التعليم العتيق: جذور مغربية ونهضة ملكية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
السيد عامل صاحب الجلالة على إقليم أزيلال المحترم.
السيد رئيس المجلس العلمي المحلي لأزيلال.
السيد المندوب الإقليمي للشؤون الإسلامية بأزيلال.
السادة رجال السلطة المحلية والأمن على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم.
السادة العلماء والعالمات والسادة المشرفون على مدارس التعليم العتيق وأطرها التربوية.
أبنائي الطلبة الأفاضل، بناتي الطالبات الفضليات.
السيدات والسادة الحضور الكرام.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد، في البداءة، أصالة عن نفسي، ونيابة عن الأطر التربوية وطلبة التعليم العتيق بالمدرسة الخاصة الشيخ سيدي إبراهيم البصير، التي طوقنا المولى عز وجل بمسؤولية الإشراف عليها، أرحب بالسادة الحضور الكرام الذين قدموا إلينا لمشاركتنا فعاليات هذا الملتقى العلمي الرابع للتعليم العتيق الذي ننظمه هذه السنة حول موضوع:” التعليم العتيق: جذور مغربية ونهضة ملكية”، ونرحب بكل من جاءنا ليفيد ويستفيد.
أيها السيدات والسادة، يشاء الله عز وجل أن يكون موضوع مداخلتي في هذا الملتقى المبارك هو تناول شعار الملتقى بالتحليل والمناقشة: “التعليم العتيق: جذور مغربية ونهضة ملكية”.
ولذلكم فعندما نقول: “التعليم العتيق: جذور مغربية”، فإننا نعني بذلك هذا المصطلح الدقيق ” مصطلح التعليم العتيق”، الذي أكرم الله به المملكة المغربية، ولا يوجد في أي دولة من دول العالم الإسلامي على الإطلاق، وبذلك فإنه يعتبر من الخصوصيات المغربية التي تميز بلادنا ويحق لنا الافتخار بها إلى جانب الكثير من الخصوصيات التي تعرفونها.
فعندما ننظر بعمق إلى ما تختص بتدريسه مدارس التعليم العتيق بالمملكة المغربية، نجدها أولا كانت ولازالت تهتم بتحفيظ القرآن الكريم حفظا ورسما وضبطا وأداء، كما تهتم بتدريس مختلف العلوم الشرعية والإسلامية، وتؤكد على الإتقان والتميز في ذلك، والمتخرجون منها يضرب بهم المثل في مختلف دول العالم الإسلامي في الحفظ والإتقان والفهم والتربية والسلوك والأخلاق.
وإذا كان علماء المشرق ساعدتهم الكثير من الظروف – لاداعي للوقوف عندها- للظهور والشهرة في العالم الإسلامي، على عكس علماء المغرب، وبالأخص الذين اشتهرت بهم المدارس العلمية العتيقة، فذلك مرده في نظري إلى صفة طبيعية في علماء المغرب، وهي تواضعهم وعدم حبهم للظهور والشهرة، الشيء الذي انعكس سلبا على عطاءاتهم العلمية، وإلا فإن الكفاية العلمية لعلماء المغرب لا تعادلها كفاية، والمؤهلات العلمية لعلماء المغرب لا تعادلها مؤهلات ولا رتبة في باقي بلدان العالم الإسلامي، وهذا شيء يشهدون به في مختلف المحافل والملتقيات العلمية لعلماء المغرب، وفي هذا المقام تحضرني قصة وقعت لعالم مغربي في معرض حديثه مع زميل له عالم مشرقي، وذلك في إحدى الندوات العلمية التي أقيمت في مصر، حيث سأله هذا الأخير، لماذا لا تؤلفون معاشر الكتاب المغاربة؟ طبعا كان الهدف من السؤال التقليل من شأن الأساتذة المغاربة، فرد الأستاذ المغربي بكل هدوء وعلى الفور: لأننا نقضي معظم وقتنا في تصحيح ما يرد علينا من إبداعاتكم، فأفحمه.
ولاننسى أيها الإخوة والأخوات تلكم الرباطات الدينية والعلمية التي اشتهرت بها بلادنا المغربية، والتي كانت بالإضافة إلى قيامها بدور المرابطة والجهاد والدفاع، تعلم العلم الشرعي وتبلغ دين الله وتنفع المجتمع والأمة، فكانت تقوم بعدة مهام ووظائف تنوعت بين الجهاد والتعليم والعبادة، وللإشارة فإن هذه الرباطات تناهز حوالي ثلاثين رباطا في بلادنا المغربية، وهي تشكل جذورا أصيلة لهذه المدارس العتيقة التي ندندن حولها، ولا يوجد لها نظير أيضا في دول العالم الإسلامي.
أما بخصوص النهضة الملكية الموصولة التي مست هذا التعليم العتيق، فإنه لايستطيع أحد أن ينكر التطور الذي حصل للتعليم العتيق في بلادنا منذ الرعاية الملكية الموصولة في عهد المغفور لهما محمد الخامس والحسن الثاني رحمهما الله وأكرم مثواهما، اللذان أرجعا لجامع وجامعة القرويين الدور الريادي العلمي الذي كانا يلعبانه، وكانوا يدركون تماما أن من أهم الأجندة التي سخرها المستعمر من أجل تحقيق أهدافه ضرب التعليم عموما والعتيق خصوصا من جذوره، لأن المستعمر الغاشم كان يعرف حقيقة أن تقدم الأمة المغربية و تحررها رهين بمدى تقدم العلم والتمدرس، فركز بشكل خاص على التعليم العتيق وسعى إلى تغييبه تماما و تهمشيه.
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى ما أقدم عليه الراحل الحسن الثاني رحمه الله عام 1988، حيث أعاد الحياة إلى جامع القرويين بإعادة الدراسة به حسب النظام القديم، كتعليم عتيق تابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، إلى جانب جامعة القرويين للتعليم الأصيل، وفي عام 1995م، أنشأ رحمه الله المدرسة الملحقة بمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، وازداد الإحساس بالحاجة لتحصين هذا المجال من التعليم العتيق فأنشئت بفضل ذلك العديد من المدارس والكتاتيب القرآنية العتيقة، وظلت كذلك برهة من الزمن ليست باليسيرة إلى أن جاء العصر الحديث، حيث حدث ما يمكن أن يعبر عنه بــ” انفجار” للمدارس العتيقة في مختلف مدن المملكة المغربية جنوبا وشمالا غربا وشرقا.
وفي إطار النهضة الملكية الحديثة المتجلية للعيان للنهوض بالتعليم العتيق، يقول جلالة الملك محمد السادس نصره الله في الخطاب الملكي السامي الذي ألقاه أمام المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية يوم الجمعة 30أبريل 2004م: “وفي هذا السياق حرصنا على تأهيل المدارس العتيقة وصيانة تحفيظ القرآن الكريم، وتحصينها من كل استغلال أو انحراف يمس بالهوية المغربية، مع توفير مسالك وبرامج للتكوين، تدمج طلبتها في المنظومة التربوية الوطنية، وتجنب تخريج الفكر المنغلق، وتشجيع الانفتاح على الثقافات”، وفي هذا المقام يحسن بنا أن نذكر وننوه بالظهير الشريف الذي أصدره مولانا أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله ونصره، في شأن تطوير وتأهيل التعليم العتيق،وكل المراسيم والقرارات التطبيقية التي صدرت لتنطلق عملية التأهيل والإدماج تدريجيا، وكذا ما أقدمت عليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من خلال التنسيق مع وزارة التربية الوطنية للسهر على التنظيم البيداغوجي والإشراف على المدارس العتيقة تدبيرا وتسييرا وتأطيرا ومراقبة وتمويلا حسب الإمكانيات والظروف مع خلق جسور منفتحة بين التعليم العتيق والتعليم الأصيل والتعليم العمومي، وكذا إقرار نظام المعادلات في الشواهد، حيث أصبح لكل طور من أطوار التعليم شهادة تؤهل الطالب للانتقال للمرحلة الموالية، إلى أن يتوج مساره الدراسي بشهادة التخرج التي هي العالمية في التعليم العتيق أو الإجازة في التعليم العمومي.
وأصبح بحمد الله وخلال بداية كل سنة، تستقبل الجامعات المغربية أفواجا من طلبة التعليم العتيق يواصلون تحصيلهم الدراسي والعلمي بصمت وبسير حثيث في مختلف التخصصات، ويواصلون في الوقت نفسه تفوقهم بالإضافة إلى حرصهم وانضباطهم حيث يعطون النموذج الأمثل لعموم الطلبة في الجامعة، ولم يقتصر الأمر على هذا الحد فحسب بل لقد استطاع العديد من طلبة التعليم العتيق الولوج إلى الوظيفة العمومية مؤطرين دينيين وأساتذة وقضاة، ولدينا والحمد لله على مستوى مدرستنا هذه نماذج كثيرة نتشرف كونها درست وتخرجت منها.
أيها الحضور الكريم، لازلنا نراهن على المدارس العلمية العتيقة في حماية الدين الإسلامي من تأويل الغالين وانتحال المبطلين وضلالة المضللين وضمان التوسط ووسطية الإسلام وتسامح الإسلام، وصون الوطن من دسائس التغريب والتنصير والتشكيك والتشيع والتشدد في الدين الذي أرخى بفتنه خلال السنوات الماضية على مجتمعنا المغربي ولا زال، ثم تحصين المجتمع المغربي من الفتن والتمزق والحقد العنصري، وتوعية الشعب المغربي وتحصينه من الجهل والشعوذة والخرافة، والدفاع عن اللغة العربية لغة القرآن الكريم الأمر الذي يستدعي حقا دعمها والإشادة بها إعلاميا وتربويا، والافتخار بالهوية الوطنية والخصوصيات المغربية التي غدت اليوم مضربا للمثل في كل شيء.
ختاما أقول: إن المسؤولية الكبرى في إنجاح مؤسسات التعليم العتيق والنهوض بها تقع علينا نحن معاشر المشرفين والأطر التربوية التي تساعدنا، فنحن اليوم من ينبغي أن ينخرط بجدية في هذا البعث الجديد لمؤسسات التعليم العتيق، وذلك بتنزيل مقتضيات المنظومة التربوية كل في مؤسسته وعدم التساهل أو الاستهتار في القيام بالواجب.
أخيرا أحب أن أشير إلى أن مدارس التعليم العتيق الموجودة بالأقاليم الوسطى التي تشكل جهة تادلا أزيلال وجهة الشاوية ورديغة وجهة مراكش تانسيفت الحوز، هي التي تقوم بتخريج التلاميذ في طور الكتاب والابتدائي، وأغلب المتخرجين منها يلجؤون إلى مدارس الشمال والجنوب لاستكمال تكوينهم في طور الإعدادي والثانوي والعالمية، لذلك نتمنى أن تشكل هذه اللبنات من التلاميذ روافد للمدارس الأخرى الموجودة بالمنطقة الوسطى، حتى لا تتخبط بعض المدارس في جهتنا في عدم إيجاد تلاميذ لبعض المستويات، وتضطر كل سنة للبحث عمن يملأ هذا المستوى أو ذاك، وأيضا لتكون بحول الله مختلف المستويات التعليمية للتعليم العتيق موجودة بجهتنا، والحمد لله رب العالمين.