محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام دينا، نحمده تعالى حمدا كثيرا ونشكره جل وعلا شكرا جزيلا،
ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو بكرة وأصيلا، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث للناس كافة بشيرا ونذيرا، تولاه الله بعنايته فأدبه بنفسه، وأكسبه من المحامد ما جعله محبوبا عند الناس جميعا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل محبته، وسلم تسليما كثيرا،
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، ويا أتباع محمد عليه أزكى السلام وأطيب الصلوات، ويا محبيه الذين يتنافسون في إقامة الذكريات فرحا بمولده وببعثته وإشراق نور طلعته، الذين يجعلون من شهر ربيع الأول شهر عيد لتذكر سيرته ومعرفة نسبه، ونشاطا متنوعا لمراجعة أخلاقه وغزواته، والوقوف على معاملته لأصدقائه وأعدائه، وكيف كان يحث أصحابه على الإخلاص في محبة خالقهم ومحبة نبيهم، ومحبة دينهم، وكيفية التعامل فيما بينهم حتى يكونوا كما وصفهم ربهم حيث يقول: “كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”.
وكما تعلمون أيها المسلمون، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وذكرى مولد نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، تزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم، وتزيل الأكدار من أنفسهم، فتصفوا لأن الله عز وجل جمع فيه من المحاسن والصفات الأخلاقية والمكرمات ما منحنا به خير الدنيا والآخرة، فاستحق صلى الله عليه وسلم أن يكون حظه من محبتنا له أوفى وأزكى من محبتنا لأنفسنا وأولادنا وأموالنا والناس كافة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”.
وليس المقصود من المحبة هو التعظيم والإجلال فحسب، لأن التعظيم والإجلال لا يستلزمان المحبة، بل المحبة هي الشعور القلبي في الإنسان، والميل العاطفي، والتجاوب النفسي والروحي مع من يحب، وأن يجد المحب مسرته في النظر إلى حبيبه، ولذته في الاستماع إلى كلامه، وراحته في تنفيذ أوامره، ومن لم يجد في نفسه هذا الميل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكمل إيمانه ولم تطمئن نفسه، وبهذا يتم تفسير الحوار الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين صاحبه الفاروق عمر، لقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر”، أي الآن نلت الدرجة العليا بتخليك عن الطبع البشري، وبارتقائك إلى منزلة الحب الاختياري الذي يقود صاحبه بزمام الفضيلة والإيثار والتضحية، وجعل كل شيء بعد محبة الله ومحبة رسوله في المرتبة الثانية.
وهذا نموذج من تلك المحبة الصادقة الصافية، فقد روى ابن إسحاق أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزجها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا خيرا، هو بحمد الله كما تحبين، فقالت أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: “كل مصيبة بعدك جلل –أي صغيرة- يا رسول الله”، إنه صبر جميل، وإيثار كبير ما كان ليصدر إلا عن قلب مؤمن محب رحيم، وجد السلوى في محبة الله ورسوله العظيم، هذه المرأة المحبة لم تهزمها المصائب والأتراح، ولم تنل منها الكلوم والجراح، فطوبا لها من امرأة أنستها محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء، وعلى العموم فإنه لا حياة للقلب إلا بمحبة الله وبمحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عيش إلا لمن قرت أعينهم بحبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم، وسكنت نفوسهم إليه، واطمأنت قلوبهم بذكره، واستأنسوا بحديثه، واستناروا بهديه وشريعته، ومن لم يظفر بتلك المحبة دخل في إطار الوعيد، وظلت حياته كلها هموما وغموما وآلاما وحسرات، قال الله تعالى في سورة التوبة: “قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب ليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين”.
وعليه إخواني، فمحبة الله تقتضي المواظبة على الطاعات، وتجنب الوقوع في المعاصي والشبهات، ودلائلها امتثال الأوامر واجتناب النواهي في جميع الحالات، وكيفما كانت الضرورات، وكذلك محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتضي أن يرضى المؤمن بكل ما أمر به ونهى عنه، ولا يجد في نفسه حرجا مما قضاه، وأن يتخلق بأخلاقه في الجود والحلم والتواضع ومجاهدة النفس والإيثار والمحبة، ومن علامات ذلك الحب الإقتداء به واتباع سنته، والاهتداء بهديه والوقوف على ما حده لنا وبينه من شريعته دون نقص أو زيادة، قال تعالى: “قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، والله غفور رحيم، قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين”.
وقد أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة فكانوا يتعلقون بمحبته ويشتاقون إلى رؤيته، ولا يطيقون البعد عنه ولو برهة قصيرة، لقد روي أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، أتاه ذات يوم وقد تغير لونه وظهر الحزن على وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما غير لونك يا ثوبان؟، فقال: يا رسول الله، ما بي مرض ولا وجع، غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أن لا أراك لأنك ترفع مع النبيئين، وإني إن دخلت الجنة دخلت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدا، فنزل قول الله تعالى في سورة النساء: “ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيئين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا”، فاطمأنت بهذه الآية نفوس المؤمنين جميعا، وأعطوا الدليل على محبتهم لنبيهم بنشر شريعته ونصر دينه، وإحياء سنته، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: “من أحيى سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة”.
اللهم اجعلنا من محبيه المتمسكين بسنته المتبعين لشريعته إلى يوم اللقاء به، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أما بعد، فيا أيها المسلمون، اعلموا أن للمحبة مراتب، وأن المسلمين كلهم يحبون رسولهم صلى الله عليه وسلم ويحتفلون به، ولكن مراتب المحبة لديهم تختلف على قدر إيمانهم، فمنهم من يكثر من ذكره والصلاة عليه، وينكسر عند سماع اسمه لما يصدرعنه من خشوع وتعظيم وإكبار لجنابه، ومنهم من يغفل عن ذكره ولا يصلي عليه حتى عند سماع اسمه، وهذا قصور في حقه صلى الله عليه وسلم، وليعلم الجميع أننا بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ننال شفاعته، وندرك قربه ونشرب من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبدا إن شاء الله، ورد في الحديث أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: وما أعددت لها؟، فقال: والله ما أعددت لها كثير الصلاة ولا الصيام، إلا أنني أحب الله ورسوله، فقال له صلى الله عليه وسلم: “المرء مع من أحب”.
فمقام المحبين لله ولرسوله في الجنة عال، ومكانتهم عند الله سامية لما يبذلون من جهد وما يقدمون من تضحيات حين يعصون أنفسهم ويخالفون أهواءهم والشيطان، ويطيعون مولاهم وخالقهم، ويتبعوا رسولهم، ويؤثرون ما عند الله على ما عند غيره من الأنام، أخرج أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح عن سيدنا عمر رضي الله عنه قال: “نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب كبش قد تمنطق به فقال: “انظروا إلى هذا الرجل الذي نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغدوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون”، لقد اجتذبته حلاوة الإيمان، فكره الكفر والفسوق والعصيان، وتخلى عما كان له من الأقارب والأهل والخلان، ليحظى بجمال القرب ولذة الصحبة، وصفاء المحبة ورحمة الإسلام.
أيها المسلمون، لئن ذهب السلف الصالح من أمتنا بشرف الصحبة وفضل المشاهدة، فإن باستطاعتنا أن نظفر بأخوة النبي صلى الله عليه وسلم والمتابعة له، وذلكم بتمسكنا بهديه، لأن خير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإحيائنا لسنته وسلوكنا محجته البيضاء التي تركنا عليها والتي لا يزيغ عنها إلا هالك، لقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يوما بين أصحابه فقال: “لوددت أني رأيت إخواني، فقالوا أولسنا إخوانك يا رسول الله؟، فقال صلى الله عليه وسلم: “أنتم أصحابي، إنما إخواني قوم يأتون بعدكم يعملون بسنتي من غير أن يروني”.
فاعتصموا إخواني بحبل ربكم وتمسكوا بشريعة نبيكم، ودافعوا عنهما بقدر استطاعتكم، فإن الله عز وجل لا ينظر إلى الصور، وإنما ينظر إلى القلوب التي إذا صلحت صلح كل شيء، وإذا فسدت فسد كل شيء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، وأكثروا إخواني من الصلاة والتسليم على أشرف الورى وسيد المرسلين. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم..
الدعاء…