العظات والعبر من غزوة بدر الكبرى
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله،
في مثل هذا اليوم الأغر يوم الجمعة من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين لقتال المشركين في غزوة بدر الكبرى، وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بعير تجارية لقريش قادمة من الشام بإشراف أبي سفيان بن حرب، فندب المسلمين إليها، ليأخذوها لقاء ماتركوا من أموالهم في مكة، فخف بعضهم لذلك وتثاقل آخرون، إذ لم يكونوا يتصورون قتالا في ذلك.
وتحسس أبوسفيان الأمر وهو في طريقه إلى مكة، فبلغه عزم المسلمين على خروجهم لأخذ العير، فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة ليخبر قريشا بالخبر ويستنفرهم للخروج محافظة على أموالهم، فبلغ الخبر قريشا فتجهزوا سراعا، وخرج كلهم قاصدين الغزو، حتى إنه لم يتخلف من أشراف قريش أحد.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وكانوا فيما رواه ابن إسحاق ثلاثمائة وأربعة عشرة رجلا، وكانت إبلهم سبعين، يتعاقب على الواحدة منها اثنان أو ثلاثة من الصحابة، وهم لايعلمون من أمر قريش وخروجهم شيئا، أما أبو سفيان فقد أتيح له أن يحرز عيره، إذ سلك طريق الساحل إلى مكة وجعل ماء بدر عن يساره، وأخذ يسرع حتى أنجى عيره وتجارته من الخطر، وكان كفار قريش مابين التسعمائة والألف، وفيهم عامة زعماء المشركين.
أيها الإخوة الكرام، هذه بداية تفاصيل هذه الغزوة المباركة، وإني لن أتوقف عند سرد أحداثها المباركة مرحلة بمرحلة على أهميتها، فذلك والحمد لله متاح في محله من أمهات كتب السيرة، وأحببت أن أتوقف بكم عند أهم العظات والعبر المستخلصة من هذه الغزوة، لأنها تنطوي على دروس وعظات جليلة، كما تتضمن معجزات باهرة تتعلق بتأييد الله ونصره للمؤمنين المتمسكين بمبادئ إيمانهم المخلصين في القيام بمسؤوليات دينهم.
أول أهم هذه الدروس، أن هذه الغزوة وقعت في السنة الثانية للهجرة وهي نفس السنة التي فرض فيها الصيام، وفي ذلك دلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لم يتخذوا شهر رمضان شهر دعة وكسل ونوم، وهذا ما تؤكده الوقائع والأحداث، حيث نجد الكثير من انتصارات المسلمين وقعت في شهر رمضان.
الدرس الثاني، أن الدافع الأصلي لخروج المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن القتال والحرب، وإنما كان الدافع قصد الاستيلاء على عير قريش القادمة من الشام، غير أن الله أراد لعباده غنيمة أكبر، ونصرا أعظم، وعملا أشرف وأكثر انسجاما مع الغاية التي ينبغي أن يستهدفها المسلم في حياته كلها، فأبعد عنهم العير التي كانوا يطلبونها، وأبدلهم بها نفيرا لم يكونوا يتوقعونه.
الدرس الثالث، عندما نتأمل كيف يجلس رسول الله إلى أصحابه ليشاورهم في الأمر الذي فوجئوا به، نجد أنه صلى الله عليه وسلم التزم بمبدأ التشاور مع أصحابه، وهكذا كان شأنه في كل أمر لانص فيه من كلام الله تعالى ومما له علاقة بالتدبير والسياسة الشرعية، ومن أجل هذا أجمع المسلمون على أن الشورى في كل مالم يثبت فيه نص ملزم فيه من كتاب أو سنة أساس تشريعي دائم لا يجوز إهماله، واتفق الفقهاء أن هذه الشورى مشروعة ولكنها ليست بملزمة، أي إن على الحاكم أن يستنير بها في بحثه ورأيه، ولكن ليس عليه أن يأخذ برأي الأكثرية مثلا لو خالفوه في رأيه.
الدرس الرابع لماذا لم يقع جواب أبي بكر وعمر والمقداد موقعا كافيا من نفس الرسول صلى الله عليه وسلم، وظل ينظر في وجوه القوم، حتى إذا تكلم سعد بن معاذ اطمأن وطابت نفسه عند ذاك؟ والجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يريد أن يعرف رأي الأنصار أنفسهم ليعرف هل سيتوقفون عند بنود المعاهدة الموقعة بينهم وبينه في مكة، والتي تجبرهم الدفاع عنه داخل المدينة لا خارجها، أم سيتجاوزونها إلى الدفاع عن رسول الله وعموما عن دين الله، ولذلكم كان جواب سعد رضي الله عنه: لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ماجئت به هو الحق…فامض لما أردت فنحن معك، أي فنحن نسير معك وفق معاهدة أعظم من تلك التي اتفقنا عليها معا في بيعة العقبة.
الدرس الخامس، يدلنا الحديث الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والحباب بن المنذر رضي الله عنه في شأن المكان الذي نزل فيه، أن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم ليس كلها من نوع التشريع، بل هو في كثير من الأحيان يتصرف من حيث إنه بشر يفكر ويدبر كما يفكر غيره، ولا ريب أننا لسنا ملزمين باتباعه في مثل هذه التصرفات، فقد أشار عليه الحباب بالتحول من المكان الذي نزل به إلى مكان غيره، ووافقه عليه الصلاة والسلام في ذلك، وذلك بعد أن استوثق الحباب رضي الله عنه أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لذلك المكان ليس بوحي من عند الله.
الدرس السادس، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطمئن أصحابه بأن النصر لهم، حتى إنه كان يشير إلى أماكن متفرقة في الأرض ويقول:”هذا مصرع فلان”، ولقد وقع الأمر كما أخبر عليه الصلاة والسلام، فما تزحزح أحد في مقتله عن موضع يده، ومع ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم يقف طوال ليلة الجمعة في العريش الذي أقيم له يجأر إلى الله تعالى داعيا ومتضرعا، باسطا كفيه إلى السماء يناشد الله عز وجل أن يؤتيه نصره الذي وعده، حتى سقط عنه رداؤه وأشفق عليه أبو بكر والتزمه قائلا: كفى يارسول الله إن الله منجز لك ما وعد، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا بذلك أن الاستغراق في التضرع والدعاء وبسط الكف إلى السماء هي وظيفة العبودية التي خلق من أجلها الإنسان، وذلك هو ثمن النصر في كل حال وعلى كل حال.
أيها الإخوة الكرام ما أكثر الدروس والعبر والعظات التي استخلصا العلماء من أطوار هذه الغزوة المباركة، ولو تتبعناها واحدة واحدة لما وصلنا في ذلك إلى نهاية، ويكفي أن أشير إلى بقيتها باختصار شديد، فمن ذلك الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وهي من أعظم المعجزات التي انطوت عليها غزوة بدر، يقول الحق سبحانه:”فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين”، ويقول صلى الله عليه وسلم:”أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على النقع”، ومن الدروس أيضا الحياة البرزخية للأموات، ويتجلى ذلك في وقوف رسول الله على فم القليب ينادي قتلى المشركين ويكلمهم بعدما ماتوا، ومن الدروس أيضا مايتعلق بمسألة الأسرى وما تضمنته من مشاورة الرسول في شأنهم وما أعقبها من حكم افتدائهم بالمال ثم نزول آيات تعتب على رسول الله وعلى أصحابه اتخاذ ذلك الحكم.
أيها الإخوة الكرام إن تدارس بطولات سلفنا، وبخاصة تلكم البطولات التي خلدها التاريخ الإسلامي بمداد من ذهب تستحق التوقف عندها والاطلاع على تفاصيلها وجزئياتها الدقيقة، وينبغي أن نجعل ذلك من صميم برامجنا، لأن في إغفال الاطلاع على تاريخ الأوائل وأمجادهم تضييع تلقائي لمجد الأمة الإسلامية ومفاخرها، ولايستطيع إنسان تجاهل ما في ذلك من فوائد جمة كثيرة، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعتم والحمد لله رب العالمين.