مفهوم البدعة في الإسلام

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله،
روى الإمام مسلم فيما جاء عن جابر يقول، كان رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته ويقول: أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وروى أبو داود والترمذي عن العرباض قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: “أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليهم بالنواجد، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة”.
أيها الإخوة الكرام، كثيرون هم  الذين لا يفهمون هذه الأحاديث على حقيقة ما أراده منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث في المراد بالبدعة الضالة المذمومة كما بين ذلك العلماء الأكابر من أمة المسلمين شرقا ومغربا.
فتجدهم يعتبرون كل شيء حدث بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان من الخير ومن الأمور الدينية الموافقة لدين الله وتشملها أوامر الله، فعند هؤلاء هو بدعة ضلالة مغيبين النظر إلى روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها ومآلاتها التي توجب على كل ذي عقل التمييز بين أنواع البدعة وأن يقول: إن منها البدعة الحسنة ومنها البدعة السيئة، وهذا ما حققه علماء الأصول من سلف هذه الأمة رضي الله عنهم كالإمام الشافعي والعز بن عبد السلام والنووي والسيوطي والمحلي وابن حجر، وهذا ما يقتضيه العقل النير والنظر الثاقب.
وللأسف الشديد ظل هؤلاء يحاربون كل جديد وينكرون كل مخترع مفيد بدعوى أنه بدعة وأن كل بدعة ضلالة دون التفريق بين أنواع البدعة كما أسلفنا، لذلكم فالغرض من هذه الخطبة هو تبيين المفهوم الصحيح للبدعة في الإسلام سائلين الله عز وجل أن يحول بيننا وبين كل بدعة ومنكر وضلال وزور، آمين.     
أيها الإخوة الكرام، إن البدعة في الأصل هي كل ما أحدث واخترع على غير مثال، والزيادة والاختراع المذموم هو الزيادة في أمر الدين ليصير من أمر الدين، والزيادة في الشريعة ليأخذ صبغة الشريعة، فيصير شريعة متبعة منسوبة لصاحب الشريعة، وهذا هو الذي حذر منه منه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”، فالحد الفاصل في الموضوع هو قوله: “في أمرنا هذا”، فالذي يسجد لغير الله يكون مبتدعا، والذي يذبح لغير الله يكون مبتدعا، والذي يطوف حول قبور الصالحين يكون مبتدعا، والذي يتوجه إلى قبور الصالحين يسألهم الاستجابة لدعواته وتضرعه يكون مبتدعا، والذي يغير في أركان الإسلام وفرائضه بالزيادة والنقصان يكون مبتدعا، فهذه كلها بدع ضالة مذمومة لا يمكن قبولها أو اعتبار من يقوم بها أنه يتقرب إلى الله أو يعبده، لأنها عند التمحيص والنظر لا تعدو أن تكون سوى اعتقادات زائغة وسلوكات باطلة، وذلك هو عين البدعة.
والذي ينبغي أن يعرف أن الأحاديث النبوية يفسر بعضها بعضا ويكمل بعضها بعضا، ولابد من النظر إليها نظرة واحدة متكاملة، ولابد من تفسيرها بروح الشريعة ومفهومها المتفق عليه بين أهل العلم، ولذا نجد كثيرا من الأحاديث الشريفة تحتاج في تفسيرها إلى عقل عاقل وفكر ثاقب وفهم لائق وقلب ذائق يستمد من بحر الشريعة الغراء ويراعي أحوال الأمة وحاجتها ويسايرها في حدود القواعد الشرعية والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي لا يجوز الخروج عنها، ومن أمثلة ذلك هذا الحديث: “كل بدعة ضلالة”،
فلا بد من القول أن المراد بذلك البدعة السيئة التي لا تدخل تحت أصل شرعي، وهذا التقييد وارد في غير هذا الحديث، كحديث: “لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد”، فهذا الحديث مع أنه يفيد الحصر في نفي صلاة جار المسجد إلا أن عموم الأحاديث تفيد تقييده بأن لا صلاة كاملة، وكحديث: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، قالوا: أي إيمانا كاملا، وكحديث: “لا يدخل الجنة قاطع رحم”، فالعلماء رحمهم الله قالوا: إنه لا يدخل دخولا أوليا أو لا يدخل إذا كان مستحلا لذلك الفعل.
الحاصل أنهم لم يجروه على ظاهره وإنما أولوه بأنواع التأويل، وحديث البدعة هذا من هذا الباب، فعمومات الأحاديث وأحوال الصحابة تفيد أن المقصود به البدعة السيئة التي لا تندرج تحت أصل كلي، قال القرطبي في تفسيره: والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وفتحنا عليهم أبواب كل شيء)، ولم يفتح لهم أبواب الرحمة، وقوله تعالى: (تدمر كل شيء)، ولم تدمر الجبال والسماوات والأرض.
وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الهجر فوق ثلاثة أيام، وذلك فيما رواه الإمام مالك والبخاري وغيرهما عن أنس في قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث”، ولكننا وجدناه صلى الله عليه وسلم هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن تبوك وأمر المؤمنين باعتزالهم، فالحديث مخصص، وقد جاء تخصيص العموم في عشرات الآيات في كتاب الله حتى قيل ما من عام إلا خصص، وقال جماعة من العلماء: لا يعمل بالعام إلا بعد البحث عما يخصصه.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بارك فعل أشياء كثيرة من الخير ليس فيها مفسدة ولا تخالف طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نظام شريعته، ثم ثبت عن الصحابة ما يقرب من التواتر المعنوي، وذلك في كثير من الخيرات بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما تدخل تحت إرشاده وهديه وإن لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تفعل في عهده.
أيها الإخوة الكرام، ينتقد بعض الناس من قليلي العلم والفهم تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة كما هو التقسيم المتفق عليه بين أهل العلم، وينكرون على من يقول ذلك أشد الإنكار، ثم إن هؤلاء المنكرين لا يلبثوا إلا يسيرا حتى يضطروا إلى إيجاد حل ومخرج للمشاكل التي تعترضهم في الحياة الدنيوية التي يعيشونها، فيضطرون إلى اختراع وسيلة أخرى لولاها لما استطاعوا أن يأكلوا أو يشربوا أو يسكنوا أو يلبسوا أو يتنفسوا أو يتزوجوا أو يتعاملوا مع أنفسهم وأهليهم وإخوانهم وأهل مجتمعهم، وهذه الوسيلة هي أن يقولوا: إن البدعة تنقسم إلى بدعة دينية ودنيوية دون التمييز بين خيرها وشرها.
لقد أجازوا لأنفسهم أن يقسموا هذا التقسيم وأن يخترعوا هذه التسمية، ولو سلمنا أن هذا المعنى كان موجودا منذ عهد النبوة، لكن هذه التسمية: دينية ودنيوية لم تكن موجودة قطعا في عهد التشريع النبوي، هؤلاء نقول لهم: فمن أين جاءت هذه التسمية المبتدعة؟، فمن قال إذن: إن تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة لم يأت من الشارع، نقول له: وكذا تقسيم البدعة إلى دينية غير مقبولة ودنيوية مقبولة هو عين الابتداع والاختراع، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد فيا عباد الله، روى الإمام مسلم عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء “، قال الإمام النووي في شرح مسلم معلقا على هذا الحديث: فيه الحث على الابتداء بالخيرات وسن السنن الحسنات والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات… وفي هذا الحديث تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: “كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة”، وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة.
أيها الإخوة الكرام، سئل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جمعه الناس في صلاة التراويح بعشرين ركعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك فعل ذلك؟، فقال: “نعمت البدعة هذه”، وكل من يعرف شيئا ولو قليلا في اللغة العربية يعلم أن (نعمة) تقال في الثناء على الشيء الحسن،
ثم إنه لا يشترط في عمل كي يكون مشروعا أن يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، بل يكفي فيه أن يندرج تحت أصل شرعي، ألا ترون إلى الملايين من حجاج بيت الله الحرام يرجمون الشيطان من فوق جسر الجمرات، وهذه عبادة لم يفعلها السلف على هذا الوجه، ولا أحد يحرم أو يبدع فاعل ذلك،
ألا ترون إلى جمع سيدنا عثمان رضي الله عنه المصحف في كتاب واحد، وهو مجموع اليوم في أشرطة وأقراص مضغوطة، وهذا فعل لم يفعله السلف، ولا أحد يستطيع أن يقول أن جمع المصحف في أشرطة حرام لأنه مخالف لفعل السلف،
وهؤلاء الأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان كانوا يجتمعون لقراءة القرآن ولم يعهد أن النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع بالناس لقراءة القرآن، ولكن أخذوا ذلك من عموم قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: “ما اجتمع قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة”.
فمن أخذ بعمومات الشريعة في فعل الخير وإن لم يرد بعينه اتباعا لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون)، ولعموم الحث على الأعمال الصالحة، ثم لم يخالف نظام الشريعة في أداء هذا الخير فقد قام بأعظم القرب، فلا تبدعوا المسلمين ولا تحرموهم من خير كثير وأجر كبير، والحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *