المرأة في الإسلام (تابع)
الحمد لله حق حمده، نحمده تعالى ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة،
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، جاء بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار، وسلم تسليما كثيرا،
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات،
تبعا لحديثنا عن المرأة في نظر الإسلام نقول للذين تناولوها بالألسن والأقلام لعلهم يوقنون، إن كانوا يؤمنون بالقرآن، لقد اتسع مجال الحديث عن المرأة في عصرنا الحاضر، بشكل لم يسبق له نظير بعد أن ظفرت بحقوق كثيرة، وأصبحت ندا للرجل في كل شؤون الحياة المتعددة، لا يفضلها إلا بما فضله الله عليها من القوامة وعلو الدرجة، وبعض التبعات، وأصبحت الأساس في الأسرة الإنسانية، محررة من قيود العبودية التي كانت عليها عند الأمم الغابرة، كاللاتينيين والهنود وغيرهم من الأوروبيين الذين كانوا يحسبونها متاعا ساقطا يباع ويشترى في الأسواق، ولا يصلح إلا يخدم الرجل و البيت، ولا حق لها في الحياة،
فمنذ أن بزغ فجر الإسلام، وبعث الله سيدنا محمدا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، والمرأة تعلى شأنها، ورفعها إلى درجة عالية، ومكانة سامية لم تصل إليها المرأة العصرية في آخر تطورات المدنية، وأعلن أن المرأة أحد العنصرين الذين تكاثر منهما الإنسان، وجعل ذلك نعمة ومنة على بني آدم، فقال الله عز وجل: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن اتلله كان عليكم رقيبا”)،
وقرر الإسلام أن النساء يجزين على أعمالهن الصالحة كالرجال، فقال: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا)، كما أن الإسلام جعل مسؤوليتها مستقلة عن مسؤولية الرجل، فلا يؤثر عليها إذا كانت صالحة فساد الرجل وطغيانه، ولا ينفعها إذا كانت فاسدة صلاحه وتقواه واستقامته، فقال تعالى ضاربا لنا الأمثال بمن سبقنا من الأمم، وإشعارا بالمسؤولية وإيقاظا للعزائم والهمم، (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين).
وساوى الإسلام بينها وبين الرجل في حق المبايعة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الرجال على السمع والطاعة والقيام بحدود الشريعة، وكذلك بايع النساء كما أمره الله تعالى في قوله: (يا أيها النبيء إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا ياتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله، إن الله غفور رحيم)،
والإسلام إذ يكرم المرأة ويحترمها ويزيل عنها كل ما تعلق بشخصها المحترم من خرافات وأضاليل، وينفض عنها غبار الأباطيل، يسجل لها مواقف عظيمة تدل على بعد نظرها ومشاركتها للرجل في جميع الأعمال والمواقف قديما وحديثا، فمن ذلك ما حكاه القرآن متحدثا عن بلقيس ملكة سبأ في الوقت الذي أرسلت هدية إلى سيدنا سليمان عليه السلام، وقالت: إن كان نبيا حق فهديتنا لن تحول بينه وبين تبليغ أمر ربه، وإن لم يكن فسوف تصرفه عن قتالنا وتبقيه في بلده، وقد تحقق صدق رأيها فقال تعالى: (أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلناتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون)،
وسجل القرآن للمرأة قوة الفراسة وشدة بعد النظر حيث وصفت إحدى ابنتي شعيب موسى عليهما السلام بالأمانة،ولم تكن تعرف عنه شيئا، ولكن الأيام صدقت فراستها فقال عز وجل على لسانها: (يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين).
وسجل لها القرآن الكريم حسن الحيلة والقدرة على الإقناع حينما تحدث عن أخت موسى عليه السلام، عندما ألقنه أمه في البحر خوفا عليه من القتل، فالتقطه آل فرعون، وحالت امرأة فرعون بينهم وبين قتله، وامتنع عن تناول اللبن من غير تدي أمه، فقالت أخته: (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون؟).
والإسلام أيها الإخوة المؤمنون، هو الذي أبرز دور المرأة العربية المسلمة في الجهاد والعلم والأدب، فنذكر منهن على سبيل المثال لا الحصر امرأة تسمى رفيدة التي اشتهرت بالطب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت لها خيمة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تداوي فيها الجرحى، وكانت خيمتها أول مستشفى أقيم في صرح الإسلام، وعندما أصيب سعد بن معاذ في غزوة الخندق نقل إليها فأسعفته وعالجته،
ونذكر منهن أيضا تماضر بنت عمر بن الشريد التي اشتهرت باسم الخنساء التي بكت أخاها صخرا في الجاهلية حتى تقرحت أجفانها وكف بصرها وأسلمت وحسن إسلامها، ويبلغها استشهاد أبنائها الأربعة في معركة القادسية المشهورة، فلم تجزع ولم تندب حظها، وإنما صبرت واحتسبت، وقالت قولتها المشهورة: “الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في واسع رحمته”،
ونذكر منهن نسيبة بنت كعب الأنصارية الخزرجية التي اشتهرت بالبطولة والإقدام، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معظم الغزوات، وكانت تسقي المجاهدين وتعنى بالجرحى، من المصابين، رأت ما تعرض له المسلمون في غزوة أحد فأخذت السيف وجعلت تدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابها في كتفها جرح أليم، ولما رأت ابنها قد فترت عزيمته صرخت فيه بحظه على القتال حتى قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة، وقاتلت في حروب الردة ضد مسيلمة الكذاب إلى أن قطعت ذراعها، وتم النصر للمسلمين،
ونذكر منهن أسماء بنت الصديق، ذات النطاقين، التي شقت نطاقها إلى نصفين عند هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وربطت الزاد بأحد النطاقين إلى البعير الذي كان يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمنطقت هي بالآخر، وكانت تسير بالأغنام خلف الركب لمحو آثار الأقدام حتى لا يطلع العدو على الطريق الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التي عندما قدم عليها ابنها عبد الله بن الزبير يستشيرها وقد تفرق عنه أصحابه في حربه مع بني أمية وقال لها إني لا أهاب الموت، ولكني أخشى أن يمثل بي القوم إن قتلوني، فقالت له كلمتها الخالدة: “إن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها”، ولما قتل ابنها وصلبه الحجاج مرت به صابرة صامدة وهي تقول: “أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟”،
ونذكر منهن السميراء بنت أوس التي قتل إبناها الوحيدان في غزوة أحد، فاطمأنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حملت جثتي ابنيها على بعير لها، فلما نظرت إليها أمنا عائشة سألتها ما وراءك؟ قالت لها أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو بخير، وقد اتخذ الله من المسلمين شهداء، فلما سألتها عما معها قالت لها هما ابناي اتخذهما الله شهداء،
ونذكر منهن السيدة سكينة بنت الحسين التي كانت تجلس إلى الشعراء والأدباء وتساجلهم، والسيدة نفيسة بنت الحسين التي كان لها مجلس علم بمصر حضره الإمام الشافعي، وسمع عليها فيه الحديث، ونذكر منهن شجرة الذر المعروفة بأم خليل، زوجة الملك الصالح أيوب التي لما اشتد به المرض ومات وهو يجاهد الصليبيين في معركة المنصورة أخفت موته عن الناس حتى لا يضعف الخبر من قوة المسلمين، وظلت توقع الأوامر باسمه حتى حضر توران شاه من الموصل وتولى قيادة الجيوش المسلمة، وهزم الصليبيون، وأسر لويس التاسع وسجن بدار القاضي ابن لقمان بالمنصورة.
أيها الإخوة المؤمنون، من خلال هذه النماذج المعروضة والأصناف الموصوفة من النساء المؤمنات المتشبعات بروح الإيمان وأخلاق القرآن، يتبين لنا أن هذا الدين قد ملأ نفس المرأة اتزانا وقلبها إيمانا، وبلغ بها أسمى مراتب الكمال، فأصبحت منبتا طيبا لأجيال عظيمة صنعت التاريخ مشرقا ومغربا، ومدرسة أخلاقية طبعت المتخرجين منها بطابع الفضيلة والرجولة وحب التضحية والإيثار من أجل نصرة الإسلام وحماية الأوطان، وتحقيق الصالح العام، وفقني الله وإياكم إلى سبيل الرشاد، وهدانا إلى ما يرضي الله والعباد، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا ينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبوة والرسالة، وعلى آله وصحبه وكل من انتمى له، عباد الله ، من اتقى الله فاز برضى مولاه ومن جاءته موعظة من ربه فانتهى فأجره على الله، أما بعد فيا أيها الإخوة المسلمون والمسلمات، إن الله تعالى لم يخلقكم في هذه الدنيا عبثا، وما كان لكم أن تعيشوا فيها عيشة الخبثاء، بل أنتم خلفاء الله في الأرض وأنتم الورثاء، فسيروا إليه بأنفسكم وأهليكم سير السعداء، قال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون).
عباد الله، كيف ترون نساءكم يسرحن في الشر ويمرحن في المعصية، ويغلقن أبواب المعروف ويفتحن أبواب المنكر وأنتم لا تبدون شيئا ولا تعيدون، ولا تدرون بما يكون، وهن في مستنقعات الجهل والجهالة يعمهون؟، ومن يكون لصالح البيت وسعادة الزوج وتربية البنين إذا فسدت أخلاق المرأة وتلاعبت بها الرياح والأهواء والشياطين؟، فأصبحت كالتاجر المتجول الذي يعرض سلعته في الشوارع والأزقة، كاسية عارية، ولسان حالها يقول: ألا تنظرون؟ ألا تنظرون؟، والسفهاء من الناس يتشوفون ويتطلعون وعن خوف الله وطريقه المستقيم ناكبون، وهم ذئاب في ثياب، لا يهمهم إلا ما يفترسون،
واعلمي أختي المؤمنة أن لك في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، وفي الآداب التي أمر الله بها المؤمنات الأسوة الطيبة، فقال تعالى مخاطبا نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفا، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة، إن الله كان لطيفا خبيرا).
يا نساء الأمة الإسلامية، لستن كأحد من نساء الأمة العربية، ونساء العالم كله إن اتقيتن الله ورسوله، وتخلقتن بالأخلاق الفاضلة السامية التي جاء بها الكتاب والسنة، وابتعدتن عن سبل الشيطان وما توقع فيه من خبث ورذيلة، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وكن من العاملات، يقول الله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما).
جعلني الله وإياكم من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، وأكثروا إخواني من الصلاة والتسليم على أشرف الورى وسيد المرسلين، محمد الصادق الوعد الأمين.
الدعاء.