كيف نصنع من أولادنا رجالا يعتمد عليهم في المستقبل؟
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله،
إذا تأملنا كيف استطاع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يصنع من صحابته رجالا يضرب بهم المثل في كل ميدان من الميادين وفي كل تخصص من التخصصات، بعد أن لقوه وهم لاشيء في جاهلية جهلاء، لعلمنا إذن أن الرجال يصنعون، تأملوا أيها الإخوة والأخوات في إنفاق سيدنا أبي بكر الصديق، وفي إدارة سيدنا عمر، وفي علم سيدتنا عائشة، وفي فقه سيدنا عبد الله بن عباس، وفي حياء سيدنا عثمان، وفي قضاء سيدنا علي وفي وفي… رضي الله عنهم أجمعين، هؤلاء وغيرهم استطاع تشبثهم بالإسلام أن يصنع منهم رجالا وأبطالا يعتمد عليهم، فتعالوا نقارن حالنا بهؤلاء.
أيها الإخوة الكرام إن مسألة أن نصنع من أبنائنا وبناتنا رجالا يعتمد عليهم في المستقبل تتطلب مهارات وتقنيات عالية ومتابعة شبه يومية قل من ينتبه إليها في معاملته لأولاده، وهي تربية تلقيناها بالسليقة والفترة عن طريق آبائنا وأجدادنا رحمهم الله تعالى مع قلة معلوماتهم في هذا الجانب، ولكن تشبثهم بدينهم وتجربتهم الميدانية العميقة التي راكموها طيلة حياتهم جعلت منهم معلمين متمهرين في تكوين وتخريج الرجال، هذا الجانب المهم الذي غفلنا عنه اليوم فأصبحت أسرنا الصغيرة ومجتمعنا الكبير يجني نتائجه السلبية المتفاقمة يوما بعد يوم، لقد تركنا أولادنا للفضائيات والإنترنت والإعلام على مختلف أنواعه لتوجيههم وتكوين شخصيتهم، فضاعوا وضاع المجتمع، فكيف نصنع الرجال أو بعبارة أدق كيف أجعل من ولدي رجلا في المستقبل، رجلا متكاملا يعتمد عليه في القيام بعمله، في القيام بواجب أسرته، وفي القيام بواجب والديه وأقربائه وفي القيام بواجبه اتجاه من يعرفهم من المسلمين في حدود طاقته؟
إنه يلاحظ بشكل عام عند النظر إلى حجم المشاكل التي يعاني منها مجتمعنا باختلافها وتنوعها أن مرد ذلك يرجع بنسبة كبيرة جدا إلى الطريقة التي نعامل بها أبناءنا وبناتنا، والطريقة التي نسلكها معهم في تربيتهم، وبذلك فإما أن نخرج منهم رجالا يعتمد عليهم في كل شيء، أو نخرج منهم بنات مذللات وذكور مذللين متكلين على والديهم في كل شيء شيء،سيجنون الفشل في أول طريقهم وفي أول الاختبارات الحياتية التي ستواجههم، ألا ترون وألا تسمعون أيها الإخوة والأخوات إلى الظاهرة التي أصبحنا نسمعها بمجرد ما يقترن رجل بامرأة في زواج، حتى نسمع بعد شهر أو شهرين أو عام ببدء مسطرة الطلاق بعد أن عاملها بعنف وشتى أنواع الإهانة، ألا تهزنا من الأعماق ظاهرة البطالة التي يعاني منها الكثير من الشباب بسبب تقاعسهم وتكاسلهم رغم وجود فرص للقيام بكثير من الأعمال الحرة؟ أولا تفاجئنا مظاهر الشباب المتسكع في المقاهي الذي لا يجد ما يفعل؟ أو غيره الذي يمشي ويجيء في الشارع دونما حاجة اللهم إلا معاكسة ومطاردة الفتيات أو تمضية الوقت؟ ألا نتقزز من مناظر جيل اليوم المهزوز وضعيف الشخصية الذي لا يملك ثقة بقدراته ونتائج قراراته، وقد أضاع رجولته حيث تعلق بأحوال خربت شخصيته وتركيبته الرجولية؟ ألا نسمع بمآسي الكثير من الآباء وأحزانهم بسبب مشاكل أولادهم التي يتسببون فيها لأنفسهم وللغير، ومظاهر أخرى كالإدمان على المخدرات وغيرها كثير…
إني أستغرب ما أستغرب للشاب يحصل على شهادة الباكلوريا ولا يزال يعتمد على والديه لتسجيله في الكلية واستئجار سكن له هذه وأمثالها أمور يمكن تركها للأبناء، وهي من بين الأشياء التي تصقل موهبتهم وتجعلهم يعتمدون على أنفسهم، فهذه أمثلة تدل دلالة على تراجع تحكمنا آباء وأمهات في تربية فلذات الأكباد، هؤلاء الذين نطمع أن نراهم رجالا، فما معنى الرجولة في معناها الإيجابي؟ وهل يعرف شباب اليوم رجال الغد معنى الرجولة بما تحمله من شهامة ونخوة ومروءة وشجاعة وصدق؟ أم أنهم تخلوا عنها واستمرؤوا اللين والخنوع والاتكالية على الآباء والأمهات، وما هي التقنيات الإسلامية التي ينبغي سلوكها مع الأولاد لنخرج منهم الرجال؟ وهل تخلق الرجولة مع الذكر أم أنه لاكتسابها لابد من معاناة ومتابعة؟
أيها الإخوة الكرام، إنه عند بحثي في هذا الموضوع وجدت من يفسر الرجولة بالقوة والشجاعة، ومنهم يفسرها بالزعامة والقيادة، ومنهم من يفسرها بالكرم والاستضافة وإقامة الولائم، ومنهم من يعتقد أن الرجولة بتحصيل المال والاشتغال بجمعه، ومنهم من يفسرها بالحمية الجاهلية، ومنهم من يفسرها بالبروز في المواقف الحرجة والأزمات لبذل المساعدة، ومنهم من يفسرها ببذل الجاه والشفاعة وتفريج مشاكل الناس بأي الطرق كانت ..إلى غير ذلك من تفاسير الناس لمعنى الرجولة .
والحقيقة أن الرجولة تحمل شيئاً من بعض المعاني السابقة لكنها ليست بالمعنى الذي يرمي إليه الكثير من الناس
ويخطئ الكثير في عدم التفريق بين الرجل والذكر، فكل رجل ذكر، ولا يعتبر كل ذكر رجل، لأن كلمة ذكر غالبا ما تأتي في المواطن الدنيوية التي يجتمع فيها الجميع، مثل توزيع الإرث وما أشبه ذلك، أما كلمة رجل فتأتي في المواطن الخاصة التي يحبها الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه).
وقال أيضا: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار)، وما أكثر الآيات التي تتحدث عن الرجال وصفاتهم.
ومن يستطيع أن يتصف بهذه الصفات إلا الرجال؟ الذين يوفون بوعودهم وعهودهم، والمتعلقون بالمساجد الذين يذكرون الله ويسبحونه، ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامة الصلاة في أوقاتها وأداء الزكاة المفروضة ويخافون من يوم القيامة وإلى أي مصير يصيرون.
فالرجل الحقيقي هو ذاك الذي نستطيع أن نربيه ونكونه كي يستجمع صفات عدة: منها النضج في التفكير، هذه الصفة التي لا يمكن بحال الاتصاف بها دون تعلم كيفية اتخاذ قرارات صائبة، ودون تملك صفات البذل والعطاء والتضحية وتعلم كيفية احترام الرأي والرأي الآخر وعدم التصغير والتحقير من شأن الآخرين وقول الحق والجهر به، والرجل الحقيقي هو الذي نعلمه الإيثار، وذلك بالسعي في خدمة الغير دون انتظار مقابل، وإعطاء كل ذي حق حقه، والرجل الحقيقي هو الذي نعلمه الإنصاف بقول الحق ومد يد العون لكل محتاج والعفو والسماح عند المقدرة والوقوف مع الناس في الشدائد والأزمات، والرجل الحقيقي هو الذي نعلمه العمل ابتغاء وجه الله بتنمية عناصر التقوى والإخلاص والإيمان في قلبه، والرجل الحقيقي هو الذي نعلمه كيفية التصدي للصعاب بالصبر والعزيمة والثبات وحسن التصرف، هكذا نكون الرجال الحقيقيين، الذين يستطيعون ممارسة طبيعتهم دون خلل أو انحراف.أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد فيا عباد الله،
فما هي مختلف التقنيات والمهارات كي ننمي عوامل الرّجولة في شخصيات أطفالنا؟، ذكر العلماء من ذلك:
أولا، أن نأخذه للمجامع العامة ونجلسه مع الكبار، وهذا مما يلقّح فهمه ويزيد في عقله، ويحمله على محاكاة الكبار، ويرفعه عن الاستغراق في اللهو واللعب، وكذا كان الصحابة يصحبون أولادهم إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ومن القصص في ذلك ما رواه النسائي عن مُعَاوِيَةَ بن قُرَّة عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ..
ثانيا، أن نحدثهم عن بطولات السابقين واللاحقين والمعارك الإسلامية وانتصارات المسلمين لتعظم الشجاعة في نفوسهم، وهي من أهم صفات الرجولة،كان للزبير بن العوام رضي الله عنه طفلان أشهد أحدهما بعضَ المعارك، وكان الآخر يلعب بآثار الجروح القديمة في كتف أبيه، روى ابن المبارك في الجهاد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير أنه كان مع أبيه يوم اليرموك، فلما انهزم المشركون حمل فجعل يجهز على جرحاهم بقتل من وجده مجروحاً وهذا مما يدل على قوة قلبه وشجاعته من صغره،
ثالثا، أن نعطي الصغير قدره وقيمته في المجالس، عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَال أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ فَقَالَ يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَالَ مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ،
رابعا، أن نعلمهم الرياضات الرجولية كالرماية والسباحة وركوب الخيل، وينبغي أن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعلم السباحة وفي عمره ست سنوات وخرج أول خروج إلى التجارة من مكة إلى الشام وفي عمره اثنا عشرة سنة، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ،
خامسا أن نجنبه أسباب الميوعة والتخنث، فيمنعه وليّه من رقص كرقص النساء، وتمايل كتمايلهن، ومشطة كمشطتهن، ويمنعه من التختم بالذّهب،
سادسا: أن نشعره بأهميته ونتجنب إهانته خاصة أمام الآخرين، ويكون ذلك بأمور مثل إلقاء السّلام عليه، روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وأن نستشيره ونأخذ برأيه ونوليه مسؤوليات تناسب سنّه وقدراته وأن نستكتمه الأسرار، روى الإمام مسلم عن أَنَسٍ قَالَ أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَةٍ. قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ. قَالَتْ: لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا،
وهناك وسائل أخرى لتنمية الرجولة لدى الأطفال منها تعليمه الجرأة في مواضعها، ويدخل في ذلك تدريبه على الخطابة، وتعليمه الاهتمام بالحشمة في ملابسه وتجنيبه الميوعة في الأزياء وقصّات الشّعر والحركات والمشي والتطبع بطبائع النساء وإبعاده عن التّرف وحياة الدّعة والكسل والرّاحة والبطالة، قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “اخشوشنوا فإنّ النِّعَم لا تدوم”، وأن نعمل على تجنيبه مجالس اللهو والباطل والغناء والموسيقى؛ فإنها منافية للرّجولة ومناقضة لصفة الجِدّ، والحمد لله رب العالمين.
الدعاء.