اللغة الشعرية عند المتصوفة

بقلم د. الجيلالي كريم

أستاذ باحث، متخصص في تاريخ التصوف المغربي، ابن أحمد.

لا شك أن الخطاب الصوفي هو خطاب مرموز ومُلْغِز، يحتاج المتعامل معه إلى العديد من الآليات اللغوية والعلمية لفك شفراته وفَتْح مغالقه، ولعل هذا هو ما أفرز ردود فعل متباينة تجاهه،

ومرد ذلك بالخصوص يرجع إلى مائِعِية لغته التي يكتسبها من نوعية مصطلحاته، ثم إنه خطاب خيالي، ليس بالمعنى القدحي للخيال المرادف للأوهام والمفارق للواقع، وإنما الخيال باعتباره الموصل إلى المعرفة الحقيقية، والعالم الذي يمنح للأشياء بعدها المونتولوجي.
ونظرا لهذه الخاصية الخيالية للخطاب الصوفي، عجزت اللغة الواصفة على احتواء معانيه الإيحائية والإشارية، مما اضطر أهل الطريق إلى اللجوء إلى الرمز، واستعارة مجموعة من المصطلحات من كل الحقول المعرفية، ثم نحَتوها نحتا وجعلوها قوالب لخطابهم الصوفي مما أكسب لغتهم ثراء وخصوبة وغموضا أكثر، فصارت لها سماتها الخاصة، وتميز خطابهم عن غيره، وهو الأمر الذي أثار العديد من الباحثين، وطرح أكثر من تساؤل حول الدوافع التي أدت بهؤلاء إلى هذا الاختيار اللغوي. وهو التساؤل ذاته الذي سنحاول معالجة جزء منه في هذا المقال(1)، إضافة إلى محاولة تحديد معالم وسمات هذه اللغة الفريدة في معانيها ومصطلحاتها.

1- القوالب اللغوية والتجربة الصوفية
لما كانت اللغة المتواضع عليها ألفاظا محددة المعنى، دالة على حقائق مادية وقائمة على قواعد مضبوطة تبعا لمتطلبات الحياة العملية، كانت أعجز من أن تتسع للتجارب الروحية للمتصوفة، فهؤلاء يؤكدون منذ القديم أن اللغة في شكلها الاعتيادي تصير أكثر ضيقا كلما ازدادت التجربة الصوفية عمقا وتجريدا، لأنها تصبح أكثر رقة وأدق معنى، مما يجعلها تتمنع وتتجاوز سلطة القوالب اللغوية، وهذا ما يشير إلية المثل السائر الذي يردده المتصوفة منذ زمن بعيد: “كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة”(2)، فكلما ترقى الصوفي في تجربته الوجدانية تصبح المعاني والإشارات التي تلوح له أكثر لطافة، وهنا يظهر عجز الاصطلاح الكثيف عن احتواء المعنى اللطيف، مما يدفع الصوفي لتوظيف أشكال أخرى من التعبير بالحال أو المقال، فهم غالبا ما يشكون من ضيق العبارة وعدم قدرة قوالبها اللغوية عن استيعاب المعاني والإيحاءات الإشارية التي يريدون التعبير عنها، معتبرين أن ما يلوح لهم خارج عن سياق العبارة.
من هنا تأتي إشكالية التعامل مع الخطاب الصوفي، فقد تتفق الألفاظ لكن المعاني تختلف، وهذا راجع إلى كون اللغة الصوفية لغة خاصة، تستعمل اصطلاحات خاصة لا يستطيع فهم مراداتها إلا من سلك مسلك التصوف، وشرب معانيها في ترقيه الذوقي، ولعل هذا ما دفع المتصوفة إلى التحذير من أخذ كلامهم بالحرف الظاهر، لأن ذلك سيؤدي حتما إلى تخطئتهم، من ذلك قول عبد الغني النابلسي: “أيها الواقفون مع ما ظهر لهم من أنوار الشريعة، المنحبسون بسبب غشاوة دخان الذنوب التي لا يشعرون بها في مطامير الطبيعة … احذروا أن تفهموا شيئا من كلامي بالفهم المعوج، وتخرجوه على خلاف مقتضى هذا الدين المحمدي، فتفتروا علي وعلى الله، فإني لم أقصد إلا بيان ما فتح علي مما يوافق الشرع الشريف، وإن كانت الألفاظ متشابهة وفهم خلاف ذلك فإن لي في ذلك عذرا واضحا، وكل إناء بالذي فيه ناضح، وما ذلك العذر إلا أن المعاني التي يتخيلها الإنسان ربما لا يجد لها لفظا موافقا تؤَدَّى به من ألفاظ اللسان”(3).
ولعل الأمر يزداد تعقيدا إذا ما علمنا أن المتصوفة لايكتفون فقط بالاصطلاحات المتداولة التي غالبا ما يلبسونها مدلولات غير المتعارف عليها، وإنما نجدهم ينحتون كلمات ويولدون اصطلاحات لا توجد في الكثير من الحقول المعرفية، الأمر الذي يجعلها خفية على القارئ أو السامع، وهو ما أشار إليه الكلاباذي بقوله: ” اصطلحت هذه الطائفة على ألفاظ في علومها تعارفوها بينهم ورمزوا بها، فأدركه صاحبه وخفي على السامع الذي لم يحل مقامه”(4). وقال ابن عجيبة متحدثا عن الإشارات الصوفية: “وهذه الأشياء كلها ألغاز وإشارات لا يسلمها أهل الظاهر، وإنما يتذوقها أهل الباطن ويلغزون بينهم بها، وقد قالوا: علْمُنا كله إشارة فإذا صار عبارة خفي”(5). فلسان حال الصوفية دائما يقول(6):

إذا أهــل العـبارة ساءلـونا        أجبناهم بأعــلام الإشـارة
نشيـر بها فنجعلـها غموضا        تقصر عنه ترجمة العبــارة
ونشهدهـا وتشهدنـا سـرورا        له في كـل جارحة إثــارة
ترى الأقوال في الأحوال أسرى        كأسـر العارفـين ذوي الخسارة

فهناك إذن تباعد بين الرؤى الصوفية وبين العبارة التي تحاول التعبير عنها، فما دامت اللغة رهينة الاستخدام الوصفي، فإنها تظل عاجزة عن نقل واحتواء تجارب الإبداع الصوفي المتصلة بجوهر الوجود، والمنبثقة من ذوات تهيم في أسرار الحضرة الإلهية.
ولا شك أن ضيق العبارة هو ما دفع المتصوفة إلى نهج أسلوب التواجد والحال كشكل من أشكال التعبير، وجعل اللغة الشعرية رمزا لهذا التعبير باعتبارها أكثرا تجريدا وأدبية من اللغة الاعتيادية، ولأنها أكثر موافقة لاتجاههم التعبيري القائم على الرمزية والكناية.

2- خصائص اللغة الشعرية عند المتصوفة:
بداية لا بد من الإشارة إلى أن مصطلح اللغة الشعرية الذي نتحدث عنه يتعدى المفهوم الضيق الذي يرتبط بالشعر، وإنما نتحدث عن الشعرية باعتبارها جوهرا إبداعيا يتجاوز سلطة الشعر ليرتبط بباقي الأجناس الأدبية والفنية، لتصبح الشعرية، هي ذلك النسق الإبداعي الذي يؤلفه تلاحم المعاني بفنون البديع ولوائح البيان وعذوبة اللفظ ورقته.
ولا شك أن الأدب الصوفي بشقيه النثري والشعري، يمثل أرقى مظاهر هذه الشعرية، ذلك أن الصوفي إنما هو “… ذات مبدعة تعيش تجربتها مرتين: مرة في كينونة باطنية ذوقية (سلوكية)، حيث يرى داخل ذاته وبعين قلبه رؤياه التي هي ولا شك فوق قدرة اللغة الواصفة، ومرة في كينونة تعبيرية إبداعية، يسعى فيها الرائي (الصوفي) إلى تحويل الرؤيا من موقع الذات والذوق إلى موقع الكتابة والنسخ عن طريق التذكر والاسترجاع، مع ما يحيط بذلك من وعي بعجز اللغة، أي ضيق العبارة أمام اتساع الرؤيا”(7).
فالأديب الصوفي يحيا تجربته الوجدانية والوجودية في الآن نفسه، مما يجعل إنتاجه الفني خاضعا لهذه التجربة لأنها منبعه، فلا ينفصل عن ذاته، وبالتالي فهو لا يروم إنتاج أدب تصوره اللغة البلاغية والمحسنات البديعية بقدر ما هو منتج رؤيوي يحاول استخدام اللغة للكشف عن تجربته الشعورية الباطنية، “… وهذا ما يجعل اللغة تنتقل من طبيعتها الوصفية التي تنقل الأشياء كما هي إلى لغة تعبيرية تنقل الإحساس بالشيء، وتخلق داخلها احتمال الخلق غير المحدد، على خلاف اللغة الواصفة التي هي في طبيعتها لغة محدودة”(8).
فاللغة في الأدب الصوفي ليست المفردات والتراكيب التي تتحكم فيها القواعد المتعارف عليها، فهذا النمط من القوالب اللغوية أضيق من أن يحمل تلك الأنوار والأسرار التي تنقدح في كيان الصوفي، وإنما هي لغة رمزية تشكل العبارة فيها ستارا يحجب المعاني الوجودية، ويخفي الإشارات الروحانية، وهذا راجع إلى عدم التكافؤ بين عيش التجربة والإحساس بها، وبين التعبير عنها لغويا، وهو ما يجعل اللغة غير مقصودة لذاتها، لأنها ليست الأصل في الإنتاج الصوفي، وإنما هي فقط خادمة للمعنى الذي هو الأساس، وهي بهذه الصفة تصبح ” مجلى الشاعر لا محبسه: لا يلبسها، وإنما يتجلى فيها”(9).
وهكذا، يمكن القول إن أهم مميزات اللغة الشعرية عند المتصوفة هي العمق والرمزية، وهما سمتان يوشك أن تكونا ضروريتين في كل خطاب صوفي، فاللغة الاعتيادية لا يمكن أن تنقل اللامادي، ولا يمكن أن تضبط حدود المعاني الخيالية التي تنتجها التجارب الصوفية، مما يدفع الصوفي إلى الالتجاء إلى الرمز للانعتاق من قيود العالم المادي، لأن له من القوة على الإيحاء بما يتولد في عالم الخيال الصوفي، بعكس لغة العامة التي تبقى محددة المعنى حبيسة القوالب والقواعد اللغوية، ولذلك كان شعارهم في لغتهم الشعرية هو: ” من طلب المعاني وجدها، ومن طلب الحروف والأوزان يبقى معها”(10).
ولاشك أن عمق الدلالة ورمزية اللغة في الخطاب الصوفي يبدو أمرا طبيعيا، خاصة إذا رجعنا إلى الذات الصوفية المبدعة، فهي تنشغل دائما بحقائق الخيال وكيفية استكناهها، ولذلك كان إدراك الصوفي لتلك الحقائق سواء على مستوى التجربة الوجدانية أم الوجودية الإبداعية، يفوق الإدراك الآلي القائم على الحس، فإن أراد التعبير عنه لا يستطيع ذلك، لأن التعبير عن العميق لا يستقيم بالمألوف السطحي، مما يضطره في كثير من الأحيان إلى استلهام الرمز والإشارة في محاولة منه لتقريب تجربته الروحانية الوجدانية، فدواعي الرمز كثيرة، وقد أشار الشيخ زروق إلى بعضها فقال: “داعية الرمز قلة الصبر عن التمييز، لقوة نفسانية لا يمكن معها السكوت، أو قصد هداية ذي فتح معنى ما رمز حتى يكون شاهدا له، أو مراعاة حق الحكمة في الوضع لأهل الفن دون غيرهم، أو دمج كثير من المعنى في قليل اللفظ لتحصيله وملاحظته وإلقائه في النفوس أو الغيرة عليه، أو اتقاء حاسد أو جاحد لمعانيه أو مبانيه” .
ومن ثَمَّ فالرمز بالنسبة إليه “يصبح تعبيرا عما لا يمكن التعبير عنه “(11). وهذا ما يجعل من رمزية اللغة في الخطاب الصوفي تمثل بعدا جماليا في هذا الخطاب، يستشعره المتلقي أو القارئ عندما يجد نفسه مُدْعَى للمشاركة في إعادة إنتاج هذا الخطاب وتحديد قراءاته العميقة عن طريق محاولة اكتشاف معانيه الإيحائية، وفك شفراته الملغزة، فمثلا عندما يسمع السامع أو يقرأ القارئ قول شهاب الدين المقري(12):

والكأس ترقص والعقار تشعشعتا        والجو يضحك والحبيب يزار
والعـود للغيد الحسان مجـاوبا        والطـار أخفى صوته المزمـار

فلا شك أنه يعتقد أن هذا كلام رجل صب متيم، يصف مجلس اللهو الضاحك، المليء بكؤوس الخمر والغيد الحسان وأصوات المزامير، لكن هذه الصورة الخيالية التي ترسمها هذه الألفاظ في ذهن المتلقي، سرعان ما تتلاشى عندما يسمع أو يقرأ باقي الأبيات حيث يقول(13):

لا تحسبوا الزمر الحرام مرادنا        مزمارنا التسبيح والأذكار
وشرابـنا مـن لطفه وغـناؤنا        نعم الحبيب الواحد القهار
والعود عادات الجميل وكأسـنا        كأس  الكياسة  والعقار  وقـار

وإذا كان المقري قد فك رموز أبياته السابقة، فإن الأمر لا يَطَّرِد دائما، ولذلك يبقى على المتلقي بذل مجهود أكبر للوصول للمعاني المطلوبة، أي أن “الرمز يحقق بالضرورة استبطانا أثناء التلقي يعادل دعوة التصوف إلى استكناه الباطن وإغفال الظاهر”(14). ولهذا، فقد لا نجانب الصواب إذا قلنا أن المتلقي للخطاب الصوفي، بقدر ما يجد صعوبة في احتواء معانيه، بقدر ما يجد فيه متعة تؤثثها جمالية لغته وثراء وعمق معانيه ومستواه الرمزي، إذ لا شك أن اللغة التي يُنَاطُ بها نقل الأحاسيس والمشاعر الرقيقة التي تحمل هواجس الذات الناطقة، لا يمكن إلا أن تكون رشيقة ورقيقة في جميع مستوياتها اللفظية والتركيبية والدلالية.
ونظرا لهذه السمات التي تملكها اللغة الشعرية عند المتصوفة، تم نعت الأدب الصوفي بالتميز عن غيره(15)، ويكفي الخطاب الصوفي تميزا أنه استطاع عتق وتحرير اللغة من مستوياتها الواصفة، وذلك بإخضاعها للتجربة ونقلها إلى مستويات التعبير الرمزي.

3- علاقة الخيال ببعض المفاهيم الاصطلاحية في العرفانية الصوفية
لما عجزت اللغة الواصفة عن احتواء معاني الذوق الصوفي لجأ المتصوفة إلى نحت عدد من الاصطلاحات جاعلين منها قوالب لخطابهم الصوفي مما جعله أكثر تلونا ورمزية، فصرنا نجدهم يتحدثون عن علاقة الخطاب الصوفي الممثل رمزيا بالخيال بعدة علوم، كعلم المرايا وعلم الجغرافيا الصوفية وبتعبيرات الأحلام وبالوحي، وهي علاقة قد لا يفهمها المتلقي إذا وقف عند حدود المعاني اللفظية للمصطلحات، لكن قد يجد لها مسوغا ورابطا خفيا إذا ما حاول إعادة إنتاج هذا الخطاب بقراءته قراءة استبطانية امتدادية، تتوخى استكشاف مضمرات النص والبحث في امتداد المعاني.
مثلا، فالصوفية عندما يتحدثون عما يسمى بالجغرافيا الصوفية، فطبعا لا يقصدون أن هناك تكوينا جيولوجيا للتصوف، وإنما هو فقط رمز يوحي إلى نوع آخر من التكوين المرتبط أساسا بمفهوم التجلي، أي تجلي الذات الإلهية، والتي تمثلت أولا في -آدم- أب البشرية ليكون شاهدا على لوائح الأسرار الإلهية، ومن هذا الكائن المتجلي تجلت باقي الكائنات، فصار وكأنه تلخيص لنظام الكون كله، والمرآة التي تعكس ما يوجد في العالم الأكبر، لأن فيه تجلت الأسماء والصفات الإلهية، فالصوفية يعتبرونه أصل العالم، ذلك أن هذا الأخير إنما هو مخلوق من فضلة طينته، إذ تحكي المقولات الصوفية أنه لما خلق الله آدم، فضلت من خميرة طينته فضلة، فخلق منها النخلة، ومن فضلة تلك الفضلة خلق أرضا واسعة بعدما مد الله في تلك الفضلة، وتلك الأرض هي التي تنعتها العرفانية الصوفية بأرض الحقائق المطلقة، ومنبع المخترعات الخيالية، لأنها خلقت من الطينة الأولى التي سُوِّي منها الإنسان والنبات، مما أكسبها حلة الحياة والسرمدية، أما العالم الحسي المرئي، إنما هو فقط صورة لعالم الحقيقة، وبالتالي فلا حقيقة له، وسرعان ما يزول لأنه لا حياة فيه، ولهذا اختلفت نظرة العامة والمتصوفة للأشياء، فالأوائل ينظرون للأشياء في طبائعها، ولا ينظرون إليها من خلال الخيال الذي يكسبها بعدها الحقيقي، بينما يعتبر المتصوفة أن حقيقة الأشياء ليست هو ما نراه حسيا، وإنما الخيال هو الذي يمنحك الحقيقة، وهذا هو البعد الأنطولوجي عند المتصوفة، فالباحث الذي يسعى إلى تأسيس بُعْد انطولوجي للمعرفة الصوفية، لا يمكن أن يتجاوز هذا البعد العميق للخيال، وإنما عليه أن يراه كما  يعتقده المتصوفة، فالخيال سلطة قادرة على جعل الأشياء تخالف طبائعها الأولية، ولهذا تم التمثيل له بالإكسير والمرايا وطينة الخلق الأول، فعالم الصور الخيالية هو العالم الحقيقي لأنه كائن زاخر بالحياة، وهو محل التجليات المثالية، بل هو الأصل الأول للأشياء، ومن هذا التصور تولدت مسألة تقديس الكائنات الحية، لأن فيها يتحقق الجوهر الأصل المتمثل في الحياة.
أما عن تعبيرات الأحلام، فإنها تشكل في العرفانية الصوفية مظهرا من مظاهر الخيال اللاإرادي وإحدى تجلياته، فهي رموز تخييلية وصور يشترعها الخيال في شكل تركيب تخيلي متعدد الدلالات الرمزية، والتي تختزل في دلالة واحدة هي تلك التي توافق الواقع الباطني للحالم، ويظهر ذلك عندما تتجسد الدلالات في عالم الحس بعد أن كانت صورا خيالية، مما يجعل من هذا الخيال التلقائي والعفوي خزانة للمحسوسات المحجوبة بغيبتها عن الحس، يعمل الإنسان في إطاره على إسقاط الصور من أفقها المثالي إلى واقعه الحسي، أو يرقى إليها فتنكشف له معانيها ودلالاتها، وهنا يفرق العرفانيون بين رؤيا العامة بوصفها امتدادا للصور المثالية التي تنبسط أنوارها على روح الحالم فتنقله من مشاهدة عالم الحس إلى مشاهدة العالم البرزخي الأكمل، حتى كأنه يصبح متحكما في كل الأمور، فيحول المحال ممكنا، وبين رؤيا الأنبياء باعتبارها خيالا يتجسد في شكل إرهاصات للوحي.
وهذا يقودنا للحديث عن علاقة الخيال بالوحي، فقد اعتبره المتصوفة العرفانيون والإشراقيون وأمثالهم من المفكرين الإسلاميين شرطا ضروريا للوحي، ذلك أن المعاني الإيحائية غالبا ما تسبق المشاهدة الباطنة، ويكون الروح الخيالي هو الذي يطبعها بالصور التي توازيها وتحاكيها، ومن ثَمَّ فأغلب أنوار الوحي وأسراره ترى من وراء شفافية الخيال، وهذه القدرة التي تمنح للأنبياء هي التي تجعلهم قادرين على معرفة الماضي واستشراف المستقبل والمغيبات عن طريق تمكنهم من إدراك الصور ومعانيها الرمزية في الآن ذاته، سواء في اليقظة أم في المنام، فيصبح الخيال بهذه الصفة أول مبادئ الوحي الإلهي، وبه يدرك بل تدرك حتى الأمور التي تجاوز العقل، يدركونها في شكل أمثال ومجازات ثم يجسمونها في قوالب الصور ويكسبونها شكلها الصوتي.
واعتبار الخيال أول مراتب الوحي، راجع إلى كونه عالما برزخيا بين اللطيف والكثيف، بين الحس والمعنى، وبما أن الوحي معنى فإنه إن أراد أن ينزل إلى عالم الحس عليه أن يمر من بؤرة الخيال التي بينهما، قبل أن يظهر في صورة المحسوس، إما في شكل رؤيا في حال النوم، أو في شكل تخيل في حال اليقظة، هذا إضافة إلى أنه يكون أثناء تلقيه مجملا، ولا يطرأ عليه التفصيل إلا بعد مروره بحضرة الخيال وخضوعه له، مع التمييز هنا بين تخيلين: تخيل سمعي يرتبط بالمعاني المجملة التي تلقيها لغة العلو للشيء، وتخيل بصري يتمثل في إتيان المَلَك للنبي في شكل كائن بشري (دحية الكلبي بالنسبة لمحمد ).
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الصنف من الوحي خاص بالأنبياء، في حين يقابله وحي عام يشمل جميع المخلوقات، إما في شكل إلهام فيما يتعلق بالإنسان، أو في شكل غريزة فيما عداه من الكائنات الحية، وهذه المظاهر هي التجليات المثالية للوحي، والتي يعمل متلقيها على إكسابها شكلها ونسقها التعبيري المتعارف عليه عند الجماعة.

خاتمـة:
هكذا إذن نخلص إلى أن الغموض والإبهام الذي يلف الخطاب الصوفي راجع إلى كون هؤلاء خلقوا لأنفسهم لغة خاصة باصطلاحات خاصة، مما جعل لغتهم صعبة الإدراك خاصة على أولئك الذين لا صلة لهم بتجارب الذوق، والذين تعودوا على قراء اللفظ قراءة أفقية ظاهرية المعنى، فصارت هذه الألفاظ التي دجج بها المتصوفة لغتهم الشعرية عصية إلا على من سلك طريق التصوف، الأمر الذي أغرب لغتهم فصارت بعيدة عن الوضوح والإبانة حيث طغت عليها المصطلحات الصوفية المستعارة من معاني الرؤى وتجارب الذوق والمشاهدات، والتي تجافي في كثير من الأحيان المعاني الأفقية للألفاظ، وهو ما دفع بالكثيرين إلى تبديع عدد من رجالات التصوف، “…وربما كفر وبدع وفسق لقصور عبارته عن توصيل مقصده بوجه سليم عن الشبه، وأكثر ما وقع هذا الفن للمتصوفة حتى كثر الإنكار عليهم أحياء وأمواتا”(16). ولذلك لزم ضبط المعاني في النفس، ثم ضبط اللسان في الإبانة عنه، وقد يحصل هذا عندما لا يتوفق الصوفي في مراعاة اللفظ لتوصيل المعنى، أو عندما يكتفي المنكر بالمعاني الحرفية الظاهرية للألفاظ جاهلا أو متجاهلا أن اللغة الصوفية هي لغة مرموزة مكنونة خارقة لعادة القواعد.
لكن قد يكون للعاتب على هؤلاء بعض الصواب، فكثيرا ما أحدثت عباراتهم الملغزة، وشطحاتهم المبهمة اضطرابا في عقول وأفكار الناس، متذرعين في ذلك بغلبة الحال والسكر أو ضيق العبارة، ألم يكن الأجدى إخفاء كل تلك الأحوال ومخاطبة الناس على قدر أفهامهم، أم أن الأمر لا يخرج عن غيرة أهل الطريق على فَنِّهِم وعن تلك النرجسية الصوفية التي عبر عنها ابن عطاء الله لما سأله أحد المتكلمين: “ما بالكم أيها المتصوفة قد اشتققتم ألفاظا أغربتم بها على السامعين، وخرجتم عن اللسان المعتاد، هل هذا إلا طلب للتمويه أو ستر لعوار المذهب؟ فقال أبو العباس: ما فعلنا ذلك إلا لغيرتنا عليه، لعزته علينا، كي لا يشرب بها غير طائفتنا”(17).
ولا شك أن هذه الأمور هي التي جعلت لغة الخطاب الصوفي في جميع تجلياتها الشعرية أو النثرية لغة متمنعة وحربائية، لأنها تبقى دائما حبلى بالمعاني والدلالات الروحية، مما يجعلها بعيدة عن مفهوم قطعية الدلالة، لتبقى التفسيرات والتأويلات التي يتوصل إليها المتعامل مع الخطاب الصوفي مجرد قراءات ووجهات نظر يلفها الاحتمال.

—————————————–
المصادر والمراجع
– أبو زيان المعسكري، كنز الأسرار في مناقب مولاي العربي الدرقاوي وبعض أصحابه الأخيار، مخطوط الخزانة العامة بالراط رقم 2841 ك.
– أدونيس، علي أحمد سعيد، صدمة الحداثة، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1406هـ/ 1986م.
– بنعمارة محمد، الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، المكتبة الأدبية، شركة النشر والتوزيع المدارس، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 1422هـ/ 2001م.
– بنعمارة محمد، الصوفية في الشعر المغربي المعاصر: المفاهيم والتجليات، المكتبة الأدبية، شركة النشر والتوزيع المدارس، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 1421هـ/2000م.
– حمدان أمية، الرمزية والرومانتيكية في الشعر اللبناني، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد للنشر، ط 1، 1981م.
– زروق أحمد البرنسي الفاسي، قواعد التصوف، تقديم وتحقيق عبد المجيد خيالي، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1424هـ/2003م.
– عبد الحليم حسن، التصوف في الشعر العربي، مكتبة الأنجلو المصرية، مطبعة الرسالة، القاهرة، 1954م.
– عزوزي حسن، الشيخ أحمد ابن عجيبة ومنهجه في التفسير، منشورات وزارة  الأوقاف والشؤون الإسلامية، الطبعة الأولى، 1422هـ/ 2001م.
– الغرميني عبد السلام، الصوفي والآخر، دراسات نقدية في الفكر الإسلامي المقارن، شركة النشر والتوزيع المدارس، المكتبة الفلسفية، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 1421هـ/ 2000م.
– فروخ عمر، الآثار المتناقضة للتصوف في الإسلام، مجلة الباحث، العدد الخاص بالتصوف (الرابع)، السنة الثانية، 1980م.
– الكلاباذي، أبو بكر محمد، التعرف لمذهب أهل التصوف، تقديم يوحنا الحبيب صادر، دار صادر بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ/ 2001م.
– المقري شهاب الدين، أزهار الرياض في أخبار عياض، تحقيق سعيد أعراب/ ابن التاويت، طبع صندوق إحياء التراث الإسلامي.
– النابلسي عبد الغني، الفتح الرباني والفيض الرحماني، تحقيق عبد  القادر أحمد عطا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1986م.
– النفري، محمد بن عبد الجبار، المواقف والمخاطبات، تقديم عبد القادر محمود، تحقيق آرثر أربري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985.

—————–

الهوامش

* أستاذ باحث، متخصص في تاريخ التصوف المغربي، ابن أحمد.
1 – نشر هذا المقال بنشرة المجلس العلمي المحلي لإقليم سطات ضمن عددها الواحد والعشرين لسنة 2009م.
2 – محمد بن عبد الجبار النفري، المواقف والمخاطبات، تقديم عبد القادر محمود، تحقيق آرثر أربري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985، موقف 28، ص 115.
3 – عبد الغني النابلسي، الفتح الرباني والفيض الرحماني، تحقيق عبد  القادر أحمد عطا، القاهرة، ط 1، 1986م، ص 27.
4 – الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوف، تقديم يوحنا الحبيب، دار صادر بيروت، ط 1، 1422هـ/ 2001م، ص 61.
5 – حسن عزوزي، الشيخ أحمد ابن عجيبة ومنهجه في التفسير، منشورات وزارة  الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1، 1422هـ/ 2001م، ج 2، ص 17.
6 – الكلاباذي، التعرف…، مصدر سابق، ص 61.
7 – محمد بنعمارة، الصوفية في الشعر المغربي المعاصر: المفاهيم والتجليات، المكتبة الأدبية، شركة النشر والتوزيع المدارس، الطبعة الأولى 1421هـ/2000م، ص 48-49.
8 – محمد بنعمارة، الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، شركة النشر والتوزيع المدارس، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص 152.
9 – علي أحمد سعيد (أدونيس)، صدمة الحداثة، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1406هـ/ 1986م، ص 282.
10 – القولة منسوبة لمحمد البوزيدي أحد أعلام الطريقة الدرقاوية المشهورين. راجع: أبو زيان المعسكري، كنز الأسرار في مناقب مولاي العربي الدرقاوي وبعض أصحابه الأخيار، مخطوط الخزانة العامة رقم 2841 ك، ص 123.
11 – أحمد زروق، قواعد التصوف، تقديم وتحقيق عبد المجيد خيالي، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1424هـ/2003م، قاعدة 201، ص 124.
12 – حمدان أمية، الرمزية والرومانتيكية في الشعر اللبناني، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد للنشر، ط 1، 1981م، ص 26.
13 – المقري شهاب الدين، أزهار الرياض في أخبار عياض، تحقيق سعيد أعراب/ ابن التاويت، طبع صندوق إحياء التراث الإسلامي، ج2، ص308.
14 – المصدر نفسه، ج2، ص 308.
15 – محمد بنعمارة، الأثر الصوفي…، م س، ص 140.
16 – انظر مثلا: -عبد الحليم حسن، التصوف في الشعر العربي، مكتبة الأنجلو المصرية، مطبعة الرسالة، القاهرة، 1954م، ص 87./ عمر فروخ، الآثار المتناقضة للتصوف في الإسلام، مجلة الباحث، العدد الخاص بالتصوف (الرابع)، السنة الثانية، 1980م، ص 23.
17 – أحمد زروق، قواعد التصوف، مصدر سابق، القاعدة 200، ص 124.
18 – الكلاباذي، التعرف…، مصدر سابق، ص 61.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *