آداب الإنفاق في سبيل الله

الحمد لله العلي الأعلى، خلق فسوى، وقدر فهدى، وشرع لعباده ما فيه خيرهم وسعادتهم دنيا وأخرى، ودعاهم إلى الترابط فيما بينهم حتى يتحقق نفعهم، وتجتمع كلمتهم على العروة الوثقى،

نحمده تعالى ونشكره على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وفضله الذي لا يستقصى، أمر عباده بالإنفاق ابتغاء مرضاته، واستجلابا للمزيد من رزقه، القائل: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)،
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دعا عباده للإنفاق في سبيله شكرا وتعبدا، فقال تعالى: (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير)،
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المصطفى الأمين، كان جوادا بالخير، سباقا إلى البذل والعطاء حاثا أتباعه المسلمين على الإنفاق في أوجه البر، القائل: “مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا”، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته والتابعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين،
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، في الأسبوعين الماضيين تكلمنا عن فضيلة الإنفاق في سبيل الله، وبيننا أن ديننا الإسلامي العظيم حث المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله، توسعة على الفقراء والأيامى والأرامل والمساكين وذوي الحاجات من إخواننا وأخواتنا المؤمنين، كما بيننا أن صحابة رسولنا الكريم المقتدين بسيد المرسلينن فهموا عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن في أموالهم والزائد عن حاجاتهم الأساسية حق معلوم للسائل والمحروم، كما بيننا فضائل الإنفاق في سبيل الله، واليوم بإذن الله تعالى  نتناول جانبا آخر وهو ما يتعلق  بآداب المنفق في سبيل الله، فنقول وبالله التوفيق: اعلم أخي المتصدق، أنك في عملك هذا تضع يدك في يد الله تعالى، ترجو أن يذخر المولى جل وعلى عملك لتجده نافعا، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وأن الإنفاق في سبيل الله عبادة، ولها آداب يجب أن تتوفر فيها لكي تؤتي ثمارها المرجوة منها.
وأعظم هذه الآداب الإخلاص، الذي لا يُقبل عمل المرء بدونه، فهو أحد شرطي قبول العمل، فبدونه يكون العمل هباءً منثورًا، قال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)، والمتصدق إذا كانت نيته صالحة قُبلت صدقته، وإذا كانت مشوبة بالرياء ردت عليه فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجه وما كان لغير الله يرد على صاحبه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “قَالَ رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّه”.
ومن أداب المنفق أيضا أَنْ لاَ يُتْبَعَ نفقته بِالمَنِّ وَالأَذَى، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى”، وقال تعالى: “قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى)، وقال صلى الله عليه وسلم: “ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّةُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ”. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: “لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ وَلَا عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ”، وهذا المنان مثل المرائى الذى يظهر للناس أنه يريد وجه الله وإنما قصد مدح الناس له وشهرته بالصفات الجميلة؛ ليشكر بين الناس أو يقال: إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه وهو لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولهذا ضرب الله أروع مثال حيث مثل المرائي في نفقته كمثل من يزرع زرعه على صخرة ملساء عليها تراب فجاءها المطر من السماء فمحا هذا التراب وأجلى الزرع، وتركها ملساء كما كانت، قال تعالى: (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)،فكذا المرائى والمنان يمحو الله عنهما ثواب أعمالهما يوم القيامة وينزع بركته منه.
ومن آداب المنفق أيضا، أيها الإخوة المؤمنون، أَنْ يَكُونَ إنفاقه مِنْ مَالٍ طَيِّبٍ، قال تعالى: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)، وقال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا”، قال الإمام البخارى: لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا يقبل إلا من كسب طيب.
ومن آداب المنفق أيضا، أن يِسْرَعُ فِي إِخْرَاجِ نفقته، قال الله تعالى: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)، قال صلى الله عليه وسلم: “تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا يَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالْأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا”. وعن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فَقُلْتُ أَوْ قِيلَ لَهُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: “كُنْتُ خَلَّفْتُ فِي الْبَيْتِ تِبْرا مِنْ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ”، قال ابن بطال: إن الخير ينبغى أن يبادر به فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والموت لا يؤمن والتسويف غير محمود، زاد غيره وهو أخلص للذمة وأنقى للحاجة وأبعد من المطل المذموم وأرضى للرب وأمحى للذنب، وقال الإمام أحمد: التسويف له آفات.
جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

الخطبة الثانية
فيا أيها الإخوة المنفقون في سبيل الله، لا ينتظر أحدكم حتى يكون أغنى الناس لينفق، بل أنفق ولو من القليل الذي تملكه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ )، وقال صلى الله عليه وسلم: “اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ”، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “جاء رجل إلى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله  أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَالَ صلى الله عليه وسلم “أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ”.
ومن آداب المنفق أيضا، أن يكون عمله سِرًّا، قال تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً)، والآية ظاهرة فى تفضيل صدقة السر ولكن ذهب الجمهور  إلى أنها نزلت في صدقة التطوع، ونقل الطبري وغيره الإجماع على أن الإعلان فى صدقة الفرض أفضل من الإخفاء، والإسرار فى صدقة التطوع أفضل من الإعلان. فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ”. قال الله تعالى: “(إن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير).

الدعاء…

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *