أمراض وعيوب هالكة
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك
وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله؛
قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا”، وروى الإمام أحمد والترمذي عنِ الزُّبَيْرِ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَهِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ حَالِقَةُ الشَّعَرِ، وَلَكِنْ حَالِقَةُ الدَّيْنِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاتَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثْبِتُ ذَلِكَ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلام”.
أيها الإخوة الكرام، إن من الظواهر السلبية الهالكة المنتشرة في مجتمعنا، ومن العيوب القادحة في عبوديتنا لله، ومن الآفات الجسيمة الدالة على مرض قلوبنا وعدم صفائها وطهارتها، واتصافنا بها معيار حقيقي عن قلة إيماننا بالله، هذه الآفات والعيوب تتجلى في استهتارنا وتساهلنا العظيم في أمر الغيبة والنميمة وأكل لحوم الناس بالباطل في معظم مجالسنا واجتماعاتنا، مما يفضي إلى انتشار الحقد والحسد والبغضاء والتنافر بين أفراد المجتمع، ويؤدي تلقائيا إلى ظهور آفات أخرى لا قبل لنا بها،كالخصام والتشاجر والسب والمكر والخداع والتحايل والتنافس الغير الشريف وإضمار الشر والتدافع المقيت، هذه الأمراض التي ابتلي بها غالبية الناس في أيامنا هذه إلا ما ندر.
والدليل أيها الإخوة والأخوات على تساهلنا في هذه العيوب القادحة وأنها أصبحت أمرا عاديا في مجتمعنا أننا لو توجهنا بالسؤال إلى أي واحد منا عن معنى الغيبة والنميمة؟ لقال تلقائيا الغيبة ذكرك أخاك في غيبته بما يكره، والنميمة هي نقل كلام بين شخصين أو أكثر مما يؤدي إلى الفتنة والمشاكل بينهما، وإذا سألنا عما يفعله الحسد بالأعمال لقال: يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وإذا سألنا سؤالا آخر لم لا تجتنب هذه الصفات؟ لقال في الجواب: إن الجميع يفعل ذلك وأصبح الأمر عاديا، أو جوابا قريبا من هذا.
أيها الإخوة الكرام، قيل لبعض الحكماء: ما الحكمة في أن ريح الغيبة ونتنها كانت تتبين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتبين في يومنا هذا؟ قال: لأن الغيبة قد كثرت في يومنا، فامتلأت الأنوف منها، فلم تتبين الرائحة وهي النتن، ويكون مثال هذا، مثال رجل دخل الدباغين، لا يقدر على الجلوس فيها من شدة الرائحة، وأهل تلك الدار يأكلون فيها الطعام ويشربون الشراب ولا تتبين لهم الرائحة لأنهم قد امتلأت أنوفهم منها، كذلكم أمر الغيبة وسائر العيوب التي ذكرناها آنفا في أيامنا هذه عندما نتعايش معها تصبح أمرا عاديا.
هذا وإن الواحد منا لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه كما هو معلوم، فلا يجتمع بحال من الأحوال في جوف امرئ الإيمان وهذه الأمراض التي ذكرناها آنفا، والمسلم الصادق حقا هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم”.
أيها الإخوة الكرام، عجيب أن يأتي أحدنا يوم القيامة بالصلاة والصيام والحج والعمرة ومختلف أعمال الخير والبر يعول عليها في رصيد حسناته، فإذا به يتفاجئ ويجدها قد تبخرت وأصبحت هباءً منثورا، أعمال مهمة تعب في تحصيلها وجاهد نفسه وحرمها من مختلف ملذات الدنيا وفي النهاية يكون مصيره النار والعياذ بالله خسر الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)، فما الحل أيها الإخوة والأخوات وكيف الخلاص من هذه الأمراض والتداوي منها؟
أول هذه العلاجات حسن الظن بالآخرين، فكلما وسوست لك نفسك والشيطان بسوء ظن بالآخرين فوراً تعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن كل ما تحدثك به نفسك اتجاه عباد الله، فالنفس أمارة بالسوء ثم أستغفر الله بما حدثتك به نفسك من سوء ظنٍ فالله سبحانه وتعالى أخبرنا بأن سوء الظن إثم فقل اللهم أغفر لي ما أسررت وما أعلنت، يقول عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ).
وثاني هذه العلاجات قلة الكلام ومعاهدة النفس على الانضباط وعدم الخوض في الغيبة والنميمة، عود نفسك قبل أن تجلس مع أهلك وقبل أن تجيب على الهاتف وقبل زيارتك لأحد من الناس، حدث نفسك وعاهدها بأن لا تغتاب أحدا وتجنب أي كلام يكون سببا لجر اللسان للكلام في الناس والطعن فيهم، ووطن نفسك على الاستغفار والتوبة بعد كل مكالمة أو زيارة حتى ولو لم تغتب، فربما خرجت منك كلمه سيئة هنا أوهناك وأنت لا تدري، فقل اللهم أغفر لي ما أعلم ومالا أعلم وادع لمن اغتبته بالمغفرة والرحمة ولا تنس كفارة المجلس قبل القيام من مجلسك، وكان الأجدر بأمثال هؤلاء الكلام في أمورهم الخاصة ومشاكلهم العالقة ليجدوا لها حلولا أو الاشتغال بذكر الله ومدارسة أمور الشرع والتفقه في الدين، فكل ساعة لم نذكر الله فيها ستتقطع أنفسنا عليها حسرات يوم القيامة، حُكي عن بعض الحكماء أنه رأى رجلاً يُكثر الكلام ويُقل السكوت، فقال إن الله تعالى إنما خلق لك أذنين ولسانا واحداً، ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به.
ومن الأدوية الناجعة عند رؤية التصرفات السيئة والخاطئة من أي شخص لا تنتقده ولو في خاصة نفسك، فإنك عندما تنتقده تلقائيا تزكي نفسك، وبخ نفسك وانهرها وقل لها من أنت حتى تنتقدي الناس؟ وهل أنت كاملة أو خالية من العيوب؟ وهكذا افعل دائما حتى لا يدخل عليك العُجب والغرور، وهما أيضا من المهلكات، و اعلموا أن مجاهدة النفس بهذه الطريقة وعدم الخضوع لها يهذبها ويجعلها أكثر استقامة وطهارة، وهكذا كان دأب الصحابة والسلف الصالح رحمة الله عليهم أجمعين.
ومن الأدوية الإكثار من الدعاء بأن يطهر الله قلبك من الغل والحقد والحسد قال تعالى: (ربنا لا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا)، فلا تحقد واعف عمن أساء إليك من اللحظة الأولى ولا تؤجل العفو والتسامح، فكلما أجلت صعب عليك ذلك لأن الشيطان يبدأ في تضخيم الأمر وتصعيبه عليك، فلا تدع له مجالاً، وستشعر بالراحة والاطمئنان وبلذة الإيمان وحلاوته وتكسب محبة الناس وثقتهم فيك، اللهم طهر قلوبنا من كل خلق لا يرضيك، وطهرها اللهم من الغل والحقد والحسد والتنافر والتباغض، وطهرها اللهم من كل سوء ومن كل داء آمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فيا عباد الله
روى الإمام البيهقي عن الحسن قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يستقم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قليه حتى يستقيم لسانه ولا يدخل الجنة رجل لا يأمن جاره بوائقه” أي شروره، وروى ابن ماجة عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” “لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا”، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال:” أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها”، معنى هذا الحديث باختصار أن بعض الناس تجدهم من المصلين المحافظين على الصلاة مع الجماعة، أما إذا غابوا عن الناس فجروا ومكروا، ولم يستحوا من ربهم في الوقوع في المحرمات وانتهاك الأعراض من السب والغيبة والنميمة والظلم والتعدي على حقوق الآخرين، يصدق فيهم قوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً).
الذي ينبغي أن يعلم أيها الإخوة والأخوات من خلال طرقنا لهذا الموضوع أنه بقدر ما ينبغي الاحتراز من الوقوع في هذه الآفات الخطيرة المبطلة للأعمال أنه ينبغي أن لا تكترث لنقد الناس وما يقولونه عنك، فهم بعملهم هذا يجلبون الضرر لأنفسهم في الدنيا والآخرة، وأنت هو المستفيد لأنهم يهدون إليك خيار حسناتهم، قال رجل لعمرو بن عبيد إن الأسواري مازال يذكُرك في قصصه بشرٍ، فقال له عمرو يا هذا، ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه أن الموت يعُمنا والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا، والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين، وروي عن الحسن أن رجلاً قال: إن فلاناً قد اغتابك، فبعث إليه طبقاً من الرطب، وقال: بلغني أنك أهديت إليّ حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك بها على التمام.
إن هذه العيوب القاتلة تهدد الصحة وتجعل الحياة أكثر نكداً وغماً وكمدا ولها تأثير قوي على شخصية المرء فهي تجعله أكثر قلقاً وأكثر توتراً واضطراباً وأقل تركيزاً وبالنهاية تقل إنتاجيته ومردوديته في الحياة، هذا من الناحية الدنيوية، أما من الناحية الروحية الدينية فإن لهذه العيوب إضافة إلى ما ذكر تأثير سلبي كبير على دين المرء وعباداته، ويكفي أن المتصف بها يتثاقل عن ذكر الله تعالى ويحرم التلذذ بعبادته والأنس به وينفر الناس منه. والحمد لله رب العالمين.