محبة الله للعبد

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،
أما بعد، فيا عباد الله،

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُومِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُوتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، قال بعض المفسرين: “يحبهم”، هذه المحبة الأصلية، أحبهم فخلقهم، أما إذا أطاعوه أحبّهم محبة ثانية، ولله ذر من قال: “ليس الشأن أن تحب الله، بل الشأن أن يحبك الله”،

أيها الإخوة الكرام، في خطبة الأسبوع الماضي تحدثنا عن محبة العبد لله ومعناها وموقعها من الدين وعلامات محبة العبد لخالقه، والأسباب الجالبة لها، وفي خطبة هذا اليوم سوف أطرق معنى محبة الله للعبد، وكيف يحب الله عبده؟ وعلامات هذا الحب.

قبل أن أبدأ أحب أن أقف بكم عند بعض معاني الآية السابقة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، ينبغي أن نعلم أن كل من أقامه الله منا على طاعة، وكل من أقامه على عمل صالح، وعلى تعليم القرآن، ومن أقامه على نشر الحق،  وعلى رعاية أيتام أو مساكين، ومن وفقه لعمل الصالحات ومن أجرى الخير على يديه لا ينبغي له أن يتراجع، ولا ينبغي أن يقصّر، ولا ينبغي أن يندم على ما فعل، لأن هذه كلها علامات محبة الله لنا، ولأنه إن قصرنا سيستبدل الله قوما غيرنا ثم لا يكونوا أمثالنا.

أيها الإخوة الكرام، إن أفضل الأعمال أدومها وإن قلَّت، وإذا تأملنا في حالنا نجدنا كثيرا منا يوفقه الله لأعمال صالحات، ولكن سرعان ما يمل ويرجع إلى الحال التي كان عليها من قبل، وكمثال على ذلك لا الحصر: إنسان مثلا يسلك طريق الإيمان،تجد إيمانه يفور ثم يخمد، يتقدم ثم يتراجع، إنسان آخر يلازم دروس العلم ثم يدعها، إنسان آخر ينفق من ماله ثم يمسك،إنسان آخر يقبل على ربه ثم يفتر،آخر يتلو القرآن الكريم ثم يعرض عنه ويهجره، فمفهوم الآية واسع يدخل فيه كل هذا.

أيها الإخوة الكرام، إن أصل هذا الدين بُني على المحبوبية، كان من الممكن أن يقهر الله الناسَ ويجبرهم جميعا على الهدى، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْاَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا)، وقال تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)، ولكن هذا الهدى الذي يتأتى قهرا وقسرا وجبرا لا يسعد صاحبه، الله عز وجل يريدنا أن نحبه، أن نأتيه عبر طريق المحبة، أن نبادر إلى طاعته، أرادنا أن نحبه، أن نطيعه مع المحبة، أن نطيعه مختارين، أن نطيعه مبادرين، أن نطيعه عن قناعة، أن نطيعه ونحن قانعون بهذه الطاعة، أن نطيعه دون خوف من شيء، أن نطيعه دون رجاء لشيء، أن تكون بالتالي طاعتنا خالصةً لوجهه الكريم.

أيها الإخوة الكرام، إن محبة الله للعبد ثابتة، ولكنها بلا كيف، نثبتها بلا كيف ولا تأويل ولا تعطيل،  
فلنتأمل في هؤلاء الذين يحبهم الله عز وجل ماذا فعلوا حتى استحقوا محبة الله لهم ؟ بمراجعة بسيطة لآيات القرآن الكريم وأحاديث سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، التي وردت فيها أسباب محبة الله لعبيده تعرفون إذا ثمن وأسباب استحقاق العبد محبة الله، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، وقال: (إن الله يحب المتقين)، وقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين).

