الوفاء من أخلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
الحمد لله القائل في محكم الذكر الحكيم: “لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عندتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم”، نحمده تعالى ونشكره على ما أولانا من نعم وهو العلي العظيم،
ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو رب العرش الكريم، أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا لكل خلق كريم، وأمرنا بالتأسي به والسير على منهاجه القويم، وقال وهو أصدق القائلين: “لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة”.
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الممدوح بقوله تعالى: “وإنك لعلى خلق عظيم”، كان يفتخر بتأديب الله له وتربيته على مكارم الأخلاق فقال صلى الله عليه وسلم: “أدبني ربي فأحسن تأديبي” صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه والتابعين، الذين نهلوا من مدرسته الشريفة، وتخلقوا بأخلاقه العظيمة، ونقلوها لنا، نرجع إليها في كل وقت وحين، وسلم تسليما كثيرا،
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمومنات،
خطبة اليوم نغوص من خلالها في أحد أخلاق حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهو خلق الوفاء، والوفاء كما عبر عنه بعض العلماء هو الإخلاص، الذي لا غدر فيه ولا خيانة، وهو البذل والعطاء بلا حدود، وتذكّر للود، ومحافظة على العهد، وهو صفة جميلة وخلقً كريم ينبغي على كل إنسان أن يتحلى به، ولن يترقى المسلم في مراتب الإيمان إلا إذا كان وفيًّا، والوفاء من أعظم الصفات الإنسانية، فمن فُقِد فيه الوفاء فقد انسلخ من إنسانيته.
والوفاء الحقيقي لا يأتي إلا من قلبٍ طاهر، تدفعه النية الطيبة الخالصة، والوفيَّ الصادق يحفظ الجميل ولا ينساه ولو بعد عشرات السنين، وهو مِن شِيَم الرجال، وأمارةٌ على سموِّ النّفس وحُسنِ الخُلق، وقد كان خلقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وسار عليه صلى الله عليه وسلم إلى أن توفاه ربه.
فعن عبد الله بن أبي الحمساء، قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت، فإذا هو في مكانه، فقال: يا فتى، لقد ضيقت علي، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك”.
وعن أنس رضي الله عنه: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بهدية قال: “اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحب خديجة”. إن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم ينسَ العهد لزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها بعد موتها ،حفظ عهدها، ولم ينسَ تلك الأيام التي عاشت معه تقول عائشة رضي الله عنها: ما غرتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرتُ على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً ،ثم يبعثها في صدائق خديجة، فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن، تقول عائشة رضي الله عنها فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة؟ فيقول لها صلى الله عليه وسلم: “إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد”.
وتقول عائشة رضي الله عنها:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثنائه عليها واستغفاره لها، فذكرها يوماً، تقول رضي الله عنها: فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن، قالت رضي الله عنها: فرأيته غضب غضبا، أُسقطتُ في خلدي، وقلت في نفسي: اللهم إن أَذهَبْتَ غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيت، قال: “كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد، وحُرمتموه مني، قالت عائشة رضي الله عنها: فغدا وراح عليّ بها شهرا”، لقد مر شهر كامل يروح ويغدو على عائشة رضي الله عنها في شأن خديجة، مع أنها قد ماتت وفارقته لكنه لا يرضى أبداً أن يكلمه أحدٌ في تذكره لها، وحفظه ورعايته لعهدها وعشرتها التي كانت بينهما في سالف الأزمان، وكيف لا يذكرها وهو يرى أولادها وبناتها بعد فراقها بين يديه، وكيف لا يحسن عهدها وقد كانت وكانت؟
قال النووي:في هذا الحديث دلالة بحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشرة حياً وميتاً، بل وإكرام معارف ذلك الصاحب. ولهذا كان عليه السلام يكرم حتى معارف وصواحب خديجة حباً لها، ورعاية لعهدها، فيرسل إليهن ما يكفيهن من الطعام.
ومرة استأذنت هالة بنت خويلد رضي الله عنها وأصل القصة في الصحيحين -أخت خديجة ،على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة لشبه الصوت بينهن، فتذكر خديجة قالت عائشة: فارتاع لذلك، أي فزع، وفي رواية: فارتاح لذلك أي سروراً بسماع صوت يشبه صوت خديجة، فقال: “اللهم هالة، أي اللهم اجعلها هالة، وعائشة تنظر لهذا التغير في النبي صلى الله عليه وسلم،فقالت: فغرت، وقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين قد سقطت أسنانها، وقد أبدلك الله خيراً منها. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، فعرفت عائشة وقالت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير”.
ومرة جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأحسن النبي صلى الله عليه وسلم استقبالها، فقال لها: “كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت، قلت يا رسول الله تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إنها كانت من صواحب خديجة، وإنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان”.
ووصفه بعضهم فقال: كان صلى الله عليه وسلم يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم، وقال صلى الله عليه وسلم: “إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، غير أن لهم رحما سأبلها ببلالها”.
أيها الإخوة المؤمنون، إن وفاء النبي صلى الله عليه وسلم امتد إلى أقوام لم تكن بينه وبينهم علاقة مباشرة، بل معاملتهم كانت لصحابته رضي الله عنهم، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: وفد وفد للنجاشي فقام النبي صلى الله عليه وسلم يخدمهم فقال له أصحابه نكفيك، فقال صلى الله عليه وسلم: “إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافئهم”.
ولما جيء بأخته من الرضاعة الشيماء في سبايا هوازن وتعرفت له بسط لها رداءه وقال لها: “إن أحببت أقمت عندي مكرمة محببة، أو متعتك ورجعت إلى قومك، فاختارت قومها فمتعها.
وقال أبو الطفيل رضي الله عنه -وهو عامر بن واثلة، أدرك النبي صغيرا وهو آخر من مات من الصحابة- رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام إذ أقبلت امرأة حتى دنت منه فبسط لها رداءه فجلست عليه فقلت من هذه قالوا أمه التي أرضعته.
وعن عمرو بن السائب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه.
وكان يبعث إلى ثويبة مولاة أبي لهب مرضعته بصلة وكسوة، فلما ماتت سأل: من بقي من قرابتها؟ فقيل لا أحد. وفي حديث خديجة رضي الله عنها أنها قالت له صلى الله عليه وسلم: :أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
الخطبة الثانية
يا أيها الأخوة المسلمون: وعلى هذا الخُلقِ العظيم من الوفاء سارَ الصحابة رضي الله عنهم، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم لما قُبِض قال أبو بكر للصحابة: من كان له عِدَةٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دَينٌ فليأتِني، قال جابرٌ رضي الله عنه: فأتيتُه فقلتُ: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: “لو قد جاء مالُ البحرَين أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا”، فلم يجِئ مالُ البحرَيْن حتى قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فحثَا لي أبو بكر من مال البحرَيْن لما جاءه حثيةً فعدَدتُها، فإذا هي خمسمائة، فقال لي: خُذ مثلَيْها. متفق عليه.
وأنفذَ أبو بكر رضي الله عنه جيشَ أسامة بنِ زيد رضي الله عنه على شدّة حاجة أبي بكر للجيش بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أترك أمرًا رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا صنعتُه.
والصحابةُ رضي الله عنهم حفِظوا لأبي بكرٍ مكانته وسبقَه للإسلام، فاتفقوا على بيعته خليفةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر أدرك منزلة عمر التي أنزلها إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعهِدَ بالخلافة من بعده لعُمر رضي الله عنه.
قال الشافعي رحمه الله،: الحر من راعى وداد لحظة.
إذا المـرء لا يرعـاك إلا تكلفا *** فدعـه ولا تكثر عليـه التأسـفا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة *** وفي القلب صبر للحبيب ولـو جفـا
فما كل من تهـواه يهواك قلبه *** ولا كل مـن صـافيته لك قـد صفا
إذا لم يكن صـفو الوداد طبيعة *** فلا خيـر فـي خـل يجـيء تكلفا
ولا خير فـي خل يخون خليله *** ويلقـاه مـن بعـد المـودة بالجفا
وينكر عيشـاً قـد تقادم عهده *** ويظهر سراً كـان بالأمس قـد خفـا
سلام على الدنيـا إذا لم يكن بها *** صديق صدوق صادق الوعد منصفا.
فما أحوجنا اليوم أيها الإخوة المؤمنون لتشييع هذا الخلق العظيم بيننا، تأسيا بحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، خاصة في هذا الزمان الذي أصبح المسلمون فيه يتصفون بخلفهم للوعود، وتنكرهم للجميل، وجفائهم للقرابة والأصدقاء والجيران، وقطيعتهم للرحم، أليس من الأولى بنا أن نرجع لهذا الخلق لنستحق التأسي برسولنا ذي الخلق العظيم؟؟.
أما الصحابة رضي الله عنه ،فإنهم تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم، أن حسن العهد من الإيمان، يخرج أبو بكر الصديق مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه من صلاة العصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم،فإذا به يرى الحسن يلعب مع الصبيان، فيتذكر حبيبه صلى الله عليه وسلم، فيأخذه ويحمله ويقول: بأبي شبيه بالنبي لا شبيه بعلي، ثم يذهب ويحمله كما كان يحمله ض رعاية وحسن عهد لعشرته صلى الله عليه وسلم.
وكان أسامة بن زيد أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي عليه السلام ،أحبه الصحابة أكثر من أولادهم، لأنه كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه السلام: “من أحبني فليحب أسامة” وهذا من رعاية الحرم ، وحسن العهد ،بالذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
كان عبد الله بن سلام مآخياً لأبي الدرداء، بينهما أخوة ومحبة ومودة، فلما مات عبد الله بن سلام ذهب ولده يوسف إلى الشام ليسأل عن أبي الدرداء لم يذهب إلا تجديداً للعهد، ورعاية للحرمة والألفة وتأدية للحقوق، فإن أبا الدرداء كان محباً لعبد الله بن سلام، فجاءه يوسف وهو يحتضر، قد قارب مفارقة الدنيا، ففرح به أبو الدرداء.
ومرة كان ابن عمر يمشي في الصحراء على دابته فقابله أعرابي فتوقف ابن عمر ونزل، ووقف معه، وقال: ألست ابن فلان بن فلان؟ قال: بلى ، ثم ألبسه عمامة كانت عليه وقال له: اشدد به رأسك، ثم أعطاه دابته وقال: اركب هذا، فتعجب أصحاب ابن عمر ، وقالوا له: إن هذا من الأعراب، وهم يرضون بالقليل، فقال: إن أبا هذا كان وِدّاً لعمر. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي” .
الدعاء.