الطريقة الشاذلية الدرقاوية: نموذج التربية الصوفية السنية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد أشرف المخلوقين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيا أيها الإخوة الصالحون السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
مداخلتي أيها الأحبة الكرام هي تحت عنوان: “الطريقة الشاذلية الدرقاوية، نموذج التربية الصوفية السنية”، وسأتناول هذا الموضوع من خلال النقط التالية:
1 ) التصوف بشكل عام وطرقه الصوفية.
2 ) الطريقة الشاذلية الدرقاوية: تاريخ وتعريف.
3) التربية الصوفية السنية وتجلياتها لدى أصحاب الطريقة الشاذلية الدرقاوية.
1 ) التصوف بشكل عام وطرقه الصوفية:
الذي لا خلاف حوله، هو أن التصوف لم يكن معروفا بهذا الاسم لدى المسلمين الأول من صحابة رسول الله وتابعيهم، وإنما ظهر إلى الوجود بهذا الاسم في زمن الحسن البصري (ت 121هـ) والجنيد البغدادي (ت 298هـ) ومن لف لفهم رضي الله عنهم، وازدهر في عهد من جاء بعدهم كأبي حامد الغزالي (ت505هـ) وغيرهم ممن تصوفوا وتألقوا في عبادة ربهم.
هذا وإن كثيرا من الناس يستشكل كلمة التصوف هذه، ويقول إنه شيء طارئ على الإسلام متسرب إليه، فهو من البدع التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: “… وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة”. الحديث، أقول: إن الأسماء والكلمات ليست هي التي توصف بأنها الإسلام أو هي البدع الطارئة عليه، وإنما الذي يوصف بهذا هي المعتقدات الزائغة والسلوكات الباطلة.
يقول الإمام عبد الكريم القشيري رحمه الله في معنى هذه الكلمة أن من العلماء من رجع اشتقاقها إلى الصفاء ومنهم من رجعه إلى لبس الصوف، ومنهم من قال إنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال بأنه مشتق من الصف فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم، وغلبت هذه التسمية على هذه الطائفة فيقال رجل صوفي وللجماعة صوفية ومتصوفة، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له متصوف(1).
ويقول العلامة الرئيس ابن خلدون رحمه الله: “هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة.” (2)
والتصوف لا يعدوا أن يكون سوى اسما ومصطلحا يطلق على جماعة من الناس سعوا إلى تطبيق تعاليم الإسلام الحنيف، يهتمون بتزكية النفس ومراقبة الله متحققين بمقام الإحسان الذي يعني أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، كما فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكي يتحقق المسلم بمقام الإحسان هذا لابد أن يسري من العقل الذي آمن إلى الأعضاء التي استسلمت سلك من التأثير والفاعلية بحيث يغدو المسلم يعبد ربه وكأنه يراه متفاعلا بشعوره مع عباداته. (3)
والذي لا خلاف حوله أيضا أن الطرقية ظهرت لأول وهلة في الواقع الإسلامي في القرن السابع الهجري إبان سقوط الخلافة العباسية حيث تحول التصوف من السلوك والنظرية إلى الطرقية والانحراف عندما عمت بوادر الانحطاط والركود الفكري والعلمي الشرق كله.
وبالاستقراء والتمحيص والنظر، يظهر إذن أن التصوف هو لب الإسلام وهما شيء واحد، وأهل التصوف في الأصل على طريقة واحدة، والذي ساهم في كثرة الطرق الصوفية وتعددها هو عدم نسبتها إلى أصلها الأول الذي تفرعت عليه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، الطريقة الدرقاوية تعد واحدة من الطرق المتفرعة عن الطريقة الشاذلية، وما أكثر الطرق المتفرعة عن الشاذلية، فالطريقة الوزانية والشرقاوية والناصرية والكتانية كلها من الطرق المتفرعة عن الشاذلية.
والطريقة الدرقاوية بدورها تفرعت إلى أكثر من عشرين طريقة، وهذا كله ليس فيه من بأس، شريطة إلصاق كل فرع بأصله، كأن نقول: الطريقة الشاذلية الدرقاوية الذرفوفية، والطريقة الشاذلية الدرقاوية الإلغية، والطريقة الشاذلية الدرقاوية الإبراهيمية. ..إلخ، وفي هذا السياق يقول لويس رين: إن الشاذلية أخذت بالمغرب الأقصى اسما جديدا هو الدرقاوية” (4)
وإذا عرفنا أن الشيخ مولاي العربي الدرقاوي رحمه الله خلف أكثر من أربعين ألف تلميذ كلهم مؤهلون للدلالة على الله، كما أخبر بذلك العلامة سيدي أحمد بن الخياط رحمه الله تعالى عن شيخه سيدي عمر بن سودة، بان لك إذن السبب في كثرة الطرق المتفرعة عن الدرقاوية.
غير أن الذين تفرعت عنهم طريقته وانتشرت في المشارق والمغارب هم العارفون سيدي محمد البوزيدي، وسيدي محمد الحراق، وسيدي أحمد البدوي زويتن، وسيدي أبو يعزى المهاجي، وسيدي الطيب الدرقاوي المجوطي(5).
2) الطريقة الشاذلية الدرقاوية تاريخ وتعريف
قد يسأل سائل ما معنى الطريقة؟ الجواب، الطريقة في اللغة هي السيرة، وطريقة الرجل مذهبه، يقال: مازال فلان على طريقة واحدة أي على حال واحدة، وفلان حسن الطريقة والطريقة الحال، يقال هو على طريقة حسنة وطريقة سيئة وقوله تعالى: (وألو استقاموا على الطريقة)، أراد لو استقاموا على طريقة الهدى، والعرب تقول للرجل الفاضل، هذا طريقة قومه وإنما تأويله، هذا الذي يبتغي أن يجعله قومه قدوة ويسلكوا طريقته(6)، وفي الاصطلاح: الطريقة كل جماعة صوفية تسمى باسم شيخها، كما هو حال غالب الطرق(7).
وأغلب الطرق السليمة في منهجها تهتم بتزكية النفس ومراقبة الله، يقول العلامة العارف محمد سعيد رمضان البوطي حفظه الله: “كلمة الطريقة تساوي كلمة المنهج، والمراد بهذه الكلمة أو تلك النهج الذي يسلك فيه المربي أو المرشد إخوانه وتلامذته بتزكية النفس وتطهرها من أوضارها التي سماها الله “ظاهر الإثم وباطنه”، ولا يتجاوز هذا النهج على الأعم والأغلب أورادا ووظائف من الأذكار يأخذ بها المريد نفسه ويداوم عليها، ومقياس مشروعية هذا النهج أو عدم مشروعيته هو ميزان الشريعة الإسلامية، فمهما كان هذا النهج أو هذه الطريقة منضبطة بأحكام الشريعة الإسلامية المأخوذة من القرآن والسنة، فهي طريقة مشروعة وصحيحة، ومهما كانت شاردة عن ضوابط الشريعة فهي غير مشروعة وغير صحيحة. والتزام المسلم بنهج تربوي لتزكية النفس لاشك أنه سير على طريقة السلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين فقد كانوا قدوة لهذه الأمة في ذلك(8).
والطريقة الشاذلية الدرقاوية تنتسب إلى الشيخ مولاي العربي بن أحمد الدرقاوي، المتصوف الشهير في عالم التصوف المغربي، وينتمي إلى الشيخ أبي عبد الله محمد بن يوسف بن جنون الملقب بأبي درقة، دفين أولاد بوزيري بالشاوية.
ولد الشيخ مولاي العربي الدرقاوي، الشريف الحسني سنة 1150هـ بمدشر بني عبد الله من فرقة بومعان بقبيلة بني زروال(9)، وبها نشأ وتعلم وأكمل حفظ القرآن برواياته السبع، ثم اشتغل بقراءة العلم بفاس في المدرسة المصباحية وفي غيرها من دور العلم، وكان في أثناء ذلك مثابرا على العبادة، كثير الزيارة لأضرحة الأولياء، ولقاء شيوخ التصوف في عصره، وفي هذا الشأن لقي الشيخ علي الجمل في زاويته بالرميلة بفاس سنة 1182هـ، فصحبه وعول في السلوك عليه، ولازمه متجردا بزاويته سنتين كاملتين.
انتقل الشيخ مولاي العربي الدرقاوي بعدئذ إلى قبيلة بني زروال وأسس زاويته الأولى ببوبريح بفرقة بومعان سنة 1185هـ، ثم زاوية أخرى بقبيلة بني زروال، ويعتبر الشيخ مولاي العربي الدرقاوي وارث حال وأسرار الطريقة دون غيره من أقرانه، حيث واصل طريق شيخه وهذبها وحدد مبادئها وقنن السلوك فيها، وصارت الطريقة الدرقاوية بفضله مكتملة المبنى، وهي من أكثر الطرق الصوفية انتشارا، وهي مثال لاستمرار الطريقة الجزولية ورسوخها وتناسبها مع مختلف البيئات والأزمان، وهي بذلك جزولية زروقية، وأصبحت هذه الطريقة قوة سياسية مهمة في بداية القرن التاسع عشر للميلاد، وانتشرت زواياها في مختلف مناطق المغرب، بل وأخذت تكتسح كثيرا من الزوايا التابعة لطرق أخرى،وهي من الطرق المشهود لها بالنشاط تربويا في المجتمع المغربي، وتنتشر من الشمال إلى الجنوب في زواياها المنورة الحاملة لمشعل الدعوة إلى الله، ولا تزال بحمد الله هذه الطريقة غضة حية بمعينها الذي لا ينضب تستقطب المريدين في المشرق والمغرب.
قال محمد البشير الفاسي: “وانحشر الناس للأخذ عنه من كافة الأقطار والأمصار وتلمذ له الشريف والمشروف والرئيس والمرؤوس… وممن أخذ عنه من العظماء جلالة السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام العلوي المتوفى سنة 1277هـ، وسيدي عبد القادر بن الشريف سلطان وهران المتوفى سنة 1233هـ، وكفى بجلالة منصب الإمارة دليلا على بعد صيته ورفع علمه في عصره على سائر مشايخ وقته(10).
3) التربية الصوفية السنية وتجلياتها لدى أصحاب الطريقة الشاذلية الدرقاوية
لكي أستدل على سنية الطريقة الدرقاوية العتيدة، وأبين ابتعادها عن كل ما يمكن أن توصف به من البدعة والدجل، سأتطرق إلى خمس نقاط هامة تبين بجلاء ريادة الطريقة الشاذلية الدرقاوية في التربية الصوفية السنية:
أولها: بعض أقوال العلماء والصالحين في الطريقة.
ثانيها: وصف مجالس الطريقة.
ثالثها: الاستدلال على التربية الصوفية السنية من خلال كتابي رسائل مولاي العربي الدرقاوي وكتاب الإرشاد والتبيان في رد ما أنكره الرؤساء من أهل تطوان.
رابعها : بعض مشاهير شيوخ وعلماء الطريقة الشاذلية الدرقاوية في المشرق والمغرب.
خامسها: تمسك شيوخ الطريقة بالهوية الوطنية ودفاعهم عن حوزة الوطن.
أولها: بعض أقوال العلماء والصالحين في الطريقة
كثيرون هم العلماء الذين تكلموا حول الطريقة الشاذلية الدرقاوية، وقيموها من حيث مدى تمسكها بالشرع من عدمه، وهي شهادات مميزة تعكس المنهج التربوي السني للطريقة، وسأعمل على سوق بعضها.
قال سيدي داود باخلا(11) في شرحه لحزب البحر، وهو واحد من شيوخ الشاذلية المعتمدين في سندها المتصل، يقول: فليتأمل المنصف أحوال الشاذلية، وسداد طريقهم، وقوة يقينهم، وكثرة أنوارهم، وفتحهم وكشفهم، وذكاء قلوبهم مع غرق كثير منهم في الأسباب، وتلبسهم ظاهرا بأحوال العوام، فتراهم أبدا محفوظين في أحوالهم، محافظين على أعمالهم، قد انفتق في قلوبهم أسرار العلوم، ولاح لهم حقائق الحكم والفهم، فترى أحدهم في صفة العامي وهو يلهج بالحقائق وينطق بالحكم والدقائق، مما يعز وجوده لأرباب الانقطاع والخلوات وأهل التجلي والمشاهدات، وهذا يدل على كثرة الأنوار وحصول العناية، وأنهم في صون وحماية. (12)
و قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله في قصيدة طويلة نقتطف منها ما يلي:
تمســك بحبل الشاذلية تلق ما تروم وحـــــقق ذا الرجا وحــصل
ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم شموس هدى في أعين المتأمل. (13)
وقال محمد المهدي الفاسي: “لو حلف حالف أن ما عليه أهل الطريقة الشاذلية هو الذي كانت منطوية عليه صدور الصحابة رضي الله عن جميعهم لبر في يمينه” (14)
وقال عبد الله ناصح علوان ناقلا عن كتاب حاضر العالم الإسلامي: (الشاذلية من أوليات المدارس التي أدخلت التربية الروحية في المغرب، ومركزها في مراكش-أي المغرب- وكان من أشياخها العربي الدرقاوي الذي أوجد عند مريديه حماسة دينية امتدت إلى المغرب الأوسط، وكان لأتباعه أثر كبير، ودور فعال في مقاومة الاستعمار الفرنسي). (15)
وقال محمد بن جعفر الكتاني: وطريقته رضي الله عنه مبنية على اتباع السنة في الأقوال والأفعال والعبادات والعادات ومجانبة البدع كلها في جميع الحالات، مع كسر النفس وإسقاط التدبير والاختيار، والتبري من الدعوى والاقتدار، والإكثار من الذكر آناء الليل وأطراف النهار، والاشتغال بالمذاكرة وما يَعْني، وترك كل ما يُعنى”.(16)
ثانيها: وصف مجالس الطريقة
عندما يجتمع مريدو الطريقة الدرقاوية في الزاوية أو عند أخ لهم في الله في مناسبة من المناسبات، فإن مجالسهم لا تكاد تجد فيها فراغا أو فضولا من الكلام، اللهم إلا الإكثار من ذكر الله تعالى بالسر والإجهار، وقراءة القرآن وتدارس شيء من الفقه وكلام القوم، ويختمون بتناول الطعام ثم الدعاء لأميرهم ولأنفسهم وكافة المسلمين.
زد على ذلك ما عرفوا به في مجالسهم من خدمة وتواضع بعضهم لبعض في تسليم كامل، ولا يدخلون ولا يخرجون إلا برفع أصواتهم بلا إله إلا الله، وتراهم يقبلون أيدي بعضهم البعض، وعناق يدل على تمكن المحبة والأخوة الصرفة من قلوبهم.
وإذا ابتلي أحدهم ببلاء تجد الجميع يسأل عنه ويبذل الخطى لزيارته، وهكذا يصدق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: “مثل المومنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالصهر والحمى”(17).
ثالثها: الاستدلال على التربية الصوفية السنية من خلال كتابي رسائل مولاي العربي الدرقاوي وكتاب الإرشاد والتبيان في رد ما أنكره الرؤساء من أهل تطوان
وقد اخترت هذين الكتابين باعتبارهما من أوائل الكتب المؤلفة من قبل علماء الطريقة، الأول منهما للشيخ مولاي العربي الدرقاوي رحمه الله وهي رسائله المشهورة في الآداب والسلوك، والثاني منهما كتاب الإرشاد والتبيان في رد ما أنكره الرؤساء من أهل تطوان لمريده سيدي محمد بن محمد بن عبد الله المكودي التازي المتوفى سنة 1214 هـ، وهو الكتاب المطبوع تحت عنوان سلوك الطريقة الدرقاوية والرد على منكريها(18).
1ـ رسائل مولاي العربي الدرقاوي
وهو كتاب ضم أغلب رسائل الشيخ مولاي العربي الدرقاوي في الأدب والسلوك، وقد أثنى غير واحد على هذه الرسائل، يقول محمد بن جعفر الكتاني: “ورسائله نفعنا الله به من أنفع الرسائل للمريد وأدلها على كيفية السلوك والتجريد، لا يستغني عن مطالعتها سالك، ولا يجحد خيرها وفضلها إلا هالك”(19).
ويقول العلامة عبد الله التليدي حفظه الله ملخصا مضمون الرسائل: أما طريقته التي كان ينهجها ويأمر بها ويدعو إليها هي تعلم لوازم الدين الضرورية أولا من غير تغلغل وتعمق في العلوم، ثم القيام بالمفروض وبما تأكد من المسنون، ولزوم الصمت والإقلال من الأكل والمخالطة وترك ما لا يعني، والزهد في الدنيا والتجرد من العلائق والعوائق ظاهرا وباطنا مع المثابرة على ذكر الله عز وجل حسب الاستطاعة، والتعلق بالله تعالى والقيام بالعبودية الخالصة من غير نظر إلى حظوظ أو لحوظ كما هي طريقة المحققين من الصوفية، وكان يأمر بإسقاط المنزلة وإذلال النفس وقتلها، وذلك بمخالفة المألوفات والعوائد، وكان يوصي أصحابه كثيرا بالتواضع والتمسكن والتظاهر بالفاقة والافتقار إلى الله تعالى وتخريب الظاهر…وكان يقول لا وصول إلى الله ـ والمراد به العلم به ـ إلا من طريق موت النفس وتهذيبها وتطهيرها من العيوب والرعونات كما هي طريق الأكثرية من الصوفية …هذا ملخص طريقته كما في رسائله(20).
من خلال ما سبق علمنا أن الشيخ مولاي العربي تخرج على يديه أفواج الأولياء والصالحين كلهم أهل للتربية والتعليم، وكفاه ذلك مفخرة ودلالة على سنية طريقته وتشرعها، وزيادة في إيضاح هذه الفكرة، سأدرج هنا بعضا من رسائله يعرف فيها التصوف كما يراه، وأخرى يحث فيها مريديه على تعلم الفقه وخاصة العلم الضروري، والاهتمام بالمذاكرة في المجالس، والتزام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذكر في جميع الحالات والتزام الأخلاق النبوية، والتواضع والمسكنة، والحرص ما أمكن على مخالفة النفس.
أـ تعريفه للتصوف كما ورد في رسالة من رسائله
يقول رحمه الله: التصوف فيما نرى والله أعلم حفظ شرائع الدين، وسلب الإرادة لرب العالمين، وحسن الخلق مع المسلمين، وأما رفض الدنيا فأمر واضح، لأن حبها رأس كل خطيئة وبلية كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم…
ب – ملخص آداب الفقير كما يراها
فغاية نصحي إليك أيها الفقير أن تقوم بالمفروض، وبما تأكد من المسنون، ثم تواظب على استبرائك من بولك كما ينبغي، وعلى النظافة، والمسكنة، والقناعة، والاستخارة النبوية، والتلاوة، والزيارة، والصمت، والوضوء، وصلاة الضحى، وتحية المسجد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والحذر من الكذب، والغيبة والنميمة، والمحرمات والمكروهات، والله إن واظبت على هذا واعتنيت به ما استطعت، حتى تشرق أنوارك وتظهر، ولم تخف أسرارك، ولم تكن حقيقتك أيضا إلا نورانية، ولم تكن قط ظلمانية، والسلام(21).
ج –حثه على اتباع السنة
يقول رحمه الله: “وبعد يا إخواني فمن شاء منكم ومن غيركم أن تنقلب ناره جنة فلا يتزحزح عن السنة، إذ هي سفينة النجاة ومعدن الأسرار والخيرات، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق…. فأوصيكم كل الوصية أن تكونوا دائما على السنة المحمدية… فإن شئت أن تتخلص من الشكوك والأوهام فتحصن دائما بسنة النبي عليه السلام.
د –حثه على تعلم العلم الظاهر وفرائض الدين وسننه
يقول رحمه الله: “إني أحب من يتعلق بي أن يقوم بالمفروض، وبما تأكد من المسنون، وأن يكون دائما على نظافة بدنه من وسخه، فأحرى نجسه ومن شعر وسطه وإبطيه وأظفار يديه ورجليه وثوبه ومكانه وعلى ترك ما لا يعنيه واستبرائه من بوله وتأنيه على ذلك حتى يتحقق أو نقول يطمئن قلبه بانقطاع بوله… فإن شئت أن تطوى لك الطريق وتحصل في ساعة على التحقيق فعليك بالواجبات وبما تأكد من نوافل الخيرات، وتعلم من علم الظاهر ما لابد منه، إذ لا يعبد ربنا إلا به ولا تتوغل فيه، ولا تتبعه إذ لا يطلب فيه التبحر… فلا نرى من يخوض في رحمة الله كما يخوض فيها صاحب علم، ولا نرى من هو في رضى الله تعالى كما هو فيه المشتغل بتعلم دينه التارك لما يعنيه.
هـ – أولى الأولويات مخالفة النفس
يقول رضي الله عنه: فلا يدخل على الله إلا من باب موت النفس كما عند القوم رضي الله عنهم، … فقد كان الفقراء أهل الزمان الأول رضي الله عنهم لا يحرصون أو نقول يجتهدون إلا فيما يميت نفوسهم ويحي قلوبهم، ونحن الآن على عكسهم، فلا نحرص إلا على ما يميت قلوبنا ويحيي نفوسنا، إذ لا يحرصون إلا في ترك شهواتهم وفي إسقاط منزلة أنفسهم، ونحن لا نحرص إلا على شهواتنا ورفعة منزلة أنفسنا، وقد جعلنا الباب وراءنا والحائط قدامنا… وإسقاط منزلة النفس عندنا وعند شيوخنا وشيوخ الطريقة كلهم رضي الله عنهم شرط لازم.
و ـ الاعتبار بالحال لا بالمقال
يقول رحمه الله: فقد كان أستاذنا رضي الله عنه لا يعتبر في الفقراء المقال إنما كان يعتبر فيهم الحال، وكان يقول أصبعان من العمل خير من مائة ذراع من العلم، والأمر كما قال، لأنه نرى الألسن كثيرة غاية الكثرة، والقلوب كادت ألا توجد…
زـ حثه على سلامة الصدر للمسلمين
يقول: فقد قلت لبعض المدعين المشحونة قلوبهم بالغل والحسد والكبر والرياء والعجب والبخل والحرص وغير ذلك من الرذائل: فكن سالم الصدر وانقص من صلاتك ومن سائر أعمالك، ولا تقم إلا بالمفروض وبما تأكد من المسنون، ولا تزد شيئا، إذ لا ينفعك كثرة أعمالك مع خبث قلبك ولو عملت ما عملت، إنما تنفعك سلامة صدرك مع ما فرض الله عليك، وأقل عمل يكفيك معها، ولا يكفيك صيام نهارك وقيام ليلك أو عبادة دهرك كله مع مرض قلبك واستغراقك فيما يكره الله منك… من شاهد الكمال في كل شيء استمد من كل شيء وزاد قربا إلى الله بكل شيء، ومن شاهد النقص في كل شيء استمد منه كل شيء وزاد بعدا من الله بكل شيء.
ح ـ الاهتمام بالمذاكرة
يقول رحمه الله: فالمذاكرة عند القوم رضي الله عنهم من أهم المهمات فلا يستغني عنها إلا من جهل قدرها، وقد كان شيخ أستاذنا، وهو سيدي العربي بن عبد الله رضي الله عنه يقول: الناس خمرتهم في الحضرة وخمرتنا نحن في الهدرة،وأيضا: مذاكرة اثنين أفضل من حمل وقرين كما عند القوم، وعليه فلا نحب من يسكت من الإخوان وقت المذاكرة بل نكرهه الكراهة البالغة ،إذ لا فائدة في الصمت حينئذ، إنما فيه قلتها، لأن المعاني تجر بعضها بسبب الكلام، حتى يجر صاحبها إلى الحضرة الربانية، ولا خفاء أن الدجاجة لا تلد إلا بعد أن تجعل لها مولاتها بيضة، كذلك شيوخ الطريقة رضي الله عنهم لا ترد عليهم العلوم التي ينفقونها على المقتدي بهم إلا بوجود بحثهم وحكهم الحك البالغ، والسؤال يدعو الجواب والجواب يدعو السؤال وهكذا… واعلموا رحمكم الله أني أحبكم أن تتذاكروا في الذي يميت نفوسكم ويحي قلوبكم كما كان من قبلكم من أهل طريقكم، واحذروا من دسائس أنفسكم لئلا ينقطع المدد عنكم…
2ـ كتاب الإرشاد والتبيان في رد ما أنكره الرؤساء من أهل تطوان:
وهو كتاب ألفه العلامة محمد بن محمد بن عبد الله المكودي التازي للرد على طائفة من علماء تطوان، استنكروا أحوال فقراء الطريقة الدرقاوية، وحرضوا أرباب السلطة على سجنهم وتعذيبهم، فأنكروا عليهم لباس المرقعة وركوب الحمار والمشي بالحفا وكشف الرأس وجعل السبحة الغليظة في العنق والعمارة، والسؤال في الأسواق، فرد عليهم رحمه الله ردا علميا يستدل على كل ما أنكروه بالقرآن والسنة وأقوال الصالحين من السلف، وبين شرعية وسنية الطريقة الدرقاوية بشكل خاص وطريق القوم بشكل عام، وهو بحق يعتبر مرجعا لكل الطرق الصوفية في الرد على المنكرين الذين امتلأت بهم كل المعمورة، وفي هذا الكتاب تناول المؤلف أغلب المسائل التي يسنكرها العلماء والعوام على حد سواء على السادة الصوفية، ولم تقبلها عقولهم القاصرة، وقد اخترت من جملة ذلك مسألتان للاستدلال على سنية الطريقة الدرقاوية.
أ)دفاعه عن سنية الطريقة
يقول رحمه الله: حاشى ومعاذ الله أن تكون هذه الطائفة الدرقاوية على غير السنة المحمدية والملة الإبراهيمية، وكيف يتصفون بالبدعة والظُلمة، وكثير منهم فقهاء في الكتاب والسنة، وكيف يتحلى بالفساد من باع نفسه لرب العباد؟ أم كيف يفسد الأنام من شأنه التلاوة والذكر على الدوام وكثرة الصلاة على خير الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام(22)… ولا يعرف بين السنة والبدعة إلا من تحقق ظاهرا وباطنا بالسنة، ولا يتحقق ذلك إلا من فنى عن نفسه وهواه، وتحقق بالعبودية في سره ونجواه، وكيف يتحقق بوصفه من لم يتخلص من أسر فلسه وجنسه، قد عَلَق خوف الخلق وهم الرزق بقلبه، وأبعده شدة حرصه عن القرب من ربه، وكيف يصح الدواء ممن ملكه الهوى، ثم مع هذه الحال، يزن بعقله وعلمه على الرجال.
ويقول في موضع آخر: فهم رضي الله عنهم عاملون على موت نفوسهم على الدوام، ساعون في إخماد ذكرهم بين الأنام، متحققون بأوصاف العبودية متذللون في الأسواق وغيرها لعظمة الربوبية، قد أعرضوا عن الخلق والدنيا جملة وتركوها، ونزلوا قصور الفقر والذل وسكنوها، وعلى موت النفس وفنائها وزوالها بالكلية واضمحلالها، مدار كل عارف مربي كما هو طريقة شيخنا مولاي العربي(23).
ب)رده على المنكرين مسألة الجهر بالذكر واتخاذ السبح لذلك والمناوبة في الذكر
يقول: قال في نصرة الفقير: فلو كنت عاقلا لاكتفيت منهم بالذكر على أي وجه ذكروا، سواء كانوا صادقين أو مبتدعين، وتقدم قوله: الذكر يشهد لهم بالإيمان، والنكر يشهد لكم بالنفاق، وقال الشافعي: “الإنكار فرع من النفاق”، قال المزني: “بل هو النفاق كله”، ولما رجعنا والتقينا بالشيخ مولاي العربي قال لنا: “الحمد لله الذي جعلنا من خير أهل الصدق، وجعلهم من خير أهل التكذيب”، قال رضي الله عنه: “وقد تدبرت القرآن فإذا الثلث، أو قريب من الثلث، كله في قصص أهل التكذيب لأهل الصدق وما جرى للمكذبين، نسأل الله السلامة بمنه إنه على كل شيء قدير”.ـ ص63ـ… وأما اتخاذ السبحة فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقر أصحابه على التسبيح في نوى التمر وكانوا يفعلون ذلك، وكان أبو هريرة رضي الله عنه ربط في خيط خمسمائة عقدة ويسبح بها بين يديه صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك، ولم أر فيها تعارضا لأهل العلم إلى هلم جرا، قاله الإمام السنوسي في نصرته، وللحافظ السيوطي تأليف في هذا المعنى سماه المنحة في أسانيد السبحة إلى أن يقول: كانت لبعض الأشياخ سبحة عظيمة ثقيلة للغاية محمولة معلقة على جرارة، فكان إذا جذب الحبة الواحدة وسقطت على أخرى يسمع لها صوتا عظيما، فقيل له في ذلك، فقال: لو تأتى لنا أن نذكر الله بالجبال لفعلنا… ورأينا كثيرا ممن يظن بهم الخير يجعلونها في أعناقهم، قال في نوازل جامع المعيار: وذكر القاضي في المدارك ما نصه: قال بعضهم: دخلت على سحنون وفي عنقه تسبيح يسبح به”، وأنت تعلم من سحنون علما وورعا؟ وهل يقدم على هذا إلا بدليل؟… والعجب من هؤلاء العلماء الذين ينكرون مثل هذا على الفقراء وهم يجالسون الجبابرة والظلمة صباحا ومساء، ويرون عليهم المجاديل الغليظة من الحرير الخالص كالأفاعي، ولا يقولون هذا قبيح أو حرام أو بدعة، فلله عليهم هل تخصيص الإنكار بالفقراء دون الظلمة، في هذا وشبهه من الانتصار للدين أو من الإفلاس من نور اليقين… وأما الإعلان بالذكر، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يجتمع مع أصحابه رضي الله عنهم أدبار الصلوات الخمس للذكر، ويرفعون أصواتهم بذلك، حتى قال عمر رضي الله عنه: “كنا نعرف إذا انصرفنا من المكتوبة برفع الصوت بالذكر”، وعنه صلى الله عليه وسلم: “أكثروا من ذكر الله حتى يقولوا مجنون”، واستمر رحمه الله في سوق الأدلة على ذلك، وكذلك فعل في كل المسائل الأخرى التي استشكلها علماء تطوان كلبس المرقعة والمشي بالحفا والعصا والسؤال والتناوب في الذكر والذكر في المسجد والعمارة، والتواجد في الذكر.
رابعها: بعض مشاهير شيوخ وعلماء الطريقة الشاذلية الدرقاوية في المشرق والمغرب
حرصت أن أثبت هنا بعض أسماء مشاهير شيوخ وعلماء الطريقة الشاذلية الدرقاوية بالمشرق والمغرب، وذلك ليظهر للعيان أن فطاحل العلم الشرعي الظاهر تصوفوا على منهاج الطريقة، وهم من هم، وقد أدرك جميعهم أنه بدون تصوف لا يمكن أن يكون هناك تحقق وتعرف.
فمن علماء المشرق أذكر الإمام العز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء، الذي قال فيه ابن عرفة: لا ينعقد إجماع بدون عز الدين بن عبد السلام”، وكان يقول في أوائل أمره: وهل ثم طريق غير ما فهمناه من الكتاب والسنة؟ وينفي طريق القوم، فلما اجتمع بسيدي أبي الحسن الشاذلي وأخذ عنه صار يقول: والله ما قعد على قواعد الشريعة التي لا تنهدم إلا الصوفية”، وقال أيضا: أدل دليل على صحة طريق القوم أن أهلها قعدوا على القواعد، وقعد غيرهم على الرسوم، وأن ما يقع على يد القوم من الكرامات والخوارق، ولا يقع على يد فقيه كرامة، ولو بلغ من العلم ما بلغ، إلا إن بلغ طريقهم”.(24)، وحكى السبكي والسيوطي وغيرهما أن العز لبس خرقة التصوف عن الشهاب السهروردي، وكان يحضر عند أبي الحسن الشاذلي ويسمع كلامه في علم الحقيقة، سئل عن قول القشيري وأبي حامد الغزالي رضي الله عنهما: الصوفية أفضل من العلماء الراسخين، فقال: هذا متفق عليه، ولا يشك عاقل أن العارف بالله أفضل من العارفين بأحكام الله، بل العارفون أفضل من أهل الفروع والأصول، وكان يحضر السماع ويرخص فيه(25).
ومن جهابدة علماء المشرق أيضا أذكر أبو العباس المرسي والتاج ابن عطاء الله السكندري والإمام البوصيري وأبو القاسم البرزلي وسيدي عبد الرحمن الشاغوري وسيدي مصطفى التركماني رحمة الله عليهم أجمعين وغيرهم كثير.
ومن علماء بلاد المغرب أذكر أحمد بن أحمد زروق الفاسي وابن عباد الرندي وأبوعبد الله أمغار الصغير وأبو عبد الله محمد بن سليمان الجزولي وأبو المحاسن يوسف الفاسي وأبو عبد الله محمد بن ناصر الدرعي ومولاي عبد الله الشريف وسيدي أحمد بن عجيبة وسيدي محمد البوزيدي وسيدي محمد الحراق وسيدي أحمد البدوي وأبو يعزى المهاجي والشيخ عليش الكبير ومحمد بن الهاشمي التلمساني وسيدي أحمد بن مصطفى العلوي ومحمد المختار السوسي ومحمد الكبير الكتاني ومحمد بن الصديق الغماري وغيرهم كثير.
فهؤلاء العلماء رحمهم الله ممن تبحروا في العلم الظاهر، وأخذوا الأوراد عن شيوخ الطريقة الدرقاوية، ورضوا بالتصوف منهاجا يقربهم لخالقهم، ودافعوا عن القوم وأخلاقهم وأعمالهم وكل ما يستنكره العلماء والعوام على المتصوفة.
وهنا أحث إخواني الباحثين على الاهتمام بهذه النقطة وجعلها محل أبحاثهم لأهميتها، لأنه عندما يجمع كتاب يضم علماء الطريقة الشاذلية الدرقاوية المشهورين بالمشرق والمغرب، وأسباب انخراطهم فيها، وذكر مختلف أحوالهم الصوفية، وما ألفوه وما قالوه في الدفاع عن التصوف، وكل شيء اتصل بذلك، فإننا سنعطي للطريقة الدرقاوية نفسا جديدا ودفعة قوية خاصة فيما يتعلق بتمسكها بشرع الله.
خامسها: تمسك شيوخ الطريقة الدرقاوية بالهوية الوطنية ودفاعهم عن حوزة الوطن
إن حب الوطن والحنين إليه والدفاع عن حوزته والإخلاص له، كلها دليل على تشرع المؤمن واقتدائه بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والمتتبع لمصادر التاريخ المغربي وبخاصة كتب تاريخ التصوف ورجاله، يجد أن شيوخ الطريقة الدرقاوية رحمة الله عليهم كانوا من المتمسكين بالهوية الوطنية، كانت تربطهم بأمراء المؤمنين أقوى الروابط، حيث سعوا في خدمتهم وحثوا الناس على الولاء لهم ومحاربة الأجنبي الذي يبغي السيطرة على البلاد والعباد.
يقول الأستاذ إبراهيم حركات متحدتا عن الطريقة الدرقاوية: “ومن كبار شيوخهم العربي الدرقاوي، معاصر مولاي سليمان ومولاي عبد الرحمن، وله دور بارز في إثارة أتباع حركته بالجزائر ضد الاحتلال الفرنسي، ابتلي في قيادة الثورة ضد مولاي سليمان لصالح الأمير يزيد، وفيما عدا هذا الحادث الذي سجن من أجله الشيخ العربي مدة تجاوزت العامين، التزم الدرقاويون نوعا من المرونة اتجاه السلطة، لكنهم بالمقابل هيأوا الأطلس المتوسط لمعارضة التدخل الأجنبي”(26).
وبعض الناس هداهم الله يتخذون من قصة سجن الشيخ مولاي العربي الدرقاوي من قبل السلطان مولاي سليمان ذريعة للتقول على الطريقة أنها كانت ضد السلطة، وهذا ما لم يحصل بتاتا، فسبب سجنه واضح وهو موالاته للأمير مولاي يزيد ضد مولاي سليمان، وهذا الأمر لم يقم به الشيخ مولاي العربي وحده، وإنما كان هذا شأن أهل فاس وأهل جبل العلم وأهل تطوان وطنجة والعرائش وأصيلا قاطبة، ومعلوم أن المغرب في هذا التاريخ لم يكن يعرف الاستقرار التام، بسبب الصراع على السلطة، ومن أراد التفصيل في هذه النقطة فليرجع للاستقصا للناصري عند كلامه على بيعة أمير المؤمنين يزيد بن محمد رحمه الله(27).
ولكي تعرف العلاقة المميزة التي كانت تربط الشيخ مولاي العربي بأمراء المؤمنين أصغ السمع لما يقوله المؤرخون، يقول محمد البشير الفاسي: وكان له ـ أي الشيخ مولاي العربي الدرقاوي ـ اهتمام كبير بالسعي في مصالح المسلمين وإخماد نار الفتنة بينهم، وجمع كلمتهم على طاعة أئمتهم، فقد قام بأعمال جليلة في هذا السبيل أيام سلطنة السلطان المقدس مولاي سليمان بن سيدي محمد بن عبد الله العلوي، إذ كثيرا ما كلفه بأمور هامة كسفره لوهران سنة 1220هـ عند أميرها مولاي عبد القادر بن الشريف، وقد وقفت على رسائل من السلطان المذكور للمترجم تدل على ماله من الأيادي البيضاء في جمع الكلمة وإخماد نار الفتنة، وها أنا أنقلها تتميما للفائدة.انتهى كلام محمد البشير الفاسي.
واخترت أن أنقل لكم نص إحداها لتطلعوا على العلاقة المميزة التي كانت تربط الشيخ بالسلطان، يقول: الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، محبنا الفقير الشريف مولاي العربي الدرقاوي سلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد وصل كتابك وعرفنا ما فيه، وبلغنا كتاب الشريف سيدي عبد القادر بن الشريف، وكتبنا له الجواب، وهاهو يصل، فطالعه وتدبر أمره فإن الذي ظهر لنا من الرأي تأخير هذا الأمر إلى خروج فصل الشتاء ودخول فصل الربيع فهو أليق وأصلح، إذ وقت الشتاء لا يتحرك فيه أحد من كثرة الوحل وعمارة الأودية وقلة المرافق، فإذا خرج الشتاء نتوجه بحول الله وقوته بأنفسنا وعساكرنا المظفرة ويكمل الفتح إن شاء الله، فأكد على سيدي عبد القادر إذا سمع بوصولنا لوجدة أو تلمسان يقدم علينا إن شاء الله في متم شعبان 1220هـ. (28)
وكان الشيخ مولاي العربي الدرقاوي لا يذكر أمراء المؤمنين الذين حكموا هذه البلاد ممن عاصرهم أو الذين مضوا إلا بالتبجيل والتعظيم والتفخيم، ويترضى عنهم بعد ذلك، يقول رحمه الله في إحدى رسائله: فكن أيها الفقير على الهمة دائما ترى عجبا، فإن قلت كيف ذلك؟، قلت قد قال السلطان الشريف السعدي مولاي أحمد الذهبي رضي الله عنه للولي الأشهر سيدي أبي الشتاء الخمار نفع الله به… إلخ .
ويقول أيضا في رسالة أخرى: إني كنت في ابتداء أمري، وقد كان وقت دخول البريجة، وقد دخلها السلطان الأعظم الشريف الأكرم أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل الحسني العلوي رحمه الله ورضي عنه…، وبهذا اللقب والتشريف والتفخيم ذكره في عدة مواضع من رسائله(29).
ومما يزيد في إظهار مدى العلاقة المميزة التي كانت تربط الشيخ مولاي العربي الدرقاوي بأمراء المؤمنين، هو أخذهم عنه الورد الدرقاوي، وكان بعضهم من أجل تلاميذه، قال محمد البشير الفاسي: “وانحشر الناس للأخذ عنه من كافة الأقطار والأمصار وتلمذ له الشريف والمشروف والرئيس والمرؤوس… وممن أخذ عنه من العظماء جلالة السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام العلوي المتوفى سنة 1277هـ، وسيدي عبد القادر بن الشريف سلطان وهران المتوفى سنة 1233هـ، وكفى بجلالة منصب الإمارة دليلا على بعد صيته ورفع علمه في عصره على سائر مشايخ وقته. (30)
وقد ثبت عن كثير من شيوخ الطريقة الدرقاوية بعد هذه الفترة ملاقاتهم للسلاطين واتصالهم بهم والجواب عن مراسلاتهم، والسعي في خدمتهم قدر الإمكان واحترامهم وتعظيمهم بما يليق بمقامهم، وحث الرعية على طاعتهم وعدم الخروج عنهم.
وبالنسبة لصد الأعداء عن هذا الوطن فقد كان لشيوخ الطريقة ومريديها الفضل الكبير في ذلك، يقول محمد البشير الفاسي متكلما عن قبيلة بني زروال بشكل عام، وهي القبيلة التي ينتمي إليها الشيخ مولاي العربي: “ولبني زروال حماس وطني وغيرة دينية وشغف بالحرية وبغض للعبودية، وخصوصا سيطرة الأجنبي ،فمنذ ابتلى الله هذا القطر المغربي بالاستعمار الفرنسي والإسباني وقبيلة بني زروال في صدر المقاومين وطليعة المناضلين، فلم يشملها نفوذ الاستعمارين إلا عند تمالئ القوتين الفرنسية والإسبانية على محاربة حركة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، إذ بمجرد ما ظهر أمره وأعلن الحرب على فرنسا وإسبانيا انضمت له وصارت في صفوفه، وقامت لمحاربة الاستعمار وأذنابه المبشرين به، وفي طليعتهم الزاوية الدرقاوية بأمجوط، فخربوا ديارها وأحرقوا منازلها وطردوا سكانها من قبيلتهم أسوء طرد. (31)
وفي نفس السياق أذكر هنا ما يتعلق بإضافة ذكر “حسبنا الله ونعم الوكيل” للورد الدرقاوي إبان فترة الحماية الفرنسية على يد الشيخ سيدي الحاج علي بن أحمد الدرقاوي رحمه الله، وهو واحد من الشيوخ الذين انتشرت على أيديهم الطريقة الدرقاوية في جنوب المغرب.
ذكر العلامة سيدي محمد المختار السوسي رحمه الله أنه في الوقت الذي كان الشيخ سيدي الحاج علي بن أحمد وأتباعه قاصدين مراكش رفقة الشيخ إبرهيم البصير رحمه الله ومن معه من فقراء الرحامنة والحوز، نزل الجميع في الزاوية الكتانية في ضيافة مقدمها محمد الشيخي المتوفى عام 1367هـ/1947م، الذي أكرمهم غاية الكرم، ولما أراد الشيخ وداعه قال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إلى أمته هدية على يدي، فهل تقبلونها؟، فإنها لكم حصن حصين، وجنة واقية من صدمة شديدة يصدم بها المسلمون،واجعلوها في سلك الورد، كما سنفعل نحن إن شاء الله من الآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها”(32)، فمن اسْتَجَنَّ بها فإنه يأمن المصائب الكبار والصغار ألا وهي: “حسبنا الله ونعم الوكيل”، ثم أمر جميع الفقراء بترديدها بصوت قوي، وانطلق الجمع وهم يتداولونها بحال قوية حتى وصلوا إلى مراكش، ودخلوا أزقتها جهرا بتلك العبارة(33)، ومن ذلك الحين أصبحت مكونا من مكونات الورد الدرقاوي ذي المشرب السوسي، فأصبحت المائة الرابعة، ويقول الشيخ محمد المصطفى بصير بعدما حكى القصة بتفاصيلها أن الشيخ الإلغي قال للشيخ ابراهيم البصير: “فإنكم ستجدون بركة ذلك في حفظ قلوبكم، كما سيجد المغرب كله إن شاء الله بركة ذلك”(34).
من خلال كل هذا يتضح أن الطريقة الدرقاوية والحمد لله منذ ظهرت للوجود وهي تسير على مقتضى شرع الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بذلك نموذج في السلوك الصوفي السني، والتربية الصوفية السنية الممتحة من معين الشرع الإسلامي البعيد عن البدع والدجل والأباطيل، والحمد لله رب العالمين.
————-
الهوامش:
* د. عبد المغيث بصير، مداخلة شاركت بها في ندوة وطنية حول الطريقة الدرقاوية بجامعة محمد الأول بوجدة في أوائل شهر ماي 2010م.
1- عبد الكريم القشيري الرسالة القشيري في علم التصوف، ص 279 بتصرف.
2- ابن خلدون، المقدمة، ج1ص 467، دار إحياء التراث العربي ،ط4
3- محمد سعيد رمضان البوطي، الحكم العطائية شرح وتحليل، ج1ص 13، دار الفكر الطبعة 3.
4- Louis Rinn,Marabouts et Khouan,p211
5- المطرب بمشاهير أولياء المغرب، عبد الله التليدي،ص 208،الرباط، دار الأمان، ط3.
6- لسان العرب، ابن منظور، بيروت، دار احياء التراث العربي، ج8ص 145,155بتصرف ط1-1995.
7- عبد المغيث بصير، تاريخ الطريقة الشاذلية وتطورها، ص9، دمشق، دار إقرأ.
8- محمد سعيد رمضان البوطي ،مشورات اجتماعية، ص 166، دمشق، دار الفكر، ط1، 2001م.
9- محمد البشير الفاسي، قبيلة بني زروال ص 40
10- المرجع السابق، ص 40.
11- هو أبو سليمان داود باخلا بن عمر الشاذلي نزيل الإسكندرية المتوفى بها سنة 932هـ، له كتاب الرسالة المرضية في شرح دعاء الشاذلية (اسماعيل باشا البغدادي، إيضاح المكنون،ج1،ص569).
12- المفاخر العلية في المآثر الشاذلية، ص 171، محمد بن ابراهيم النفزي، حلب، دار القلم العربي، ط1،2002.
13- المرجع السابق، ص 171.
14- محمد المهدي الفاسي أبو عيسى أحمد بن علي بن أبي المحاسن يوسف ت 1109هـ فهرس الفهارس والأثبات لعبد الحي الكتاني، بيروت ،دار الغرب الإسلامي ط2،1982
15- روحانية الداعية، عبد الله ناصح علوان،ص 105، القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع،ط2،1986.
16- محمد بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس،ج 1ص192.
17- الإمام مسلم، الصحيح، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم 2586،ج4 ،ص 1999، دار إحياء الترلث العربي ،بيروت.
18- ولا أدري لماذا تصرف محققه الدكتور عبد المجيد خيالي في عنوانه وطبعه تحت عنوان يحلو له، أهو لغرض تجاري أم تخوفه من شيء آخر؟.
19- محمد بن جعفر الكتاني، مرجع سابق، ص 192.
20- المطرب، مرجع سابق، ص 209.
21- مولاي العربي الدرقاوي، رسائل في الأدب والسلوك، ص75، مراكش، المطبعة والوراقة الوطنية
22- الإرشاد والتبيان المطبوع تحت عنوان: سلوك الطريقة الدرقاوية،ص 38، مرجع سابق.
23- المكودي التازي، سلوك الطريقة الدرقاوية، ت عبد المجيد خيالي، ص86، الدار البيضاء، دار الرشاد الحديثة، ط1،2007.
24- الإرشاد والتبيان، مرجع سابق ص 65، والرسائل، مرجع سابق، ص 108
25- الشيخ عبد الهادي محمد الخرسة، علماء الصوفية هم السلفية الحقيقيون، ص 150، دمشق دار فجر العروبة.
26- ابراهيم حركات، التيارات السياسية والفكرية بالمغرب خلال قرنين ونصف قبل الحماية ج3ص59، دار الرشاد الحديثة، بتصرف.
27- الناصري، الإستقصا في تاريخ المغرب الأقصى، ج3ص76،109،150، بتصرف، الدار البيضاء، دار الكتاب،ط1/1997.
28- محمد البشير الفاسي، قبيلة بني زروال: مظاهر حياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ص44، مطبوعات المركز الجامعي للبحث العلمي، كلية الآداب، الرباط،1962 .
29- الرسائل، مرجع سابق، ص 206-212-227 .
30- المرجع السابق، ص 40 .
31- محمد البشير الفاسي، مرجع سابق،ص14 .
32- محمد المصطفى بصير، الاغتباط بزاوية الشيخ سيدي إبراهيم البصير ببني عياط، مخطوط بزاوية الشيخ سيدي إبراهيم البصير ص 138.
33- راجع تفاصيل هذه الحكاية عند: محمد المختار السوسي، المعسول، ج 12، ص 138- 139.
34- محمد المصطفى بصير، الاغتباط، ص 140.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد أشرف المخلوقين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيا أيها الإخوة الصالحون السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
مداخلتي أيها الأحبة الكرام هي تحت عنوان: “الطريقة الشاذلية الدرقاوية، نموذج التربية الصوفية السنية”، وسأتناول هذا الموضوع من خلال النقط التالية:
1 ) التصوف بشكل عام وطرقه الصوفية.
2 ) الطريقة الشاذلية الدرقاوية: تاريخ وتعريف.
3) التربية الصوفية السنية وتجلياتها لدى أصحاب الطريقة الشاذلية الدرقاوية.
1 ) التصوف بشكل عام وطرقه الصوفية:
الذي لا خلاف حوله، هو أن التصوف لم يكن معروفا بهذا الاسم لدى المسلمين الأول من صحابة رسول الله وتابعيهم، وإنما ظهر إلى الوجود بهذا الاسم في زمن الحسن البصري (ت 121هـ) والجنيد البغدادي (ت 298هـ) ومن لف لفهم رضي الله عنهم، وازدهر في عهد من جاء بعدهم كأبي حامد الغزالي (ت505هـ) وغيرهم ممن تصوفوا وتألقوا في عبادة ربهم.
هذا وإن كثيرا من الناس يستشكل كلمة التصوف هذه، ويقول إنه شيء طارئ على الإسلام متسرب إليه، فهو من البدع التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: “… وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة”. الحديث، أقول: إن الأسماء والكلمات ليست هي التي توصف بأنها الإسلام أو هي البدع الطارئة عليه، وإنما الذي يوصف بهذا هي المعتقدات الزائغة والسلوكات الباطلة.
يقول الإمام عبد الكريم القشيري رحمه الله في معنى هذه الكلمة أن من العلماء من رجع اشتقاقها إلى الصفاء ومنهم من رجعه إلى لبس الصوف، ومنهم من قال إنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال بأنه مشتق من الصف فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم، وغلبت هذه التسمية على هذه الطائفة فيقال رجل صوفي وللجماعة صوفية ومتصوفة، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له متصوف
ويقول العلامة الرئيس ابن خلدون رحمه الله: “هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة.”
والتصوف لا يعدوا أن يكون سوى اسما ومصطلحا يطلق على جماعة من الناس سعوا إلى تطبيق تعاليم الإسلام الحنيف، يهتمون بتزكية النفس ومراقبة الله متحققين بمقام الإحسان الذي يعني أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، كما فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكي يتحقق المسلم بمقام الإحسان هذا لابد أن يسري من العقل الذي آمن إلى الأعضاء التي استسلمت سلك من التأثير والفاعلية بحيث يغدو المسلم يعبد ربه وكأنه يراه متفاعلا بشعوره مع عباداته.
والذي لا خلاف حوله أيضا أن الطرقية ظهرت لأول وهلة في الواقع الإسلامي في القرن السابع الهجري إبان سقوط الخلافة العباسية حيث تحول التصوف من السلوك والنظرية إلى الطرقية والانحراف عندما عمت بوادر الانحطاط والركود الفكري والعلمي الشرق كله.
وبالاستقراء والتمحيص والنظر، يظهر إذن أن التصوف هو لب الإسلام وهما شيء واحد، وأهل التصوف في الأصل على طريقة واحدة، والذي ساهم في كثرة الطرق الصوفية وتعددها هو عدم نسبتها إلى أصلها الأول الذي تفرعت عليه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، الطريقة الدرقاوية تعد واحدة من الطرق المتفرعة عن الطريقة الشاذلية، وما أكثر الطرق المتفرعة عن الشاذلية، فالطريقة الوزانية والشرقاوية والناصرية والكتانية كلها من الطرق المتفرعة عن الشاذلية.
والطريقة الدرقاوية بدورها تفرعت إلى أكثر من عشرين طريقة، وهذا كله ليس فيه من بأس، شريطة إلصاق كل فرع بأصله، كأن نقول: الطريقة الشاذلية الدرقاوية الذرفوفية، والطريقة الشاذلية الدرقاوية الإلغية، والطريقة الشاذلية الدرقاوية الإبراهيمية. ..إلخ، وفي هذا السياق يقول لويس رين: إن الشاذلية أخذت بالمغرب الأقصى اسما جديدا هو الدرقاوية”
وإذا عرفنا أن الشيخ مولاي العربي الدرقاوي رحمه الله خلف أكثر من أربعين ألف تلميذ كلهم مؤهلون للدلالة على الله، كما أخبر بذلك العلامة سيدي أحمد بن الخياط رحمه الله تعالى عن شيخه سيدي عمر بن سودة، بان لك إذن السبب في كثرة الطرق المتفرعة عن الدرقاوية.
غير أن الذين تفرعت عنهم طريقته وانتشرت في المشارق والمغارب هم العارفون سيدي محمد البوزيدي، وسيدي محمد الحراق، وسيدي أحمد البدوي زويتن، وسيدي أبو يعزى المهاجي، وسيدي الطيب الدرقاوي المجوطي.
2) الطريقة الشاذلية الدرقاوية تاريخ وتعريف
قد يسأل سائل ما معنى الطريقة؟ الجواب، الطريقة في اللغة هي السيرة، وطريقة الرجل مذهبه، يقال: مازال فلان على طريقة واحدة أي على حال واحدة، وفلان حسن الطريقة والطريقة الحال، يقال هو على طريقة حسنة وطريقة سيئة وقوله تعالى: (وألو استقاموا على الطريقة)، أراد لو استقاموا على طريقة الهدى، والعرب تقول للرجل الفاضل، هذا طريقة قومه وإنما تأويله، هذا الذي يبتغي أن يجعله قومه قدوة ويسلكوا طريقته، وفي الاصطلاح: الطريقة كل جماعة صوفية تسمى باسم شيخها، كما هو حال غالب الطرق .
وأغلب الطرق السليمة في منهجها تهتم بتزكية النفس ومراقبة الله، يقول العلامة العارف محمد سعيد رمضان البوطي حفظه الله: “كلمة الطريقة تساوي كلمة المنهج، والمراد بهذه الكلمة أو تلك النهج الذي يسلك فيه المربي أو المرشد إخوانه وتلامذته بتزكية النفس وتطهرها من أوضارها التي سماها الله “ظاهر الإثم وباطنه”، ولا يتجاوز هذا النهج على الأعم والأغلب أورادا ووظائف من الأذكار يأخذ بها المريد نفسه ويداوم عليها، ومقياس مشروعية هذا النهج أو عدم مشروعيته هو ميزان الشريعة الإسلامية، فمهما كان هذا النهج أو هذه الطريقة منضبطة بأحكام الشريعة الإسلامية المأخوذة من القرآن والسنة، فهي طريقة مشروعة وصحيحة، ومهما كانت شاردة عن ضوابط الشريعة فهي غير مشروعة وغير صحيحة. والتزام المسلم بنهج تربوي لتزكية النفس لاشك أنه سير على طريقة السلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين فقد كانوا قدوة لهذه الأمة في ذلك.
والطريقة الشاذلية الدرقاوية تنتسب إلى الشيخ مولاي العربي بن أحمد الدرقاوي، المتصوف الشهير في عالم التصوف المغربي، وينتمي إلى الشيخ أبي عبد الله محمد بن يوسف بن جنون الملقب بأبي درقة، دفين أولاد بوزيري بالشاوية.
ولد الشيخ مولاي العربي الدرقاوي، الشريف الحسني سنة 1150هـ بمدشر بني عبد الله من فرقة بومعان بقبيلة بني زروال، وبها نشأ وتعلم وأكمل حفظ القرآن برواياته السبع، ثم اشتغل بقراءة العلم بفاس في المدرسة المصباحية وفي غيرها من دور العلم، وكان في أثناء ذلك مثابرا على العبادة، كثير الزيارة لأضرحة الأولياء، ولقاء شيوخ التصوف في عصره، وفي هذا الشأن لقي الشيخ علي الجمل في زاويته بالرميلة بفاس سنة 1182هـ، فصحبه وعول في السلوك عليه، ولازمه متجردا بزاويته سنتين كاملتين.
انتقل الشيخ مولاي العربي الدرقاوي بعدئذ إلى قبيلة بني زروال وأسس زاويته الأولى ببوبريح بفرقة بومعان سنة 1185هـ، ثم زاوية أخرى بقبيلة بني زروال، ويعتبر الشيخ مولاي العربي الدرقاوي وارث حال وأسرار الطريقة دون غيره من أقرانه، حيث واصل طريق شيخه وهذبها وحدد مبادئها وقنن السلوك فيها، وصارت الطريقة الدرقاوية بفضله مكتملة المبنى، وهي من أكثر الطرق الصوفية انتشارا، وهي مثال لاستمرار الطريقة الجزولية ورسوخها وتناسبها مع مختلف البيئات والأزمان، وهي بذلك جزولية زروقية، وأصبحت هذه الطريقة قوة سياسية مهمة في بداية القرن التاسع عشر للميلاد، وانتشرت زواياها في مختلف مناطق المغرب، بل وأخذت تكتسح كثيرا من الزوايا التابعة لطرق أخرى،وهي من الطرق المشهود لها بالنشاط تربويا في المجتمع المغربي، وتنتشر من الشمال إلى الجنوب في زواياها المنورة الحاملة لمشعل الدعوة إلى الله، ولا تزال بحمد الله هذه الطريقة غضة حية بمعينها الذي لا ينضب تستقطب المريدين في المشرق والمغرب.
قال محمد البشير الفاسي: “وانحشر الناس للأخذ عنه من كافة الأقطار والأمصار وتلمذ له الشريف والمشروف والرئيس والمرؤوس… وممن أخذ عنه من العظماء جلالة السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام العلوي المتوفى سنة 1277هـ، وسيدي عبد القادر بن الشريف سلطان وهران المتوفى سنة 1233هـ، وكفى بجلالة منصب الإمارة دليلا على بعد صيته ورفع علمه في عصره على سائر مشايخ وقته.
3) التربية الصوفية السنية وتجلياتها لدى أصحاب الطريقة الشاذلية الدرقاوية
لكي أستدل على سنية الطريقة الدرقاوية العتيدة، وأبين ابتعادها عن كل ما يمكن أن توصف به من البدعة والدجل، سأتطرق إلى خمس نقاط هامة تبين بجلاء ريادة الطريقة الشاذلية الدرقاوية في التربية الصوفية السنية:
أولها: بعض أقوال العلماء والصالحين في الطريقة.
ثانيها: وصف مجالس الطريقة.
ثالثها: الاستدلال على التربية الصوفية السنية من خلال كتابي رسائل مولاي العربي الدرقاوي وكتاب الإرشاد والتبيان في رد ما أنكره الرؤساء من أهل تطوان.
رابعها : بعض مشاهير شيوخ وعلماء الطريقة الشاذلية الدرقاوية في المشرق والمغرب.
خامسها: تمسك شيوخ الطريقة بالهوية الوطنية ودفاعهم عن حوزة الوطن.
أولها :بعض أقوال العلماء والصالحين في الطريقة
كثيرون هم العلماء الذين تكلموا حول الطريقة الشاذلية الدرقاوية، وقيموها من حيث مدى تمسكها بالشرع من عدمه، وهي شهادات مميزة تعكس المنهج التربوي السني للطريقة، وسأعمل على سوق بعضها.
قال سيدي داود باخلا في شرحه لحزب البحر، وهو واحد من شيوخ الشاذلية المعتمدين في سندها المتصل، يقول : فليتأمل المنصف أحوال الشاذلية، وسداد طريقهم، وقوة يقينهم، وكثرة أنوارهم، وفتحهم وكشفهم، وذكاء قلوبهم مع غرق كثير منهم في الأسباب، وتلبسهم ظاهرا بأحوال العوام، فتراهم أبدا محفوظين في أحوالهم، محافظين على أعمالهم، قد انفتق في قلوبهم أسرار العلوم، ولاح لهم حقائق الحكم والفهم، فترى أحدهم في صفة العامي وهو يلهج بالحقائق وينطق بالحكم والدقائق، مما يعز وجوده لأرباب الانقطاع والخلوات وأهل التجلي والمشاهدات، وهذا يدل على كثرة الأنوار وحصول العناية، وأنهم في صون وحماية.
و قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله في قصيدة طويلة نقتطف منها ما يلي:
تمسك بحبل الشاذلية تلق ما تروم وحقق ذا الرجا وحصل
ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم شموس هدى في أعين المتأمل.
وقال محمد المهدي الفاسي: “لو حلف حالف أن ما عليه أهل الطريقة الشاذلية هو الذي كانت منطوية عليه صدور الصحابة رضي الله عن جميعهم لبر في يمينه”
وقال عبد الله ناصح علوان ناقلا عن كتاب حاضر العالم الإسلامي: (الشاذلية من أوليات المدارس التي أدخلت التربية الروحية في المغرب، ومركزها في مراكش-أي المغرب- وكان من أشياخها العربي الدرقاوي الذي أوجد عند مريديه حماسة دينية امتدت إلى المغرب الأوسط، وكان لأتباعه أثر كبير، ودور فعال في مقاومة الاستعمار الفرنسي(.
وقال محمد بن جعفر الكتاني: وطريقته رضي الله عنه مبنية على اتباع السنة في الأقوال والأفعال والعبادات والعادات ومجانبة البدع كلها في جميع الحالات، مع كسر النفس وإسقاط التدبير والاختيار، والتبري من الدعوى والاقتدار، والإكثار من الذكر آناء الليل وأطراف النهار، والاشتغال بالمذاكرة وما يَعْني، وترك كل ما يُعنى”.
ثانيها : وصف مجالس الطريقة
عندما يجتمع مريدو الطريقة الدرقاوية في الزاوية أو عند أخ لهم في الله في مناسبة من المناسبات، فإن مجالسهم لا تكاد تجد فيها فراغا أو فضولا من الكلام، اللهم إلا الإكثار من ذكر الله تعالى بالسر والإجهار، وقراءة القرآن وتدارس شيء من الفقه وكلام القوم، ويختمون بتناول الطعام ثم الدعاء لأميرهم ولأنفسهم وكافة المسلمين.
زد على ذلك ما عرفوا به في مجالسهم من خدمة وتواضع بعضهم لبعض في تسليم كامل، ولا يدخلون ولا يخرجون إلا برفع أصواتهم بلا إله إلا الله، وتراهم يقبلون أيدي بعضهم البعض، وعناق يدل على تمكن المحبة والأخوة الصرفة من قلوبهم.
وإذا ابتلي أحدهم ببلاء تجد الجميع يسأل عنه ويبذل الخطى لزيارته، وهكذا يصدق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: “مثل المومنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالصهر والحمى” .
ثالثها: الاستدلال على التربية الصوفية السنية من خلال كتابي رسائل مولاي العربي الدرقاوي وكتاب الإرشاد والتبيان في رد ما أنكره الرؤساء من أهل تطوان
وقد اخترت هذين الكتابين باعتبارهما من أوائل الكتب المؤلفة من قبل علماء الطريقة، الأول منهما للشيخ مولاي العربي الدرقاوي رحمه الله وهي رسائله المشهورة في الآداب والسلوك، والثاني منهما كتاب الإرشاد والتبيان في رد ما أنكره الرؤساء من أهل تطوان لمريده سيدي محمد بن محمد بن عبد الله المكودي التازي المتوفى سنة 1214 هـ، وهو الكتاب المطبوع تحت عنوان سلوك الطريقة الدرقاوية والرد على منكريها .
1ـ رسائل مولاي العربي الدرقاوي
وهو كتاب ضم أغلب رسائل الشيخ مولاي العربي الدرقاوي في الأدب والسلوك، وقد أثنى غير واحد على هذه الرسائل، يقول محمد بن جعفر الكتاني: “ورسائله نفعنا الله به من أنفع الرسائل للمريد وأدلها على كيفية السلوك والتجريد، لا يستغني عن مطالعتها سالك، ولا يجحد خيرها وفضلها إلا هالك” .
ويقول العلامة عبد الله التليدي حفظه الله ملخصا مضمون الرسائل: أما طريقته التي كان ينهجها ويأمر بها ويدعو إليها هي تعلم لوازم الدين الضرورية أولا من غير تغلغل وتعمق في العلوم، ثم القيام بالمفروض وبما تأكد من المسنون، ولزوم الصمت والإقلال من الأكل والمخالطة وترك ما لا يعني، والزهد في الدنيا والتجرد من العلائق والعوائق ظاهرا وباطنا مع المثابرة على ذكر الله عز وجل حسب الاستطاعة، والتعلق بالله تعالى والقيام بالعبودية الخالصة من غير نظر إلى حظوظ أو لحوظ كما هي طريقة المحققين من الصوفية، وكان يأمر بإسقاط المنزلة وإذلال النفس وقتلها، وذلك بمخالفة المألوفات والعوائد، وكان يوصي أصحابه كثيرا بالتواضع والتمسكن والتظاهر بالفاقة والافتقار إلى الله تعالى وتخريب الظاهر…وكان يقول لا وصول إلى الله ـ والمراد به العلم به ـ إلا من طريق موت النفس وتهذيبها وتطهيرها من العيوب والرعونات كما هي طريق الأكثرية من الصوفية …هذا ملخص طريقته كما في رسائله .
من خلال ما سبق علمنا أن الشيخ مولاي العربي تخرج على يديه أفواج الأولياء والصالحين كلهم أهل للتربية والتعليم، وكفاه ذلك مفخرة ودلالة على سنية طريقته وتشرعها، وزيادة في إيضاح هذه الفكرة، سأدرج هنا بعضا من رسائله يعرف فيها التصوف كما يراه، وأخرى يحث فيها مريديه على تعلم الفقه وخاصة العلم الضروري، والاهتمام بالمذاكرة في المجالس، والتزام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذكر في جميع الحالات والتزام الأخلاق النبوية، والتواضع والمسكنة، والحرص ما أمكن على مخالفة النفس.
أـ تعريفه للتصوف كما ورد في رسالة من رسائله
يقول رحمه الله: التصوف فيما نرى والله أعلم حفظ شرائع الدين، وسلب الإرادة لرب العالمين، وحسن الخلق مع المسلمين، وأما رفض الدنيا فأمر واضح، لأن حبها رأس كل خطيئة وبلية كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم…
ب – ملخص آداب الفقير كما يراها
فغاية نصحي إليك أيها الفقير أن تقوم بالمفروض، وبما تأكد من المسنون، ثم تواظب على استبرائك من بولك كما ينبغي، وعلى النظافة، والمسكنة، والقناعة، والاستخارة النبوية، والتلاوة، والزيارة، والصمت، والوضوء، وصلاة الضحى، وتحية المسجد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والحذر من الكذب، والغيبة والنميمة، والمحرمات والمكروهات، والله إن واظبت على هذا واعتنيت به ما استطعت، حتى تشرق أنوارك وتظهر، ولم تخف أسرارك، ولم تكن حقيقتك أيضا إلا نورانية، ولم تكن قط ظلمانية، والسلام .
ج –حثه على اتباع السنة
يقول رحمه الله: “وبعد يا إخواني فمن شاء منكم ومن غيركم أن تنقلب ناره جنة فلا يتزحزح عن السنة، إذ هي سفينة النجاة ومعدن الأسرار والخيرات، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق…. فأوصيكم كل الوصية أن تكونوا دائما على السنة المحمدية… فإن شئت أن تتخلص من الشكوك والأوهام فتحصن دائما بسنة النبي عليه السلام.
د –حثه على تعلم العلم الظاهر وفرائض الدين وسننه
يقول رحمه الله: “إني أحب من يتعلق بي أن يقوم بالمفروض، وبما تأكد من المسنون، وأن يكون دائما على نظافة بدنه من وسخه، فأحرى نجسه ومن شعر وسطه وإبطيه وأظفار يديه ورجليه وثوبه ومكانه وعلى ترك ما لا يعنيه واستبرائه من بوله وتأنيه على ذلك حتى يتحقق أو نقول يطمئن قلبه بانقطاع بوله… فإن شئت أن تطوى لك الطريق وتحصل في ساعة على التحقيق فعليك بالواجبات وبما تأكد من نوافل الخيرات، وتعلم من علم الظاهر ما لابد منه، إذ لا يعبد ربنا إلا به ولا تتوغل فيه، ولا تتبعه إذ لا يطلب فيه التبحر… فلا نرى من يخوض في رحمة الله كما يخوض فيها صاحب علم، ولا نرى من هو في رضى الله تعالى كما هو فيه المشتغل بتعلم دينه التارك لما يعنيه.
هـ – أولى الأولويات مخالفة النفس
يقول رضي الله عنه: فلا يدخل على الله إلا من باب موت النفس كما عند القوم رضي الله عنهم، … فقد كان الفقراء أهل الزمان الأول رضي الله عنهم لا يحرصون أو نقول يجتهدون إلا فيما يميت نفوسهم ويحي قلوبهم، ونحن الآن على عكسهم، فلا نحرص إلا على ما يميت قلوبنا ويحيي نفوسنا، إذ لا يحرصون إلا في ترك شهواتهم وفي إسقاط منزلة أنفسهم، ونحن لا نحرص إلا على شهواتنا ورفعة منزلة أنفسنا، وقد جعلنا الباب وراءنا والحائط قدامنا… وإسقاط منزلة النفس عندنا وعند شيوخنا وشيوخ الطريقة كلهم رضي الله عنهم شرط لازم.
و ـ الاعتبار بالحال لا بالمقال
يقول رحمه الله: فقد كان أستاذنا رضي الله عنه لا يعتبر في الفقراء المقال إنما كان يعتبر فيهم الحال، وكان يقول أصبعان من العمل خير من مائة ذراع من العلم، والأمر كما قال، لأنه نرى الألسن كثيرة غاية الكثرة، والقلوب كادت ألا توجد…
زـ حثه على سلامة الصدر للمسلمين
يقول: فقد قلت لبعض المدعين المشحونة قلوبهم بالغل والحسد والكبر والرياء والعجب والبخل والحرص وغير ذلك من الرذائل: فكن سالم الصدر وانقص من صلاتك ومن سائر أعمالك، ولا تقم إلا بالمفروض وبما تأكد من المسنون، ولا تزد شيئا، إذ لا ينفعك كثرة أعمالك مع خبث قلبك ولو عملت ما عملت، إنما تنفعك سلامة صدرك مع ما فرض الله عليك، وأقل عمل يكفيك معها، ولا يكفيك صيام نهارك وقيام ليلك أو عبادة دهرك كله مع مرض قلبك واستغراقك فيما يكره الله منك… من شاهد الكمال في كل شيء استمد من كل شيء وزاد قربا إلى الله بكل شيء، ومن شاهد النقص في كل شيء استمد منه كل شيء وزاد بعدا من الله بكل شيء.
ح ـ الاهتمام بالمذاكرة
يقول رحمه الله: فالمذاكرة عند القوم رضي الله عنهم من أهم المهمات فلا يستغني عنها إلا من جهل قدرها، وقد كان شيخ أستاذنا، وهو سيدي العربي بن عبد الله رضي الله عنه يقول: الناس خمرتهم في الحضرة وخمرتنا نحن في الهدرة،وأيضا: مذاكرة اثنين أفضل من حمل وقرين كما عند القوم، وعليه فلا نحب من يسكت من الإخوان وقت المذاكرة بل نكرهه الكراهة البالغة ،إذ لا فائدة في الصمت حينئذ، إنما فيه قلتها، لأن المعاني تجر بعضها بسبب الكلام، حتى يجر صاحبها إلى الحضرة الربانية، ولا خفاء أن الدجاجة لا تلد إلا بعد أن تجعل لها مولاتها بيضة، كذلك شيوخ الطريقة رضي الله عنهم لا ترد عليهم العلوم التي ينفقونها على المقتدي بهم إلا بوجود بحثهم وحكهم الحك البالغ، والسؤال يدعو الجواب والجواب يدعو السؤال وهكذا… واعلموا رحمكم الله أني أحبكم أن تتذاكروا في الذي يميت نفوسكم ويحي قلوبكم كما كان من قبلكم من أهل طريقكم، واحذروا من دسائس أنفسكم لئلا ينقطع المدد عنكم…
2ـ كتاب الإرشاد والتبيان في رد ما أنكره الرؤساء من أهل تطوان:
وهو كتاب ألفه العلامة محمد بن محمد بن عبد الله المكودي التازي للرد على طائفة من علماء تطوان، استنكروا أحوال فقراء الطريقة الدرقاوية، وحرضوا أرباب السلطة على سجنهم وتعذيبهم، فأنكروا عليهم لباس المرقعة وركوب الحمار والمشي بالحفا وكشف الرأس وجعل السبحة الغليظة في العنق والعمارة، والسؤال في الأسواق، فرد عليهم رحمه الله ردا علميا يستدل على كل ما أنكروه بالقرآن والسنة وأقوال الصالحين من السلف، وبين شرعية وسنية الطريقة الدرقاوية بشكل خاص وطريق القوم بشكل عام، وهو بحق يعتبر مرجعا لكل الطرق الصوفية في الرد على المنكرين الذين امتلأت بهم كل المعمورة، وفي هذا الكتاب تناول المؤلف أغلب المسائل التي يسنكرها العلماء والعوام على حد سواء على السادة الصوفية، ولم تقبلها عقولهم القاصرة، وقد اخترت من جملة ذلك مسألتان للاستدلال على سنية الطريقة الدرقاوية.
أ)دفاعه عن سنية الطريقة
يقول رحمه الله: حاشى ومعاذ الله أن تكون هذه الطائفة الدرقاوية على غير السنة المحمدية والملة الإبراهيمية، وكيف يتصفون بالبدعة والظُلمة، وكثير منهم فقهاء في الكتاب والسنة، وكيف يتحلى بالفساد من باع نفسه لرب العباد؟ أم كيف يفسد الأنام من شأنه التلاوة والذكر على الدوام وكثرة الصلاة على خير الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام … ولا يعرف بين السنة والبدعة إلا من تحقق ظاهرا وباطنا بالسنة، ولا يتحقق ذلك إلا من فنى عن نفسه وهواه، وتحقق بالعبودية في سره ونجواه، وكيف يتحقق بوصفه من لم يتخلص من أسر فلسه وجنسه، قد عَلَق خوف الخلق وهم الرزق بقلبه، وأبعده شدة حرصه عن القرب من ربه، وكيف يصح الدواء ممن ملكه الهوى، ثم مع هذه الحال، يزن بعقله وعلمه على الرجال.
ويقول في موضع آخر: فهم رضي الله عنهم عاملون على موت نفوسهم على الدوام، ساعون في إخماد ذكرهم بين الأنام، متحققون بأوصاف العبودية متذللون في الأسواق وغيرها لعظمة الربوبية، قد أعرضوا عن الخلق والدنيا جملة وتركوها، ونزلوا قصور الفقر والذل وسكنوها، وعلى موت النفس وفنائها وزوالها بالكلية واضمحلالها، مدار كل عارف مربي كما هو طريقة شيخنا مولاي العربي .
ب)رده على المنكرين مسألة الجهر بالذكر واتخاذ السبح لذلك والمناوبة في الذكر
يقول: قال في نصرة الفقير: فلو كنت عاقلا لاكتفيت منهم بالذكر على أي وجه ذكروا، سواء كانوا صادقين أو مبتدعين، وتقدم قوله: الذكر يشهد لهم بالإيمان، والنكر يشهد لكم بالنفاق، وقال الشافعي: “الإنكار فرع من النفاق”، قال المزني: “بل هو النفاق كله”، ولما رجعنا والتقينا بالشيخ مولاي العربي قال لنا: “الحمد لله الذي جعلنا من خير أهل الصدق، وجعلهم من خير أهل التكذيب”، قال رضي الله عنه: “وقد تدبرت القرآن فإذا الثلث، أو قريب من الثلث، كله في قصص أهل التكذيب لأهل الصدق وما جرى للمكذبين، نسأل الله السلامة بمنه إنه على كل شيء قدير”.ـ ص63ـ… وأما اتخاذ السبحة فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقر أصحابه على التسبيح في نوى التمر وكانوا يفعلون ذلك، وكان أبو هريرة رضي الله عنه ربط في خيط خمسمائة عقدة ويسبح بها بين يديه صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك، ولم أر فيها تعارضا لأهل العلم إلى هلم جرا، قاله الإمام السنوسي في نصرته، وللحافظ السيوطي تأليف في هذا المعنى سماه المنحة في أسانيد السبحة إلى أن يقول: كانت لبعض الأشياخ سبحة عظيمة ثقيلة للغاية محمولة معلقة على جرارة، فكان إذا جذب الحبة الواحدة وسقطت على أخرى يسمع لها صوتا عظيما، فقيل له في ذلك، فقال: لو تأتى لنا أن نذكر الله بالجبال لفعلنا… ورأينا كثيرا ممن يظن بهم الخير يجعلونها في أعناقهم، قال في نوازل جامع المعيار: وذكر القاضي في المدارك ما نصه: قال بعضهم: دخلت على سحنون وفي عنقه تسبيح يسبح به”، وأنت تعلم من سحنون علما وورعا؟ وهل يقدم على هذا إلا بدليل؟… والعجب من هؤلاء العلماء الذين ينكرون مثل هذا على الفقراء وهم يجالسون الجبابرة والظلمة صباحا ومساء، ويرون عليهم المجاديل الغليظة من الحرير الخالص كالأفاعي، ولا يقولون هذا قبيح أو حرام أو بدعة، فلله عليهم هل تخصيص الإنكار بالفقراء دون الظلمة، في هذا وشبهه من الانتصار للدين أو من الإفلاس من نور اليقين… وأما الإعلان بالذكر، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يجتمع مع أصحابه رضي الله عنهم أدبار الصلوات الخمس للذكر، ويرفعون أصواتهم بذلك، حتى قال عمر رضي الله عنه: “كنا نعرف إذا انصرفنا من المكتوبة برفع الصوت بالذكر”، وعنه صلى الله عليه وسلم: “أكثروا من ذكر الله حتى يقولوا مجنون”، واستمر رحمه الله في سوق الأدلة على ذلك، وكذلك فعل في كل المسائل الأخرى التي استشكلها علماء تطوان كلبس المرقعة والمشي بالحفا والعصا والسؤال والتناوب في الذكر والذكر في المسجد والعمارة، والتواجد في الذكر.
رابعها : بعض مشاهير شيوخ وعلماء الطريقة الشاذلية الدرقاوية في المشرق والمغرب
حرصت أن أثبت هنا بعض أسماء مشاهير شيوخ وعلماء الطريقة الشاذلية الدرقاوية بالمشرق والمغرب، وذلك ليظهر للعيان أن فطاحل العلم الشرعي الظاهر تصوفوا على منهاج الطريقة، وهم من هم، وقد أدرك جميعهم أنه بدون تصوف لا يمكن أن يكون هناك تحقق وتعرف.
فمن علماء المشرق أذكر الإمام العز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء، الذي قال فيه ابن عرفة: لا ينعقد إجماع بدون عز الدين بن عبد السلام”، وكان يقول في أوائل أمره: وهل ثم طريق غير ما فهمناه من الكتاب والسنة؟ وينفي طريق القوم، فلما اجتمع بسيدي أبي الحسن الشاذلي وأخذ عنه صار يقول: والله ما قعد على قواعد الشريعة التي لا تنهدم إلا الصوفية”، وقال أيضا: أدل دليل على صحة طريق القوم أن أهلها قعدوا على القواعد، وقعد غيرهم على الرسوم، وأن ما يقع على يد القوم من الكرامات والخوارق، ولا يقع على يد فقيه كرامة، ولو بلغ من العلم ما بلغ، إلا إن بلغ طريقهم”.، وحكى السبكي والسيوطي وغيرهما أن العز لبس خرقة التصوف عن الشهاب السهروردي، وكان يحضر عند أبي الحسن الشاذلي ويسمع كلامه في علم الحقيقة، سئل عن قول القشيري وأبي حامد الغزالي رضي الله عنهما: الصوفية أفضل من العلماء الراسخين، فقال: هذا متفق عليه، ولا يشك عاقل أن العارف بالله أفضل من العارفين بأحكام الله، بل العارفون أفضل من أهل الفروع والأصول، وكان يحضر السماع ويرخص فيه .
ومن جهابدة علماء المشرق أيضا أذكر أبو العباس المرسي والتاج ابن عطاء الله السكندري والإمام البوصيري وأبو القاسم البرزلي وسيدي عبد الرحمن الشاغوري وسيدي مصطفى التركماني رحمة الله عليهم أجمعين وغيرهم كثير.
ومن علماء بلاد المغرب أذكر أحمد بن أحمد زروق الفاسي وابن عباد الرندي وأبوعبد الله أمغار الصغير وأبو عبد الله محمد بن سليمان الجزولي وأبو المحاسن يوسف الفاسي وأبو عبد الله محمد بن ناصر الدرعي ومولاي عبد الله الشريف وسيدي أحمد بن عجيبة وسيدي محمد البوزيدي وسيدي محمد الحراق وسيدي أحمد البدوي وأبو يعزى المهاجي والشيخ عليش الكبير ومحمد بن الهاشمي التلمساني وسيدي أحمد بن مصطفى العلوي ومحمد المختار السوسي ومحمد الكبير الكتاني ومحمد بن الصديق الغماري وغيرهم كثير.
فهؤلاء العلماء رحمهم الله ممن تبحروا في العلم الظاهر، وأخذوا الأوراد عن شيوخ الطريقة الدرقاوية، ورضوا بالتصوف منهاجا يقربهم لخالقهم، ودافعوا عن القوم وأخلاقهم وأعمالهم وكل ما يستنكره العلماء والعوام على المتصوفة.
وهنا أحث إخواني الباحثين على الاهتمام بهذه النقطة وجعلها محل أبحاثهم لأهميتها، لأنه عندما يجمع كتاب يضم علماء الطريقة الشاذلية الدرقاوية المشهورين بالمشرق والمغرب، وأسباب انخراطهم فيها، وذكر مختلف أحوالهم الصوفية، وما ألفوه وما قالوه في الدفاع عن التصوف، وكل شيء اتصل بذلك، فإننا سنعطي للطريقة الدرقاوية نفسا جديدا ودفعة قوية خاصة فيما يتعلق بتمسكها بشرع الله.
خامسها: تمسك شيوخ الطريقة الدرقاوية بالهوية الوطنية ودفاعهم عن حوزة الوطن
إن حب الوطن والحنين إليه والدفاع عن حوزته والإخلاص له، كلها دليل على تشرع المؤمن واقتدائه بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والمتتبع لمصادر التاريخ المغربي وبخاصة كتب تاريخ التصوف ورجاله، يجد أن شيوخ الطريقة الدرقاوية رحمة الله عليهم كانوا من المتمسكين بالهوية الوطنية، كانت تربطهم بأمراء المؤمنين أقوى الروابط، حيث سعوا في خدمتهم وحثوا الناس على الولاء لهم ومحاربة الأجنبي الذي يبغي السيطرة على البلاد والعباد.
يقول الأستاذ إبراهيم حركات متحدتا عن الطريقة الدرقاوية: “ومن كبار شيوخهم العربي الدرقاوي، معاصر مولاي سليمان ومولاي عبد الرحمن، وله دور بارز في إثارة أتباع حركته بالجزائر ضد الاحتلال الفرنسي، ابتلي في قيادة الثورة ضد مولاي سليمان لصالح الأمير يزيد، وفيما عدا هذا الحادث الذي سجن من أجله الشيخ العربي مدة تجاوزت العامين، التزم الدرقاويون نوعا من المرونة اتجاه السلطة، لكنهم بالمقابل هيأوا الأطلس المتوسط لمعارضة التدخل الأجنبي” .
وبعض الناس هداهم الله يتخذون من قصة سجن الشيخ مولاي العربي الدرقاوي من قبل السلطان مولاي سليمان ذريعة للتقول على الطريقة أنها كانت ضد السلطة، وهذا ما لم يحصل بتاتا، فسبب سجنه واضح وهو موالاته للأمير مولاي يزيد ضد مولاي سليمان، وهذا الأمر لم يقم به الشيخ مولاي العربي وحده، وإنما كان هذا شأن أهل فاس وأهل جبل العلم وأهل تطوان وطنجة والعرائش وأصيلا قاطبة، ومعلوم أن المغرب في هذا التاريخ لم يكن يعرف الاستقرار التام، بسبب الصراع على السلطة، ومن أراد التفصيل في هذه النقطة فليرجع للاستقصا للناصري عند كلامه على بيعة أمير المؤمنين يزيد بن محمد رحمه الله .
ولكي تعرف العلاقة المميزة التي كانت تربط الشيخ مولاي العربي بأمراء المؤمنين أصغ السمع لما يقوله المؤرخون، يقول محمد البشير الفاسي: وكان له ـ أي الشيخ مولاي العربي الدرقاوي ـ اهتمام كبير بالسعي في مصالح المسلمين وإخماد نار الفتنة بينهم، وجمع كلمتهم على طاعة أئمتهم، فقد قام بأعمال جليلة في هذا السبيل أيام سلطنة السلطان المقدس مولاي سليمان بن سيدي محمد بن عبد الله العلوي، إذ كثيرا ما كلفه بأمور هامة كسفره لوهران سنة 1220هـ عند أميرها مولاي عبد القادر بن الشريف، وقد وقفت على رسائل من السلطان المذكور للمترجم تدل على ماله من الأيادي البيضاء في جمع الكلمة وإخماد نار الفتنة، وها أنا أنقلها تتميما للفائدة.انتهى كلام محمد البشير الفاسي.
واخترت أن أنقل لكم نص إحداها لتطلعوا على العلاقة المميزة التي كانت تربط الشيخ بالسلطان، يقول: الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، محبنا الفقير الشريف مولاي العربي الدرقاوي سلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد وصل كتابك وعرفنا ما فيه، وبلغنا كتاب الشريف سيدي عبد القادر بن الشريف، وكتبنا له الجواب، وهاهو يصل، فطالعه وتدبر أمره فإن الذي ظهر لنا من الرأي تأخير هذا الأمر إلى خروج فصل الشتاء ودخول فصل الربيع فهو أليق وأصلح، إذ وقت الشتاء لا يتحرك فيه أحد من كثرة الوحل وعمارة الأودية وقلة المرافق، فإذا خرج الشتاء نتوجه بحول الله وقوته بأنفسنا وعساكرنا المظفرة ويكمل الفتح إن شاء الله، فأكد على سيدي عبد القادر إذا سمع بوصولنا لوجدة أو تلمسان يقدم علينا إن شاء الله في متم شعبان 1220هـ.
وكان الشيخ مولاي العربي الدرقاوي لا يذكر أمراء المؤمنين الذين حكموا هذه البلاد ممن عاصرهم أو الذين مضوا إلا بالتبجيل والتعظيم والتفخيم، ويترضى عنهم بعد ذلك، يقول رحمه الله في إحدى رسائله: فكن أيها الفقير على الهمة دائما ترى عجبا، فإن قلت كيف ذلك؟، قلت قد قال السلطان الشريف السعدي مولاي أحمد الذهبي رضي الله عنه للولي الأشهر سيدي أبي الشتاء الخمار نفع الله به… إلخ .
ويقول أيضا في رسالة أخرى: إني كنت في ابتداء أمري، وقد كان وقت دخول البريجة، وقد دخلها السلطان الأعظم الشريف الأكرم أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل الحسني العلوي رحمه الله ورضي عنه…، وبهذا اللقب والتشريف والتفخيم ذكره في عدة مواضع من رسائله .
ومما يزيد في إظهار مدى العلاقة المميزة التي كانت تربط الشيخ مولاي العربي الدرقاوي بأمراء المؤمنين، هو أخذهم عنه الورد الدرقاوي، وكان بعضهم من أجل تلاميذه، قال محمد البشير الفاسي: “وانحشر الناس للأخذ عنه من كافة الأقطار والأمصار وتلمذ له الشريف والمشروف والرئيس والمرؤوس… وممن أخذ عنه من العظماء جلالة السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام العلوي المتوفى سنة 1277هـ، وسيدي عبد القادر بن الشريف سلطان وهران المتوفى سنة 1233هـ، وكفى بجلالة منصب الإمارة دليلا على بعد صيته ورفع علمه في عصره على سائر مشايخ وقته.
وقد ثبت عن كثير من شيوخ الطريقة الدرقاوية بعد هذه الفترة ملاقاتهم للسلاطين واتصالهم بهم والجواب عن مراسلاتهم، والسعي في خدمتهم قدر الإمكان واحترامهم وتعظيمهم بما يليق بمقامهم، وحث الرعية على طاعتهم وعدم الخروج عنهم.
وبالنسبة لصد الأعداء عن هذا الوطن فقد كان لشيوخ الطريقة ومريديها الفضل الكبير في ذلك، يقول محمد البشير الفاسي متكلما عن قبيلة بني زروال بشكل عام، وهي القبيلة التي ينتمي إليها الشيخ مولاي العربي: “ولبني زروال حماس وطني وغيرة دينية وشغف بالحرية وبغض للعبودية، وخصوصا سيطرة الأجنبي ،فمنذ ابتلى الله هذا القطر المغربي بالاستعمار الفرنسي والإسباني وقبيلة بني زروال في صدر المقاومين وطليعة المناضلين، فلم يشملها نفوذ الاستعمارين إلا عند تمالئ القوتين الفرنسية والإسبانية على محاربة حركة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، إذ بمجرد ما ظهر أمره وأعلن الحرب على فرنسا وإسبانيا انضمت له وصارت في صفوفه، وقامت لمحاربة الاستعمار وأذنابه المبشرين به، وفي طليعتهم الزاوية الدرقاوية بأمجوط، فخربوا ديارها وأحرقوا منازلها وطردوا سكانها من قبيلتهم أسوء طرد.
وفي نفس السياق أذكر هنا ما يتعلق بإضافة ذكر “حسبنا الله ونعم الوكيل” للورد الدرقاوي إبان فترة الحماية الفرنسية على يد الشيخ سيدي الحاج علي بن أحمد الدرقاوي رحمه الله، وهو واحد من الشيوخ الذين انتشرت على أيديهم الطريقة الدرقاوية في جنوب المغرب.
ذكر العلامة سيدي محمد المختار السوسي رحمه الله أنه في الوقت الذي كان الشيخ سيدي الحاج علي بن أحمد وأتباعه قاصدين مراكش رفقة الشيخ إبرهيم البصير رحمه الله ومن معه من فقراء الرحامنة والحوز، نزل الجميع في الزاوية الكتانية في ضيافة مقدمها محمد الشيخي المتوفى عام 1367هـ/1947م، الذي أكرمهم غاية الكرم، ولما أراد الشيخ وداعه قال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إلى أمته هدية على يدي، فهل تقبلونها؟، فإنها لكم حصن حصين، وجنة واقية من صدمة شديدة يصدم بها المسلمون،واجعلوها في سلك الورد، كما سنفعل نحن إن شاء الله من الآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها”، فمن اسْتَجَنَّ بها فإنه يأمن المصائب الكبار والصغار ألا وهي: “حسبنا الله ونعم الوكيل”، ثم أمر جميع الفقراء بترديدها بصوت قوي، وانطلق الجمع وهم يتداولونها بحال قوية حتى وصلوا إلى مراكش، ودخلوا أزقتها جهرا بتلك العبارة، ومن ذلك الحين أصبحت مكونا من مكونات الورد الدرقاوي ذي المشرب السوسي، فأصبحت المائة الرابعة، ويقول الشيخ محمد المصطفى بصير بعدما حكى القصة بتفاصيلها أن الشيخ الإلغي قال للشيخ ابراهيم البصير: “فإنكم ستجدون بركة ذلك في حفظ قلوبكم، كما سيجد المغرب كله إن شاء الله بركة ذلك” .
من خلال كل هذا يتضح أن الطريقة الدرقاوية والحمد لله منذ ظهرت للوجود وهي تسير على مقتضى شرع الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بذلك نموذج في السلوك الصوفي السني، والتربية الصوفية السنية الممتحة من معين الشرع الإسلامي البعيد عن البدع والدجل والأباطيل، والحمد لله رب العالمين.
————-
الهوامش:
1- عبد الكريم القشيري الرسالة القشيري في علم التصوف، ص 279 بتصرف.
2- ابن خلدون، المقدمة، ج1ص 467، دار إحياء التراث العربي ،ط4
3- محمد سعيد رمضان البوطي، الحكم العطائية شرح وتحليل، ج1ص 13، دار الفكر الطبعة 3.
4- Louis Rinn,Marabouts et Khouan,p211
5- المطرب بمشاهير أولياء المغرب، عبد الله التليدي،ص 208،الرباط، دار الأمان، ط3.
6- لسان العرب، ابن منظور، بيروت، دار احياء التراث العربي، ج8ص 145,155بتصرف ط1-1995.
7- عبد المغيث بصير، تاريخ الطريقة الشاذلية وتطورها، ص9، دمشق، دار إقرأ.
8- محمد سعيد رمضان البوطي ،مشورات اجتماعية، ص 166، دمشق، دار الفكر، ط1، 2001م.
9- محمد البشير الفاسي، قبيلة بني زروال ص 40
10- المرجع السابق، ص 40.
11- هو أبو سليمان داود باخلا بن عمر الشاذلي نزيل الإسكندرية المتوفى بها سنة 932هـ، له كتاب الرسالة المرضية في شرح دعاء الشاذلية (اسماعيل باشا البغدادي، إيضاح المكنون،ج1،ص569).
12- المفاخر العلية في المآثر الشاذلية، ص 171، محمد بن ابراهيم النفزي، حلب، دار القلم العربي، ط1،2002.
13- المرجع السابق، ص 171.
14- محمد المهدي الفاسي أبو عيسى أحمد بن علي بن أبي المحاسن يوسف ت 1109هـ فهرس الفهارس والأثبات لعبد الحي الكتاني، بيروت ،دار الغرب الإسلامي ط2،1982
15- روحانية الداعية، عبد الله ناصح علوان،ص 105، القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع،ط2،1986.
16- محمد بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس،ج 1ص192.
17- الإمام مسلم، الصحيح، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم 2586،ج4 ،ص 1999، دار إحياء الترلث العربي ،بيروت.
18- ولا أدري لماذا تصرف محققه الدكتور عبد المجيد خيالي في عنوانه وطبعه تحت عنوان يحلو له، أهو لغرض تجاري أم تخوفه من شيء آخر؟.
19- محمد بن جعفر الكتاني، مرجع سابق، ص 192.
20- المطرب، مرجع سابق، ص 209.
21- مولاي العربي الدرقاوي، رسائل في الأدب والسلوك، ص75، مراكش، المطبعة والوراقة الوطنية
22- الإرشاد والتبيان المطبوع تحت عنوان: سلوك الطريقة الدرقاوية،ص 38، مرجع سابق.
23- المكودي التازي، سلوك الطريقة الدرقاوية، ت عبد المجيد خيالي، ص86، الدار البيضاء، دار الرشاد الحديثة، ط1،2007.
24- الإرشاد والتبيان، مرجع سابق ص 65، والرسائل، مرجع سابق، ص 108
25- الشيخ عبد الهادي محمد الخرسة، علماء الصوفية هم السلفية الحقيقيون، ص 150، دمشق دار فجر العروبة.
26- ابراهيم حركات، التيارات السياسية والفكرية بالمغرب خلال قرنين ونصف قبل الحماية ج3ص59، دار الرشاد الحديثة، بتصرف.
27- الناصري، الإستقصا في تاريخ المغرب الأقصى، ج3ص76،109،150، بتصرف، الدار البيضاء، دار الكتاب،ط1/1997.
28- محمد البشير الفاسي، قبيلة بني زروال: مظاهر حياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ص44، مطبوعات المركز الجامعي للبحث العلمي، كلية الآداب، الرباط،1962 .
29- الرسائل، مرجع سابق، ص 206-212-227 .
30- المرجع السابق، ص 40 .
31- محمد البشير الفاسي، مرجع سابق،ص14 .
32- محمد المصطفى بصير، الاغتباط بزاوية الشيخ سيدي إبراهيم البصير ببني عياط، مخطوط بزاوية الشيخ سيدي إبراهيم البصير ص 138.
33- راجع تفاصيل هذه الحكاية عند: محمد المختار السوسي، المعسول، ج 12، ص 138- 139.
34- محمد المصطفى بصير، الاغتباط، ص 140.