أن تكون محسنا إلى أهلك، إلى أولادك، إلى جيرانك، إلى زملائك، إلى أصدقائك، أن تكون محسن وأنت تذبح الحيوان، أن تكون محسن في مهنتك، محسن في عملك، في أيّ حركة تتحركها أيها المؤمن تحسن فيها.
هذه الآيات في القرآن الكريم تشير إلى ثمن محبة الله، محسن، متقي، صابر، توّاب، متوكل، مقسط، متطهِّر، لو أن الإنسان كتب هذه الكلمات السبع، وجعلها منهجا له في الحياة، ما الذي يحصل؟، يمتلك أثمن شيء في الوجود، يملك محبة الله عز وجل له، وكل آية من هذه الآيات جديرة بالتوقف والدرس والتأمل.

وبالرجوع إلى السنة النبوية المطهرة نجد أحاديث كثيرة نستشف منها أسباب إدراك محبة الله لنا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ”، أي تعلم أن تعلم ولا تعنف، كن هادئا، كن حليما، أقنع، لا تقمع، لا تكن عنيفا، لا تبطش، وورد في الحديث أيضا: “إن الله كريم يحب الكرماء”، وورد: “إن الله يحب من العبد إذا عمل عملا أن يتقنه”، وورد: “ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه”، وورد: “وجبت محبتي للمتحابين فيّ ، والمتزاورين فيّ ، والمتجالسين فيّ”، وورد:”إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا –وهو يحبه – كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه”، وورد: “إن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه”، وورد: “إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ”، وورد: “إن الله رحيم يحب الرحماء”،وورد إن الله محسن يحب المحسنين”، وورد: “إن الله يحب الأتقياء الأخفياء” أي الذين يعملون بلا ضجيج، وبلا ظهور وبلا عرض عضلات، وبلا إعلان عن الرتب وعن المقامات، أنظروا إلى أكثر علماء السلف الصالح، كانوا إذا ألّفوا كتابا يعبرون عن إمضاءهم بعبارة: “الفقير إلى الله تعالى”، ومن علامات حب الله للعبد تيسير الطاعة وتعسير المعصية وحسن الخاتمة، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الحاكم: “إذا أحب الله عبدا عسله، قيل ما عسله يا رسول الله؟ قال:ي وفقه للعمل الصالح بين يدي أجله حتى يرضى عنه جيرانه-أو قال من حوله”، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد فيا عباد الله،

يقول الله تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)، وفي المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء، إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض”، معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى إذا أحبنا ألقى محبته لنا في قلوب الخلق، وإذا لم يحبنا ألقى بغضه لنا في قلوب الخلق، فيبغضوننا بلا سبب ظاهر، السبب الحقيقي أن الله ألقى بغض هذا الإنسان الذي لا يحبه في قلوب الخلق، وإذا أحب العبدُ ربَّه ألقى محبته في قلوب الخلق، ما أخلص عبد لله إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة والرحمة.

أيها الإخوة الكرام، بقي أن أتوقف عند هؤلاء المؤمنين الذين يحبهم الله عز وجل ويحبونه ما صفاتهم؟ قال تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُومِنِينَ)، أي متواضعين، رحماء، الرحيم قد يكون ذليلا أحيانا، فالأم الرحيمة تبكي طوال الليل بكاءً شديدا لمرض ابنها، وكأنها أُذِلت بهذا المرض، فـكلمة” أذل” هنا تعني الرحمة، وتعني العطف، وتعني الشفقة، تعني التواضع، ولئلا نتوهم أن هذه الذلة من طبعهم، لا، فبقدر ما هم أذلة على المؤمنين هم أعزة على الكافرين، انظروا إلى ما يقوله أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع ؛ أمرني بحب المساكين، والدنو منهم، وأمرني إلى أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، – بمعنى ولت بأن غابت أو بعدت-، وأمرني ألاّ أسأل أحدا شيئا، وأمرني بأن أقول بالحق ولو كان مرًّا، وأمرني ألاّ أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول  لا حول ولا قوة إلا بالله: فإنها كنز من كنوز الجنة… هذه أيها الإخوة والأخوات صفات الذين يحبهم الله عز وجل، فاحرص واحرصي أن تكون وأن تكوني ممن يحبهم الله، ويحبونه، أن تكون وأن تكوني من سعداء الدنيا والآخرة، فذلكم هو فضل الله الحقيقي، هذا هو الفضل، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُوتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، والحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *