السماع الصوفي بين التشريع والتبديع
بقلم د. الجيلالي كريم
أستاذ باحث، متخصص في تاريخ التصوف المغربي، ابن أحمد.
عرف الفكر الصوفي على طول الأزمنة تلوينات وتغييرات كثيرة سواء على مستوى التأطير أو التنظير أوالممارسة، كما برزت مجموعة من الظواهر نتيجة لتراكم التجارب الصوفية،
والتي عرفت في كثير من الأحيان انحرافات نحت بها عن مقصدها العام، مما أثار العديد من الفقهاء والمتحققين من المتصوفة، فقاموا بنقدها والعمل على محاربتها أملا منهم في تنقية الجسم الصوفي مما قد يشوبة من البدع والضلالات.
ومن أهم الظواهر التي أثارت جدلا كبيرا في الأوساط العلمية والصوفية على حد سواء، هناك ظاهرة السماع الصوفي والتي انقسم الناس فيها إلى أربع فرق: فرقة استحسنت، وأخرى أباحت، وثالثة كرهت، ورابعة حرمت.
وتقصيا لبعض هذه الآراء، سنعمل في هذا المقال(1) على تقديم آراء ومواقف ثلاثة من الأئمة الفقهاء المحسوبين على التيار المصلح للفكر الديني عامة والصوفي بصفة خاصة، وهم ابن الحاج العبدري من خلال كتابه: “المدخل”، وهو من أهل القرن الثامن الهجري، ثم الشيخ أحمد زروق من خلال كتابه: “عدة المريد الصادق”، وهو من أهل القرن التاسع الهجري، فالحسن اليوسي من خلال رسائله في التصوف وهو من أهل القرن الحادي عشر الهجري.
لكن قبل ذلك، لا بد من إيضاح مفهوم السماع الصوفي وتقريب معناه، حتى يسهل إدراك موقف كل إمام على حدة وربطه مع مفاهيم الظاهرة.
1- مفهوم السماع الصوفي:
السماع هو ما تحسه الأذن وتسمعه من ذكر وأشعار، أي ما قرع الأسماع وأثار كوامن أسرارها، ويتولى إنشاده القوَّال الذي غالبا ما يكون جميل الصوت رخيمه حتى يؤثر في النفوس ويثير كوامنها، والسماع عند الصوفية: صوت أفاد حكمة يخضع لها القلب ويلين لها الجلد(2)، اتخذوه وسيلة للاستجمام من تعب الوقت، وتنفسا لأرباب الأحوال واستحضارا للأسرار لذوي الأشغال(3)، لكنه صار عند المتأخرين النغم والتطريب بإنشاد قصائد المدح والغزل لقصد إصلاح القلوب واستجلاب الأحوال أو للاحتراق والارتزاق والأكل واكتساب الجاه، ويكون أحيانا بآلة ووتر، وأحيانا نغما موزونا مجردا عنها(4)، وهو ما أصبح يعرف في الأزمنة المتأخرة بالحضرة.
2- موقف العلامة ابن الحاج من السماع الصوفي:
لقد عمل ابن الحاج في كتابة المدخل على التنبيه على عدد من البدع والخرافات التي شابت التدين في عصره، خاصة تلك التي أحدثها أرباب الزوايا والمنتسبون إلى التصوف، ومن أهم الظواهر التي أثارت انتباهه في ذلك الوقت: ظاهرة السماع الصوفي، حيث اعتبر أن الغالب على من ينتسبون إلى الخرقة في زمانه إنما شأنهم كثرة الاجتماع وحضور السماع والرقص فيه، وكأن ذلك شرط في السلوك، ولذلك نجده يحذر من هذه الاجتماعات كل من أراد الخير كي يعتزلها وإلا فالفتح عليه بعيد، كما حذر من ادعاء الحال وزعم الفرد أنه يفتح عليه في حالة رقصه(5).
وقد استند ابن الحاج في أحكامه على الكتاب والسنة، حيث أكد أن سنة الله في الرسل والأنبياء والفضلاء والأولياء هي شكر الله على هدايتهم والانقطاع إليه، لكن ليس بضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام كما يفعله أهل زمانه عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان، وهو حرام عند جماعة العلماء(6).
ويشير ابن الحاج إلى أن من بين أهم الأسباب التي أدت لانتشار البدع في التصوف هي مخالطة أهله لقبط النصارى، مع قلة العلم والتعلم في الغالب حتى وضعوا العوائد موضع السنن، وصار الناس في زمانه إذا قلت لأحدهم: السنة كذا، يجيب على الفور عادة الناس كذا وطريقة المشايخ كذا(7). كما ذهب إلى أن الرقص والتواجد في السماع هو دين الكفار، حيث أن أول من أحدثه هم أصحاب السامري لما اتخذوا لهم عجلا جسدا له خوار فقاموا يرقصون حواليه(8).
أما السماع المعروف في الإسلام -حسب ابن الحاج- فهو رفع الصوت بالشعر ليس إلا، وليس بالشكل الذي يفعله متصوفة عصره الذين دفعهم جهلهم إلى أن يسنوا للسلف الصالح اللعب واللهو لاعتقادهم أن السماع الذي يفعلونه هو الذي كان السلف يفعله، بل ذهب إلى أن من كان اعتقاده بهذا الشكل يتعين عليه أن يتوب وإلا فهو هالك(9).
فالسماع المطلوب –حسب رأيه– هو ما ينشط النفس ويقوي القلوب على السير إلى المقامات العلية والنهوض إليها عن طريق القوال الذي يمد الحاضرين في بواطنهم، لأن حضور السماع في المجالس العلمية يحيي القلوب الميتة كما يحيي المطر الوابل النبات، لكن السماع في عصره تجاوز هذا الحد وأصبح مخالفا لما أقره السلف لاحتوائه على أشياء محرمة أو مكروهات أو هما معا(10)، فهؤلاء أدخلوا فيه التصفيق وهو للنساء دون الرجال، كما أدخلوا فيه الدف والشبابة وقد أجمع العلماء على منعهما(11).
هذا إضافة إلى ركون هؤلاء إلى إتباع الشهوات والتنافس في ألوان الأطعمة في مجالس السماع مع ما يقترفونه من إحضار المرد في مجالسهم والنظر في وجوههم، وهو أمر لا يوافق سيرة السلف الصالح الذين كان الجوع والتقشف والانقطاع إلى الله سبيلهم(12).
وقد أكد ابن الحاج أن السماع في عصره أصبح يمارس على شكل صور قبيحة ينفر منها الذوق السليم، حتى أصبحت ترى الشيخ ذي اللحية البيضاء يرقص ويصفق على توقيع الألحان والقضبان خصوصا إذا كانت أصوات نسوان وولدان(13)، وصار أهله يمارسونه بالدف والآلات وهم يرقصون بالأرجل ويصفقون بالأيادي ويكشفون الرؤوس ويخرقون الثياب، وهو أمر اعتبره ابن الحاج مجرد لعب وسخف ونبذ للمروءة والوقار ولِمَا كان عليه الأنبياء والصالحون(14).
لأجل هذا اعتبر ابن الحاج المتصوفة الذين يمارسون هذا النوع من السماع فرقة مخالفة لجماعة المسلمين، لأنهم جعلوا الغناء دينا وطاعة(15). كما اعتبر سماعهم هذا مجرد جاسوس للقلب وسارق للمروءة والعقول، فبينما ترى الرجل(منهم) وعليه سمتٌ ووقار وبهاء العقل، فإذا استمع اللهو نقص عقله وحياؤه، وذهبت مروءته، ويبدي من أسراره ما كان يكتمه. وينتقل من بهاء السكون إلى كثرة الكلام والكذب والازدهاء والفرقعة بالأصابع، ويميل رأسه ويهز منكبيه، ويدق الأرض برجليه(16).
وأشد ما أنكره ابن الحاج على هؤلاء تعاطيهم السماع في المسجد، وهو المكان الذي كان يوقره السلف ويكرهون حتى رفع الصوت فيه ذكرا كان أو غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم: من نشد ضالة في المسجد فقولوا له لا ردها الله عليك، وقوله: “من سأل في المسجد فاحرموه”.
وقد عضد إنكاره هذا بأقوال الأئمة والفقهاء، فالشافعية قالوا: السماع لهو مكروه يشبه الباطل، والمالكية قالوا: يجب على ولاة الأمور زجر هؤلاء وردعهم وطردهم من المساجد أما الحنابلة فقالوا: من فعل ذلك لا يصلى خلفه، ولا تقبل شهادته، ولا يقبل حكمه وإن كان حاكما، وفال الحنفية: الحصر التي يرقص عليها لا يصلى عليها حتى تغسل(17).
لهذه الضلالات حارب ابن الحاج هذا النوع من السماع لأنه صار فتنة لا يسلم منها إلا من رحم الله، فكل من حضره من الرجال والشبان واطلع عليه من النساء أو سمعهم في زمانه افتتن به(18)، حتى صارت فتنة أكثر من أن تحصر، هذا مع ما فيه من إضاعة المال والرياء والسمعة وإثارة الشهوات والملذات ومحبة الثناء والمحمدة والقيل والقال ومحبة النفوس في الظهور على الأقران(19).
فالواضح إذن أن ابن الحاج ينكر من السماع ما كان على الكيفية السابقة، لكنه في مقابل ذلك يقر بالسماع على ما جاء به المشايخ الأوائل من المتصوفة كالسهروردي والجنيد وأبي طالب المكي، فهو لما ذكر تعليق السهروردي عن تنزيه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم عما يفعله المتأخرون في السماع، يقول: “ولقد أنصف فيما وصف، وهذا هو الحق الذي يجب اعتقاده في حق السلف”(20)، كما أنه أقر تعريف الجنيد للسماع، وقَبِلَه بالشروط العشرة(21) التي وضعها معتبرا إياها أوصافا جميلة قائلا: “وحيث كان مباحا بهذه الشروط فإن اتفق اجتماعها كان السماع المعروف عند العرب وهو إنشاد الشعر برفع الصوت”(22).
فابن الحاج إذن لا ينكر السماع إذا كان بشروطه، وإنما ينكر الطريقة التي أصبح يمارس بها في زمانه، ويتضح ذلك من خلال قوله: “إننا لا ننكر إنشاد الشعر وإنما ننكره إذا لحن وصنع صنعه تورث الطرب وتزعج القلب”(23).
وتجنبا لكل الشبهات السابقة الذكر، وسدا للذرائع دعا ابن الحاج إلى تجنب السماع والابتعاد عن متعاطيه، فهو لا يدخل في باب الوجوب ولا حتى الندب، بل لا يصير مباحا إلا بالشروط العشرة التي ذكرها الجنيد وهي صعبة التحقق في زمن ابن الحاج وفي غيره من الأزمنة، مما دفع أغلب المتحققين من المتصوفة إلى التحذير منه باعتباره بابا من أبواب الشيطان، والتي عمل ابن الحاج على تمثل بعضها للاستدلال به مثل قول الجنيد: “إن الشيطان يعسر عليه شأن المتصوفة إلا في وقتين، وقت السماع وعند النظر”، وقال: “إذا رأيت المريد يحب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة”، وقال أبو علي الروذباري لما سئل عن السماع: “ليتنا تخلصنا منه رأسا برأس “. وغيرها من الأقوال التي أوردها (24).
لكل هذه الأمور، دعا ابن الحاج فقراء عصره إلى سد أبواب المفاسد، والنهوض إلى ما يجب عليهم أو يندب إليهم، وأن يصونوا حرمة الخرقة التي ينتسبون إليها بترك هذه الأبواب وشبهاتها.
3- موقف الشيخ أحمد زروق من السماع الصوفي
لا يختلف الشيخ زروق عن غيره في كون السماع طريق الشيطان إذا لم يكن بشروطه، ولذا صرح أن السماع حرام على من لم يصل رتبة التمكين، فإن وصل سمح له لكن بشروطه، مع التسليم المسبق أن السماع مقام أدنى وحظه النفس، ولذلك فهو يتشرف بالعارفين دون أن يتشرفوا هم به، فيكون نزول الشيخ العارف إليه لإفادة الحاضرين لا لغير ذلك(25). أما إن كان نزول الشيخ إلى السماع باستمرار إذا لا يجد حاله إلا فيه فليعلم -حسب زروق – أنه مطرود، وأن ذلك عقوبة من الله لذنب أتاه، فالعارف الحقيقي في نظره من لا أذن له إلى سماع(26).
فهو يرفض السماع إذا كان مؤثرا على وجه الدوام، بل إنه يصبح ممنوعا إذا كان يضيع واجبا كالصلوات، فمن فعله على وجه يتضمن محرما أو مكروها لا وجه له أو خرج عن الأدب فيه ظاهرا أو باطنا مع علمه به، أو أحب أن يطلع الناس على حقيقة حاله مع الله، فهو مخدوع(27).
فالأسلم للمريد حسب هذا الشيخ أن يستر حاله على أمثاله، وأن تكون غيرته على فقرة أكثر من غيرة الغني على غناه، أما إن أحب الظهور فهو عبد الظهور، ومن أهم مظاهر الظهور السماع والذي يمكن أن يقلب المريد على عقبه إذا ظن أنه بلغ مبلغ الرجال ولم تعد الأحوال توثر عليه، فيأخذ بالسماع والاجتماع والانبساط في المباسطة ظنا منه أنه فتح له حتى يقع في إساءة الأدب فيُرَدُّ من حيث لا يعلم(28).
وللسماع عنده ثلاثة شروط(29)، لابد من مراعاتها وإلا كان العمل فيه خارجا عن حقيقته أو كماله وهي:
1- مراعاة آلاته التي يقع فيها ومعها وبها وهي: الزمان والمكان والإخوان.
2- خلو الوقت عن معارض ضروري أو حاجي شرعا.
3- وجود الصدق مع الجميع وسلامة الصدر في الحال فلا يتحرك متحرك إلا بغلبة.
لكن بالرغم من توفر هذه الشروط، يبقى السماع – حسب زروق – شبهة ينبغي أن تتقى لشبهها بالباطل وهو اللهو إلا لضرورة تقتضي الرجوع إليه، فقد تباح لذلك مع التجرد عن الآلات وإلا فمتفق على تحريمه، ويرى زروق أن للسماع ثلاث ضرورات(30).
1- تحريك القلب ليعلم ما فيه بمثيره.
2- الرفق بالبدن بإرجاعه للإحساس، ومثيرات الطباع حتى لا يهلك فيها بما يرد عليه من قوى الواردات.
3- التنازل للمريدين حتى تتفرغ قلوبهم لقبول الحق في قالب الباطل.
فالسماع بالنسبة إليه رخصة مباحة تباح لهذه الضرورات، وتقيد بقدرها وتقف عندها مع مراعاة شروط صحته، وإلا فالمنع أولى(31).
وكذلك يبقى السماع ممنوعا حسب زروق على من عُرِف بغلبة الحال عليه استجابة لواجب حفظ العقول المنوط به حفظ الأموال والأعراض، كما لا يجوز قطع الخرق، ولا أن يدخل مع القوم من ليس منهم وإن كان عابدا أو زاهدا لا يقول بالسماع ولا يراه، وكذا العارف لأن حاله أتم تجنبا لاغتيابه الجماعة بالنقص أو اغتيابهم له، فالسماع طريق لمن له به معرفة وليس لغيره(32).
أما ما يفعله أهل السماع من رقص وشطحات وأقوال منكرة الظاهر، فإن كان فاعلها وقائلها واجدا في حالة لا يملك نفسه فيها فهو يدخل في حكم المجنون، فلا تجري عليه الأحكام، لكن يلزمه استدراك الفائت كالسكران لتسببه في الأصل، مع نفي جواز الاقتداء به، لكن يبقى معذورا لعدم ضبط حركاته وعدم قصده المخالفة(33).
فالشيخ زروق إذن لا ينفي السماع مطلقا، إذ نفي الشيء لما يعرض فيه أو بسببه لا يقضي بنقض أصل حكمه، وإنما قال بمنع السماع في عصره، كغيره من الفقهاء والمتصوفة الذين قالوا بذلك لعارض الوقت من الابتداع والضلال بسببه، فالسماع في زمانه شابته البدع والضلالات مما جعله يتبنى مقولة الحاتمي: “السماع في هذا الزمان لا يقول به مسلم، ولا يقتدي بشيخ يعمل بالسماع ويقول به(34).
وبالجملة فهو يقول: من كان استماعه بالحقيقة استفاد التحقيق، ومن كان استماعه بالنفس استفاد سوء الحال، ومن كان استماعه بالطبع اقتصر نفعه على وقته(35).
4- موقف العلامة الحسن اليوسي من السماع الصوفي
يناقش اليوسي مسألة السماع من جهة الممارس له ومن جهة المنكر عليه:
فالسماع عنده منهل مورود قديما وحديثا ولا يصفو إلا لأهله الذين يستريحون به من الأثقال ويستفيدون به من نفائس الأحوال، وغالبا ما يخبث لغير أهله إما عن وارد شيطاني، وإما اختيارا كذبا ودعوى(36).
ولهذا أكد اليوسي أن السماع المعروف بالحضرة في عصره أمر منكر من أكثر الفقهاء، وإن كان يرخص فلأهله إذا توفرت شروطه بحسب الزمان والمكان والإخوان، فإذا توفرت شروطه فعلى من يحضره من المريدين أن يحتاط مما قد يقع فيه من شبهاته. بأن يجلس متأدبا مع الحق مجاهدا قلبه في الحضور، أما إن نزل عليه وارد بغير اختياره فإنه يبقى في حكمه حتى يرتفع، والمعصوم من عصمة الله(37).
لكن بالرغم من أننا نجد اليوسي ينصح المريد بعدم القيام للسماع نجده يبرر قيامه له بكون تحرك المريد عند السماع لا يكون باختياره حتى ينظر أيقوم به أم لا(38)، ولذلك فالحال عندهم في حال السماع قد تقتضي صياحا أو بكاء أو ضحكا أو طربا أو حركات للجسد أو دورانا أو رقصا أو تصفيقا أو غشيا(39).
لهذه الأمور ناقش اليوسي ظاهرة السماع الصوفي محاولا تبيان أحكامها بحسب المتعاطيه، إما مغلوبا أو متمكنا يريد تدريج غيره، أو مساعدا لغيره حيث ينبغي المساعدة عندهم، فإن كان مغلوبا لم يبق له معه تمييز أو اختيار فلا كلام عليه حتى يفيق، إذ هو مدفوع لما فعله محمودا كان أو مذموما، لكن عليه بعد الإفاقة أن يتعوذ بالله من الشيطان، أما إن أعجب به أو افتخر به أو عده درجة وقربا فهو دليل خسرانه(40).
أما من تعاطاه باختياره، فإن رأى ذلك فرضا أو سنة أو شرطا من شرط السلوك فهو جاهل مبتدع، وإن كان يشتغل به في وقت يضيع فيه فرضا كالصلاة أو يؤدي إلى تضييعها كالغشيان، أو بكيفيات لا تحل شرعا ككشف العورة أو اجتماع الرجال بالنساء، أو رياء للتظاهر بالصلاح والأحوال الشريفة مع الخلو من ذلك، أو لاستجلاب حظوظ الدنيا من مال أو جاه أوغيرهما، أو إيهام العوام أن هذا هو شأن الصالحين وهذا طريقهم، أو تكبرا على أبناء جنسه، أو وقيعة فيمن لا يفعل ذلك، فكل ذلك حرام وفاعله مخدوع تجب عليه التوبة، والاقلاع عنه والاشتغال بما يعني(41).
وفيما يخص المتمكن العارف، فحسب اليوسي أنه إن نجا من الورطات السابقة كأن يكون قصده مباسطة الإخوان أحيانا من غير إكثار، أو يطمع في استجلاب حال رباني، أو يساعد من هو من أهله أدبا معه، فهذا كله لا بأس به، ولا يتعرض لأمثال هؤلاء فهم أعرف بأحوالهم(42).
وبعد أن ناقش اليوسي السماع من جهة متعاطيه يعود لمناقشته من جهة المنكرين عليه وعلى أهله، فإن كان المنكر عليهم من العوام، فحسبه الاشتغال بنفسه وتعلم دينه وترك الفضول إذ هو ليس أهلا لذلك، وإن كان من العلماء فإن رأى منكرا مجمعا عليه كالاختلاط أو تضييع الفرائض، فعل ذلك بمقتضى ظاهر الشريعة، وليضمر مع فعله هذا التفويض وحسن الظن، لأن الفاعل قد يكون مغلوبا على أمره فلا لوم عليه، ولذلك بعد الإنكار عليه يبقى المجال واسعا لحسن الظن به وحبه لانتسابه إلى الإسلام وإلى طريق الله، وإلا فالله تعالى يغار للمنتسبين إليه وإن لم يكونوا على شيء إذا تعرض لهم بالشهوة ومقتضى الهوى، فيخشى على المتعرض الانتقام، أما إن تعرض بحق وتحقيق فلا مضرة عليه ولا مخافة تتطرق إليه(43).
فأما إن كان مرشدا ناصحا مبينا القبيح من الحسن والحسن من الأحسن، فذلك لا بد منه إلا أنه مشروط بفقه الناصح والمعلم وبقبول المنصوح أو المتعلم سماعه، فإن لم يكن المرشد ممن قد يأخذه السامع قدوة، أو ممن تؤدي له الطاعة، أو مقبولا عند السامع لصحة علمه عنده أو صلاحه، فلا يحكم ولا ينصح(44)، فكما يقول المشايخ: “لا تنكر على أحد علمه إلا من يسلم علمك، ولا دينه إلا من يسلم دينك، وإلا فليس إلا اللجاج والضجاج والفتن والمجن” (45).
بعد هذا انتقل اليوسي إلى توضيح بعض أحكام السماع على مستوى الممارسة ووسائلها حيث أشار إلى أن السماع إن كان غناء مجردا عن الآلات فهو على الجواز في أصله لأنه إنشاد، إذ كان الشعر ينشد أمام الرسولصلى الله عليه وسلم مديحا وهجاء وافتخارا ونسيبا وحكما ووصايا وخطبا فلم يكن ينكر ذلك، لكنه يشير في مقابل ذلك إلى أنه إن كان نسيبا صريحا يذكر القدود والخدود فلا ينبغي تعاطيه(46).
وأما إن كان بالآلات كالدف والشبابة فقد كرهه الجمهور، وهو الحق – كما قال اليوسي – وذلك لأنه رأى السماع في زمانه صار أكثره لهو ولعب، حيث قال بعض مشايخ زمانه : “إن السماع في زماننا لا يقول به مسلم ولا يقتدى بشيخ يقول به”(47).
وفيما يخص الرقص المصاحب للسماع، أكد أنه لا يذم إن كان عن حال واردة، أما إن كان كذبا وتشبعا بما لم يكن فلا يجب، وإذا اشتبه الأمر فالتسليم أولى(48).
وعلى العموم، فاليوسي يقول: إن من تحقق بما يقوله أو سمعه فهو محق، ومن لا فهو كذاب وسامعه مثله، وإن السماع متى كان أشبه بصورة السلف المجرد كان أقرب إلى الجواز، ومتى أخرج إلى الآلات كان لهوا محضا وباطلا واضحا، ولذلك كان اليوسي يلح أن يكون تحت سياسة قدوة سني تقي حتى لا يخرج في أقصى الحالات عن المباسطة(49).
خلاصة:
هكذا إذن يمكن أن نخلص إلى أن الأئمة الثلاثة يتفقون في كون السماع مجرد رخصة تُعْطَى لأهلها إذا توفرت شروطها وضرورياتها، وليس واجبا دينيا أو حتى مندوبا، كما أنه ليس من التصوف بالجوهر ولا العرض، لكن بحكم التطورات التي عرفتها هذه الظاهرة في أزمانهم اتفق رأيهم أيضا على ضرورة تجنبها والابتعاد عنها، فهي وإن كانت في أصلها من شبه الدين فإنها مع ما صارت إليه أصبحت شبيهة بالباطل، يتعين على من استبرأ لدينه وعرضه التبرؤ منها، ولهذا اتفق رأي الأئمة على فسادها في أزمانهم لما اقترن بها من أمور فاسدة بحضور النساء وسماعهن أصوات الرجال وحضور الآلات والشبان الحسان.
لكن الملاحظ هو أن آراء هؤلاء الأئمة اختلفت نوعا ما في معالجة هذه الظاهرة، فابن الحاج الفقيه المتشدد على المبتدعة، يرى أن السماع شبهة ومفسدة لا بد من اتقائها وابتعاد كل المتصوفة عنها باختلاف مقاماتهم من المريد إلى العارف، أما الشيخ زروق فقد شدد على ضرورة الابتعاد عن السماع إلا لأهله، إذ لم ير بأسا في أن يتعاطاه أهله إذا توفرت شروطه ودعت إليه ضروراته، في حين نجد أبا علي الحسن اليوسي يزجر المنكرين على هؤلاء، بل نجده يدافع عن الصوفية وعن ممارساتهم، ولم يسمح بالإنكار عليهم من طرف العلماء طبقا لمقتضى ظاهر الشرع فقط، مع ضرورة تمسك هؤلاء العلماء المنكرين بحسن الظن بالمتصوفة لأنهم أهل الميدان، وأهل مكة أدرى بشعابها.
وبالرغم من هذا الاختلاف البسيط حول ظاهرة السماع، فإن رأيهم العام يبقى مجمعا على أن السماع في أزمانهم شكل سبب الفتنة في الغالب، واعتبروه مزلة أقدام الرجال وموقف الإبطال، وأكثر الذين اعتنوا به في أزمانهم هم أهل البطالة والضلال، ولهذا رجحوا الترك على الأخذ لما فيه من ضرر لبصائر المريدين ونقص لمدد العارفين، ثم إن أكابر شيوخ الصوفية لم يحضروا مجالس السماع، فلم يحضره الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا إبراهيم بن أدهم، ولا السري السقطي، ولا سليمان الداراني، ولا الشيخ عبد القادر الجيلاني وكان ينهي عنه، ولا أبو مدين، وأكثر الذين حضروه من شيوخ المتصوفة الموثوق بهم رجعوا عنه في آخر عمرهم، وشرطوا له شروطا لا تكاد توجد كشيخ المتصوفة الجنيد، فإنه حضره وهو شاب وتركه في آخر عمره، وكان يقول: “من تكلف السماع فتن به”(50)
أما في الأزمنة المتأخرة، وقد صار السماع حرفة يتأكل البعض بها، وأدخلت فيه الآلات والدفوف والأوتار، واختلط فيها الحق بالباطل، فقد أجمع الفقهاء والصوفية المتحققين على منعه وحرمة حكمه، وهو رأي الأئمة الثلاثة المذكورين وغيرهم، حيث أجمع العلماء على تحريم السماع المعتاد في أزمانهم على وجهه المعتاد(51). وقال الألوسي في تفسيره: “ومن السماع المحرم سماع متصوفة زماننا وإن خلا من رقص فإن مفاسده أكثر من أن تحصى، وكثيرا ممن ينشدون أشعارا من أشنع ما يتلى ومع هذا يعتقدونه قربة”(52) .
وختاما يمكن القول إن السماع بالرغم من عدم ورود نص يمنعه أو يبيحه، فإن آراء العلماء والفقهاء قد أجمعت أنه صار في الأزمنة المتأخرة شبهة وجب اتقاؤها لشبهه بالباطل وهو اللعب واللهو، ولهذا شددوا على عدم تعاطيه إلا لضرورة ملحة تقتضي الرجوع إليه مع توفر كل شروطه، وإلا فالمنع أولى، والابتعاد عنه أحوط.
——————-
الهوامش
* أستاذ باحث، متخصص في تاريخ التصوف المغربي، ابن أحمد.
1 – نشر هذا المقال بمجلة المجلس العلمي المحلي بسطات ضمن عددها العشرين لسنة 2008.
2 – الغرياني، الصادق عبد الرحمن، الغلو في الدين، دار السلامة للطباعة والنشر، القاهرة، 1422 هـ/ 2001 م، ص 146-147.
3 – ا لكلاباذي، التعرف لمذهب أصل التصوف، دار صادر، بيروت، ط 1، 1422 هـ/2001 م، ص 120.
4 – الغرياني، مرجع سابق، ص 147.
5 – ابن الحاج ، المدخل …. ، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى، 1415 هـ/1995 م، ج 3 ، ص 71.
6 – ابن الحاج، المدخل…، مصدر سابق، ج 3، ص 72.
7 – نفســـه، ج 3، ص 73.
8 – نفســـه، ج 3، ص 77.
9 – نفســه ، ج 3، ص 73-74.
10 – نفســه، ج 3، ص 74.
11 – نفســه، ج 3، ص 75.
12 – نفســه، ج 3، ص 88-89.
13 – نفســه، ج 3، ص 95.
14 – نفســه، ج 3، ص 99.
15 – نفســه، ج 3، ص 78.
16 – نفســه، ج 3، ص 82.
17 – نفســه، ج 3، ص 76.
18 – نفســــه، ج 3، ص 96.
19 – نفســــه، ج 3، ص 96 –97.
20 – نفســــه، ج 3، ص 74.
21 – منها أن يكون في مكان لا يطلع عليهم غيرهم، وأن يكون بغير أجرة، وأن لا يكون بين أحد ممن يحضره شنآن، وأن لا يحضره أحد من أبناء الدنيا، وأن لا يحضره شاب إلى غير ذلك.(ج 3.ص 74).
22 – نفســـه، ج 3، ص 74.
23 – نفســـه، ج 3، ص 83.
24 – انظر ج 3، ص 85 من كتاب المدخل.
25 – أحمد زروق، عدة المريد الصادق، تحقبق ودراسة: إدريس عزوزي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالرباط، مطبعة فضالة المحمدية، 1419 هـ/ 1998 م، ص 571.
26 – المصدر نفسه، ص 571.
27 – أحمد زروق، عدة المريد الصادق، مصدر سابق، ص 471.
28 – نفســه، ص 475.
29 – أحمد زروق، قواعد التصوف، تحقيق: عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية بيروت، 1424هـ/2003م، قاعدة 138، ص91.
30 – المصدر نفسه، قاعدة 136، ص 90.
31- أحمد زروق، قواعد التصوف، مصدر سابق، قاعدة 130، ص 88.
32 – نفســـه، قاعدة 141 ، ص 93.
33 – نفســـه، قاعدة 142 ، ص 93.
34 – نفســـه، قاعدة 135 ، ص 89.
35 – نفســــه، قاعدة 131، ص 88.
36 – الحسن اليوسي، الرسائل، تحقبق ودراسة: فاطمة خليل القبلي، دار الثقافة، مطبعة النجاح الجديدة، دون تاريخ، ج 2، ص 430.
37 – نفســه، ج 2، ص 411.
38 – نفســه، ج 2، ص 411.
39 – نفســه، ج 2، ص 430.
40 – نفســه، ج 2، ص 431.
41 – نفســه، ج 2، ص 432.
42 – نفســه، ج 2 ، ص 432.
43 – نفســه، ج 2، ص 433.
44 – نفســـه، ج 2، ص 433.
45 – نفســه، ج 2، ص 433.
46 – نفســـه، ج 2، ص 435.
47 – الإحالة نفسها.
48 – نفســـه، ج 2، ص 434.
49 – نفســـه، ج 2، ص 435.
50 – الغرياني، الصادق عبد الرحمان، الغلو في الدين، مصدر سابق، ص (146-147).
51 – هو قول ابن الصلاح نقله عبد المجيد خيالي في تحقيقه لكتاب ” النصيحة الكافية ” لأحمد زروق في الصفحة 71. هامش 5.
52 – الألوسي، روح المعاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، ج 21، ص 75.