معنى الحب في الله
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا،
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين،
وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،
أما بعد، فيا عباد الله،
أخرج الإمام البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار”، ويقول أيضا فيما رواه أبو داود: “من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان”.
أيها الإخوة الكرام، إن للإنسان في هذه الحياة حاجات يود قضاءها، ومطالب يرجو نوالها، ومصالح يتمنى نجاحها، وله أيضاً ميول ورغبات وشهوات يحاول إرضاءها وإشباعها والتمتع بها، وكل من ساعده على قضاء حاجته أحبه، ومن وافقه على هواه مال إليه، ومن خالفه في مصلحته، أو صادمه في أهوائه كرهه وأبغضه، فالحب والبغض من طبيعة الإنسان، ومن صفاته المتأصلة فيه، لا مفر منهما، ولا عاصم عنهما، ولن يخلو إنسان من حب أو بغض.
وإن الناظر في الكثير من العلاقات الجامعة بين الأفراد والجماعات في مجتمعنا يجدها مبنية على المصالح الشخصية المحدودة أو المحبة من أجل غرض دنيوي أو بقصد التباهي بصحبة فلان أو علان، أو علاقة من أجل جمع حطام الدنيا الزائل، أو علاقة من أجل تلبية نداء شهوة عابرة أو نفس جامحة، أو علاقة من أجل قرابة دموية، وقل أن تجد في الناس من يحب زيدا أو عمروا من الناس في الله مخلصا في ذلك لله، ومن أراد التأكد من هذا الأمر فليرجع على سبيل المثال إلى الأسماء المحفوظة في ذاكرة هاتفه المحمول أو مذكرته الشخصية، وليسأل نفسه بعد هذا كله، هذا السؤال الوجيه، كم واحد في هؤلاء تربطك به محبة في الله؟. من خلال هذه الخطبة أيها الإخوة والأخوات سنقف على معنى الحب في الله والجزاء الذي خصه الله للمتحابين فيه، وكيف أطر الإسلام الحنيف هذا الجانب؟ وكيف كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في تجسيد المحبة في الله؟.
والمراد بالحب في الله أي لأجله وبسببه، لا لغرض آخر كميل أو إحسان أي تحب المرء في حق الله ومن أجل الله ولوجه الله خالصاً، فالحب ليس كلمة تقال، وإنما هو واقع يعيشه المحب لحبيبه، نصح وإرشاد، بذل وعطاء، تضحية وإيثار، تفقد ودعاء، إنها معانٍ عظيمة تظهر على المتحابين، والحب في المجتمع الإسلامي يقوم على الإخلاص لله، لا رياء ولا نفاق، ولا مصالح دنيوية تربط بين هؤلاء، إنه الإخلاص لله وحده لا شريك له، والحق أن الحب إذا شابته أغراض فإنه ينتهي، ولله ذر من قال: “وكل علاقة لا تكون لله فإلى زوال منتهاها”.
ولهذا لما كان هذا العمل عظيماً كان الجزاء عليه كبيراً من الرحيم الرحمن، ففي الحديث الصحيح المتفق عليه في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله، ذكر منهم: “رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه”، ويقول الله عز وجل في الحديث القدسي فيما رواه الطبراني: “وجبت محبتي للذين يتحابون ويتجالسون ويتزاورون ويتبادلون في”، وأما في الآخرة، فإن المجتمعين على محبة الله يغبطهم الأنبياء والشهداء لهذا النعيم الذي هم فيه، أخرج ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله عباداً ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء والشهداء” قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: “هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس”، ثم قرأ: “أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ”، وكن على يقين أن علاقتك مع أخيك في الله على محبة الله هي النافعة لك يوم القيامة، يقول سبحانه وتعالى: الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ”.
أيها الإخوة الكرام، إن من أفضل الأعمال أن يحب الرجل الرجل للإيمان والعرفان لا لحظ نفساني كإحسان، وأن يكرهه للفسوق والعصيان لا لإيذائه له، والحاصل أن لا تكون معاملته مع الخلق إلا للّه، فأنت تحب لله وتبغض في الله، تحب المؤمنين الصالحين، وتبغض المفسدين، تحب أولياء الله، وتعادي من يعاديهم، تحب من أحب الله ولو خالف آراءك وتبغض من يبغضه الله ولو وافقك أحياناً.
فهكذا يتسلط الحب والبغض على النفس، فتصدر الأعمال والأقوال تبعاً لهما، يصدر عن الحب الائتلاف والمودة والتعاون والرحمة، فتسعد الجماعات والأمم والأفراد، ويصدر عن البغض القطيعة والهجران والتفرقة والاختلاف والخذلان والقسوة والشدة، فتفرق الجماعة وتفسد الأمم، وكثيراً ما يسير الإنسان وراء هواه في حب الناس وبغضهم، ويحكم أغراضه في الرضا عنهم أو كرههم، ولا يوجه حبه وبغضه في وجه الحق والدين والعقل، لهذا كله أيها الإخوة والأخوات وضع الإسلام ميزاناً للحب والبغض، وأقام المجتمع الإسلامي على المحبة والوئام بعد أن كان الناس أعداء في شحناء وبغضاء وخصام، وقد ظهر هذا الحب العظيم في المحبة التي غرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، تلك المحبة التي عجزت الدنيا أن تأتي بمثلها إلا في الإسلام وبالإسلام، لقد وصلت المحبة بينهم أن يعرض الرجل التنازل عن إحدى زوجتيه بطلاقها حتى يتزوجها أخوه المهاجر. وبين الإسلام الوسائل التي تقوي هذا الحب، وتزيده، أخرج مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم! أفشوا السلام بينكم”، وقديماً قيل: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فيا عباد الله، أخرج أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فمر رجل به فقال: يا رسول الله، إني أحب هذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أأعلمته”؟ قال: لا، قال: “أعلمه”. فلحقه، فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له، وروى الإمام مسلم أن رجلا زار أخا له في قرية فأرصد الله له ملكا على مدرجته فقال: أين تريد؟ قال: أخا لي في هذه القرية فقال: هل له عليك من نعمة تربها – أي تقوم بإصلاحها، وتنهض إليه بسبب ذلك-؟ قال: لا إلا أني أحبه في الله قال: فإني رسول الله إليك أن الله أحبك كما أحببته.
وأخرج الطبراني: بإسناده عن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا أنا بفتى براق الثنايا طويل الصمت، وإذ الناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، وقلت: إني والله لأحبك لله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، قال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، قال فأخذ بحبوة ردائي، فجبذني إليه، وقال: أبشر؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “قال الله: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ”.
بعد أن سمعتم هذا، فهلا أعلم بعضنا بعضاً إن كان يحبه لله حتى يحظى بهذا الأجر، إن بعضاً منا يحب أخاه في الله لكنه يتحرج من ذلك خشية أن يلقى صدوداً أو غير ذلك، لكن السلف رضوان الله عليهم كانوا لا يتحرجون من ذلك، بل يعلمون من أحبوه بهذا الحب حتى ينالوا الأجر من الله، وفي ذلك توكيد لهذا الحب وإعلام للغير به حتى لا يكون هذا الحب من طرف واحد.
وأختم بما ذكر عن أم الدرداء أنها قالت: كان لأبي الدرداء ستون وثلاثمائة خليل في الله يدعو لهم في الصلاة، فقلت له في ذلك، فقال: إنه ليس رجل يدعو لأخيه في الغيب إلا وكل الله به ملكين يقولان: ولك بمثل، أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة؟، وكان إذا رأى مسلما قد أذنب ذنبا يأخذ بيديه إلى الله ولا يسلمه للشيطان فيجعله ييأس من رحمة الله –جل وعلا، فعن أبي قلابة أن أبا الدرداء مر على رجل قد أصاب ذنبا فكانوا يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب –بئر- ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله عز وجل الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: لا، إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي.
أيها الإخوة الكرام، إنه يحسن بنا أن يكون لنا خلانا وأحبابا في الله على عدد خلان أبي الدرداء، ويجدر بنا ألا نكره ونبغض الذين ابتلاهم الله بالذنوب والخطايا، وإنما ينبغي أن نأخذ بأيديهم كما يفعل أبو الدرداء وندعو لهم من كل قلوبنا أن ينتشلهم إلى رحابه، وحري بنا ألا نبغض الأشخاص لمجرد ذنب ارتكبوه وإنما نبغض أعمالهم والحمد لله رب العالمين.