين الزوجين رابطة قوية تجعل كلا منهما يضحي بمصالحه في سبيل مصلحة الآخر، وهي المودة والرحمة قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).

وقد شرع الله تعالى الزواج الذي هو اجتماع الفرع بأصله حدودا تنظمه، وأحكاما تعصمه من عبث العابثين ومن الخروج به عن أصول الدين، فقال وهو أحكم الحاكمين: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم)، والأيامى هم الذكور والإناث غير المتزوجين، وقال صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف”، فقوام الزواج في حكم الإسلام أيها المؤمنون هو الصلاح، وليس الغنى، ولا تفرقة فيه بين الأحرار، وبين من كانوا عبيدا أو إيماء في الجاهلية، وعلى من لا يقدرون عليه أن يلتزموا العفة لقوله تعالى: (وليستعف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله).

وما أصدق ما قال عليه الصلاة والسلام في إظهار حكمة الزواج الخلقية وفائدته الاجتماعية حين كان يحض فئة من الشباب على الزواج فقال صلى الله عليه وسلم: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة (القدرة على الزواج) فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (قاطع للشهوة)”، لأن بالزواج يسلم المجتمع من الإنحلال الخلقي، ويأمن أفراده من التفسخ الإجتماعي، ذلكم أن غريزة الميل إلى الجنس الآخر حين تشبع بالزواج المشروع والإتصال الحلال تتحلى الأمة أفرادا وجماعات بأفضل الآداب وأحسن الأخلاق، وجميل الصفات، وتكون جديرة بأداء الرسالة وتحمل أعباء المسؤولية على الوجه الذي يريده الله. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض”.

الخطبة الثانية
نعم أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض”، فمن يكن ذا دين وأمانة وخلق حسن وجب الرضى به، وتزويجه ولو كان فقيرا، فإن حلنا بينه وبين الزواج لفقره وقعت الفتنة وانتشر الفساد على النحو الذي فشا بين العباد مشرقا ومغربا في الحواضر والقرى والله تعالى يقول: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة  واعلموا أن الله  شديد العقاب)،

واعلموا إخواني أن شروط الدين مطلوبة في المرأة كما هي في الرجل على السواء، فلا بد لهما منه وإلا اضطرب الميزان وساءت الحال، وكانت العاقبة وخيمة على النساء والرجال، قال صلى الله عليه وسلم: “تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك”. فالدين هنا يعلوا على الثلاث المغريات: المال والحسب والجمال، ذلكم لأن الدين مصدر كل كمال، وتاج كل فخار، وزينة في النساء والرجال، والزواج في الإسلام يؤخذ منه طابع البساطة وروح التيسير على كل من يرغب فيه، فلا مغالاة فيه إذا صدقت النيات وتلاقت الرغبات وصلحت الأخلاق وتكافأت القدرات نظرا لأهميته وترغيب الشارع فيه.

ولهذا رأى سيدنا عمر بن الخطاب ض بعد أن أدرت الفتوح الإسلامية من الخيرات والبركات على المسلمين الشيء الكثير أن يكبح جماح الذين يرغبون في الزواج بغلاء المهور وصرف الأموال الكثيرة، فكان ينهاهم عن الإسراف الذي هو سفه عند الأغنياء ومولد حقد في نفوس الفقراء وكان يقول: “ما تزوج رسول الله ص ولا زوج بناته بأكثر من أربعمائة درهم، بل إنه تزوج صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه على عشرة دراهم، وكان بيت كل واحدة منهن لا يزيد على رحى يد وجرة ماء ووسادة من أدم لحشوها ليف، وكذلك كان فراشه وفراشهن، وهو من هو ليس به فقر ولا خصاصة، ولو شاء لعاش مثلما كان يعيش كسرى عظيم الفرس، وقيصر ملك الروم، متقلبا هو وزوجاته في مطارف الخز والديباج، وعلى سرر من ذهب وفضة، وكان نساؤه صلى الله عليه وسلم من أرفع العرب حسبا وشرفا، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم يتزهد في الدنيا ويرضى منها بالقليل، ويؤثر الآخرة على الأولى ليمضي المسلمون على سنته، وينهجون طريق حياته، وهذا في حياة المسلمين يعني الاعتدال والقصد والتيسير،

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: “النكاح سنتي، فمن أحبني فليستن بسنتي”، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

إذا كان المهر مشروعا في الزواج فإنه ينبغي أن يكون مقداره بالمعروف طبقا لحال الزوج وحال الزوجة، لأن المقصود بالزواج هو تحصيل كفء للمرأة تتوفر فيه القوامة عليها لا الحصول على المهر الذي يعطى لها، فالمهر وسيلة لا غاية، ولذلك يجب أن يكون في حدود معقولة وحسب الاستطاعة ولو كان خاتما من حديد، أو دينا في ذمة الرجل، (لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسرا)،

فقد روى البخاري أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه مع أصحابه فقالت: “يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تبرح المرأة مكانها (وكان واضحا أن المرأة تعرض نفسها للزواج نظرا لوحدتها، وفقرها، أو حاجتها إلى من يعولها ويحميها)، فقام رجل من أصحاب رسول اله صلى الله عليه وسلم فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يزوجه إياها، فسأله صلى الله عليه وسلم عما يملك من صداقها، فقال ما عندي من شيء قط، قال صلى الله عليه وسلم: ولا خاتم من حديد؟، قال: ولا هذا، ولكن هذا إزاري فلها نصفه، فقال صلى الله عليه وسلم ماذا تصنع بإزارك؟ إن لبسته أنت لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته هي لم يكن عليك منه شيء. ثم سأله عليه الصلاة والسلام قائلا، وماذا معك من القرآن؟، فقال: معي سورة كذا وكذا وكذا، وعددها فقال صلى الله عليه وسلم: تقرؤهن عن ظهر قلبك؟، قال نعم، قال صلى الله عليه وسلم: فاذهب فقد زوجناكها بما معك من القرآن”.

أيها المؤمنون فلا أبلغ من هذا الحديث ولا أدل على ما كان يتحراه الرسول صلى الله عليه وسلم في التيسير في أمر الزواج،  الذي هو نصف الدين لقوله صلى الله عليه وسلم: “من تزوج فقد أحرز شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني”، ولكن كثيرا من لناس اليوم قد خرجوا عن سماحة الإسلام وسمو تعاليمه فعقدوا الزواج ووضعوا العقبات في طريقه فخلقوا أزمة تعرض بسببها الرجال والنساء لآلام العزوبة وأخطارها والاستجابة إلى العلاقات الطائشة والصلات الخليعة وما ينشأ عن ذلك من مشاكل داخل البيوت وخارجها.

فاتقوا الله في أولادكم وبناتكم، وعودوا إلى تعاليم الإسلام فيما يتصل بتربية المرأة وتنشئتها على الفضيلة والعفاف والاحتشام، واتركوا التغالي في المهور وتكاليف الزواج والتعلق قيما لا ستطاع تحقيقه، وفيما لا حاجة إليه، ولا شيء أعون على ذلك من فهم حقيقة الدين وتطبيقه في جميع أمور المسلمين، خصوصا الزواج الذي هو نصف الدين وأن الله “لمع الذين اتقوا والذين هم محسنون”.

الدعاء.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *