الرشوة ومفاسدها
الحمد لله الذي أنار لعباده السبيل في كل شيء، ولم يغفل عز وجل قليلا أو كثيرا من أمورهم إلا وخصه بشيء، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له
جعل المال وسيلة لقيام الأفراد والجماعات،وجرم كل أوجه الكسب الغير المشروع من المحرمات، وعده من الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الغراء لحفظها وحمايتها من العبث والدناءات، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه وحبيبه، أول الناهين عن إعطاء وأخذ الرشوة والتوسط لها بكافة أشكال الوساطات، وأول المحذرين من التلاعب بالمال العام وأكل أموال الناس بالباطل وكل أنواع الابتزازات، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإيمان وإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المؤمنون.
إن تخليق الحياة العامة في مجتمعنا وبالشكل الذي ينشده ويتمناه كل رجل صالح في هذا الوطن العزيز، يعد من المواضيع التي تكتسي أهمية بالغة في أيامنا هذه باعتبار الصرح الديمقراطي الذي سيكتمل نموه في بلادنا بعد تفعيل الدستور الجديد، ونحن معاشر المواطنين من سيساهم في إنجاح المرحلة المقبلة، بتغيير سلوكياتنا وأخلاقياتنا، وذلك بتقوية الوازع الديني لدينا وإيقاظ ضمائرنا بالانتهاء عن الرشوة والتعامل بها، وعموما اختلاس المال العام أو الاستهانة به أو إتلافه.
يقول الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)، قال المفسرون: هذا يعم جميع الأمة وجميع الأموال لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه، ويقول عز وجل في آية أخرى: (سماعون للكذب أكالون للسحت) قال الكثير من المفسرين هو الرشوة، وروى الإمام أحمد عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما، وأتدرون معنى أن تصيب أحدنا لعنة الله؟ واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله والتعرض لسخطه الدائم نسأل الله السلامة.
أيها المؤمنون،
إن الرشوة في معناها العام تعني الإفساد، ولا شك أن الرشوة أخطر داء يصيب الوظائف العامة ويلوث شرفها وسمعتها، وإن شئتم قلتم في غير تردد: إنها أشد أنواع الفساد الذي ينخر في أجهزة الإدارة العمومية على اختلاف أشكالها وألوانها، وخاصة تلك التي تتعامل بصورة مباشرة مع جمهور الناس، ومن أجل ذلك حرمتها الأديان ولعنت الراشي والمرتشي الذي يتوسط بينهما، كما أجمعت القوانين الوضعية على تحريمها وتوقيع الجزاء على مقترفها وكل من أسهم فيها تحقيقا لمصلحة الناس ومنعا للضرر الذي يمكن أن يصيب الجماعة ونظامها وأموالها.
واليوم نحمد الله عز وجل على عدة أمور هامة وردت في الدستور المغربي الجديد، حيث وردت فيه مبادئ قوية في مجال الحكامة الجيدة، وتخليق الحياة العامة، ودولة القانون في المجال الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص تلكم الإجراءات القوية في مجال النزاهة ومحاربة الفساد بمعاقبة كل أشكال الانحراف في تدبير الأموال العمومية والرشوة واستغلال النفوذ، فاليوم المسؤولية نتحملها نحن في الوقوف ضد الظاهرة.
أيها المؤمنون،
والرشوة في الغالب لا تكون إلا في الباطل، لأن صاحب الحق لا يحتاج إلى رشوة، وفي النادر يحتاجها صاحب الحق، فالرشوة إذا ما يدفع لإحقاق باطل أو إبطال حق، وتعد مصدر إثراء للموظف المرتشي دون سبب مشروع، وعلى حساب أفراد اضطروا إلى دفع ثمنها لخدمات أو أعمال، كان مفروضا عليهم القيام بها وتقديمها إلى هؤلاء الأفراد من غير أن يجبروا على دفع هذا الثمن، وتفشي هذه الظاهرة هو الذي يشوه صورة العلاقة بين المواطن وأجهزة الدولة وإدارتها.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عميرة بن عدي الكندي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من استعملناه على عمل فكتمنا مخيطا فما فوق كان غلولا يأتي به يوم القيامة” قال، “فقام أليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله، إقبل عني عملك، أي كأنه قال: أقدم استقالتي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما لك؟ قال سمعتك تقول كذا وكذا، قال: وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهى.” والحديث ينص على وجوب اكتفاء العامل أي الموظف، بما أوجبه له الإمام من أجرة له على عمله فلا يأخذ زيادة عليها.
بالله عليكم أيها الإخوة الكرام كيف يمكن أن ندعي الإصلاح والتنمية والارتقاء بهذا الوطن إلى مستوى أفضل وظاهرة الرشوة لا زالت تعد بالنسبة للأكثرية منا أمرا طبيعيا وعاديا في قضاء الأمور صغيرها وكبيرها؟ بالله عليكم كيف يمكن أن نساير بعقليتنا هذه الإصلاحات الكبرى التي يقودها مولانا أمير المؤمنين من أجل النهوض بمجتمعنا ؟.
إن الخلاص من هذه الظاهرة السلبية يعود إلينا نحن المواطنين بالخصوص، فكل فرد منا تسمح له نفسه بإعطاء الرشوة من أجل قضاء أغراضه، وكل موظف تسمح له نفسه بابتزاز المواطنين ولا يقضي شؤونهم إلا بأخذها، كل واحد من هؤلاء يعد مساهما ومشاركا في تفشي الظاهرة واستفحالها، فقد آن الأوان لأن نغير سلوكنا.
والمؤسف له أن هذا الداء اتخذ في مجتمعنا مسميات مختلفة، بعضه ظاهر واضح وبعضه خفي متستر، وبعضه اتخذ له أسماء أخرى يخفي بها حقيقته حتى كاد أن يصبح الأصل أو القاعدة في معاملات الناس وتصرفاتهم، وقريحة الإبداع تزدهر كل يوم في اكتشاف وسائل جديدة.
أيها المؤمنون
وبالإضافة إلى كون الرشوة داء خطير يفتك بالمجتمعات ويلوث الشرف ويضيع العفة والكرامة وينزع المهابة، وملعون من أصيب بها، وتنافي السلوك الإنساني وتضيع الحقوق وتقوي الباطل وتعين الظالم وعاقبتها لعنة في الدنيا وعقاب في الآخرة، بالإضافة إلى كل هذا فإنها فساد في نفسها وفي أثرها على الضمائر، فهي تنشر الفساد وتقتل الضمائر، وتخل بسير الإدارة وبالمساواة بين المواطنين أمام المرافق العامة وتضر بالمصلحة العامة.
فالرشوة تنطوي على اتجار الموظف العام بوظيفته واستغلالها لفائدته الخاصة فتتخطى-أي الرشوة- مقومات العدالة بحصول الراشي على ميزات أو خدمات يعجز عن الحصول عليها بدون الرشوة متخطيا حقوق الآخرين، فتثير الاضطرابات في العلاقات الإنسانية وتحدث إهدارا للقيم والعادات السائدة، وهكذا حدث في مجتمعنا ما يشبه التطبيع التاريخي بين المواطن العادي والرشوة،ولهذه الأسباب- أيها المؤمنون- حرم الإسلام كل أوجه الكسب غير المشروع كالرشوة والاختلاس وابتزاز أموال الغير بالباطل واستغلال الموظف لمنصبه لاقتناص أموال الناس ظلما وعدوانا،قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنهما: “الدنيا خضرة حلوة من اكتسب فيها مالا من حله وأنفقه في حقه، أثابه الله عليه، وأورده جنته، ومن اكتسب فيها مالا من غير حله، وأنفقه في غير حقه أحله الله دار الهوان، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة”.
فمسؤوليتنا جميعا – أيها المؤمنون- تتجلى في تنوير وتحسيس بعضنا البعض بالانتهاء عن إعطاء الرشوة ودفعها، وأن ما نستحقه من حقوق لدى المرافق العامة ينبغي أن نستوفيه من غير دفع سنتيم واحد.
وتجدر الإشارة إلى أنه عندما استفحلت الظاهرة واستحكمت وأصبحنا نعدها أمرا طبيعيا بيننا وأصبح الكثير من الأفراد لا يستوفون حقوقهم إلا بأداء الرشوة، وإذا لم يؤدوها تعطلت حقوقهم، ففي هذه الحالة فإن ما يدفعه الناس لا يعده الكثير من العلماء رشوة، وإنما يعدونه ابتزازا عند الحاجة، هذا الابتزاز الذي يحسن بنا جميعا أن نقف ضده أيضا إلى أن تختفي الظاهرة من حياتنا بشكل نهائي.
نفعني الله وإياكم بكتابه الكريم، وبحديث سيد الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من عذابه المهين، آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، من يطع الله ورسوله فقد رشد واهتدى، ومن يعص الله ورسوله فقد ظلم واعتدى.
أيها المؤمنون
روى الإمام البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: “استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أبي أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا لي أهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله أثنى عليه، وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة يتعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال: اللهم هل بلغت؟ ” قال العلماء في شرح الحديث: “وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول، لأنه خان في ولايته وأمانته”.
ومما صح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث سيدنا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى خيبر فيخرص بينه وبين اليهود، والخرص يعني تقدير ما على النخل من التمر، فجمع له اليهود حليا من حلي نسائهم، وقالوا: هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود: والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذلك بحاملي على أن أخفف عليكم، فأما ما عرضتم علي من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
والسحت أيها المؤمنون كل حرام قبيح الذكر وكل ما خبث من المكاسب، وهو سبب ذهاب البركة وآكل السحت يتعرض لمختلف الآفات والأمراض والعلل، وبصفة عامة للفقر المادي والمعنوي، ويظن مبتزي الناس أنهم يحققون مصالحهم وسعادتهم بجمع تلك الأموال الحرام بتلك الطريقة التي تعرفونها، وهم إنما يجرون في حتف أنفسهم وهلاكهم وتعاستهم اليوم في الدنيا وغدا في الآخرة.
أيها المومنون ينبغي أن نستحضر على الدوام قول الله عز وجل: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)، وذلك من أجل تقوية المراقبة الذاتية لدينا في التعامل مع المال العام، واستحضار غضب الله تعالى بالابتعاد عن كل ما من شأنه أن يعرضنا لعقابه وسخطه ولعنته ومحاسبته فنعمل في حدود الضوابط الشرعية في صرف المال دون تبذير أو إسراف، وفي تحصيله دون ظلم أو ابتزاز.
اتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وباركت على سينا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وانصر اللهم من قلدته أمر عبادك، عبدك الخاضع لجلالك، مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، اللهم انصره نصرا عزيزا تعز به الدين، وتعلي به راية الإسلام والمسلمين، اللهم سدد خطاه وحقق مسعاه، ووفقه لما تحبه وترضاه، واحفظه اللهم في ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، كما نسألك أن تشد عضد جلالته بشقيقه صاحب السمو الملكي الأمير السعيد مولاي رشيد وسائ ر أسرته الملكية الشريفة .
اللهم تغمد برحمتك الواسعة الملكين الجليلين مولانا محمد الخامس ومولانا الحسن الثاني، اللهم طيب ثراهما وأكرم مثواهما وبوئهما مقعد صدق عندك.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين