الهجرة النبوية -1-
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،
أما بعد، فياعباد الله يقول الله تعالى في كتابه الكريم :”وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”، ويقول عز وجل :” إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.
أيها الإخوة الكرام، كنت وعدتكم في خطبة سابقة بالتطرق لموضوع الهجرة النبوية التي تخلد الأمة الإسلامية ذكراها في شهر محرم الحرام من كل سنة، واخترت التوقف عند بعض المشاهد المهمة التي استوقفتني في قصة الهجرة الشريفة، لنأخذ منها عظيم الدروس وأبلغ العبر، وفي التذكير بذلك تدارس لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي غفلنا عنها، وجهلنا عنه صلى الله عليه وسلم وعن وأصحابه رضوان الله عليهم الشيء الكثير النافع.
أيها الإخوة الكرام، بداية ينبغي أن تعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه وكفروا به، واشتد أذاهم عليه وعلى أصحابه طيلة مقامه بمكة، بدأ يفكر فيمن ينصره ويحميه وينشر دعوته، فكان يغتنم مواسم الحج كل عام ليبلغ القبائل بدعوته قبيلة قبيلة، وكان يتبعه كفار قريش من ورائه لينسفوا مقالته أمام القبائل، يتزعمهم في ذلك عمه أبو لهب وبعض صناديد قريش، وكان ممن آمن به وصدقه بل وبايعه على الإيمان والنصرة سكان المدينة المنورة، الأنصار رضي الله عنهم، الذين بايعوه ثلاث مرات في العقبة، وأسلم جميعهم قبل الهجرة، ولم يبق فيهم مشرك.
أيها الإخوة الكرام، إن أول مشهد يستحق الوقوف عنده في الهجرة النبوية هو محبة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم وحرصه على صحبته والتضحية من أجله، جاء في صحاح السنة وما رواه علماء السيرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما وجد المسلمين قد تتابعوا مهاجرين إلى المدينة، جاء يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الآخر في الهجرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:( على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي ) فقال أبو بكر 🙁 وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي ؟ ) قال :(نعم ) فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده، وأخذ يتعهدهما بالرعاية أربعة أشهر.
وثاني مشهد هو عداء الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى درجة حرصهم على تصفيته، حيث إنه في هذه الأثناء رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صارت له شيعة وأصحابا غيرهم بغير بلدهم، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وخافوا أن يكون قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة ( وهي دار قصي ابن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها )، يتشاورون فيما يصنعون بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمع رأيهم أخيراً على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً جلداً، ثم يعطى كل منهم سيفاً صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، كي لا تقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعاً، وضربوا لذلك ميعاد يوم معلوم، وكان عددهم حوالي إحدى عشر رجلا، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالهجرة، وينهاه أن ينام في مضجعه تلك الليلة، قائلا: “لاتبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه”. وهو مشهد ثالث يبين العناية والرعاية والحماية الربانية لرسوله صلى الله عليه وسلم.
أما المشهد الرابع فيتجلى في حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التخطيط لتفاصيل الأمور المهمة، ويتجلى ذلك في قول عائشة رضي الله عنها فيما يروي البخاري: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في حر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً، في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر 🙁 فداً له أبي وأمي، والله ما جاء في هذه الساعة إلا لأمر ) قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ( أخرج من عندك ) فقال أبي بكر 🙁 إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر: الصحبة يارسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 🙁 نعم ) فقال أبو بكر فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحث جهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، وانتطقت بالآخر فبذلك سميت ذات النطاقين، وهذا درس آخر حيث شاركت النساء في هذا الحدث الكبير مشاركة فعالة.
وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأمره أن يتخلف بعده بمكة ريثما يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، إذ لم يكن أحد من أهل مكة له شيء يخشى عليه إلا استودعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من صدقه وأمانته، وهذا مشهد يبين أن الكفار لم يكن لهم مشكل مع شخص رسول الله، وإنما كانت مشكلتهم مع الدين الذي جاء به، حيث منعهم استكبارهم على الاعتراف بالحق.
وفي المشهد الموالي يظهر أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه لم يغفلا عن أصغر الترتيبات، حيث أمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمّع لهما ما يقوله الناس عنهما في بياض النهار، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون معه من أخبار، وأمر عامر بن فهيرة ( مولاه) أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى إلى غار ثور ليطعما من ألبانها، وأمر أسماء بنته أن تأتيهما من الطعام بما يصلحهما في كل مساء.
وفي هذا المشهد الذي سأذكره لكم، تظهر حذاقة وذكاء وحنكة السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم، روى ابن إسحاق والإمام أحمد بسندهما عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه: خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم ، قالت وانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت : قلت كلا يا أبت ، إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً ، قالت: فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده، فقلت ياأبت ضع يدك على هذا المال، فقالت: فوضع يده عليه، قال: لابأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكت الشيخ بذلك، انظروا رحمكم الله إلى هذا التصرف الجميل الذكي، الذي يحتوي المشاكل ويجنب القلاقل ويحول دون وقوع الأسوء داخل الأسرة الواحدة.أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد فياعباد الله، وتتوالى المشاهد المليئة بالدروس والعبر والعظات، التي إن توقفنا عندها وتعلمنا منها لن نواجه أية مشكلة في حياتنا، فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغم حماية الله له وعصمته له من الناس، يأخذ بالأسباب ويتحرى في ذلك ويعتمد على الله، حيث لما كانت عتمة تلك الليلة التي هاجر فيها النبي صلى الله عليه وسلم، اجتمع المشركون على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتربصون به ليقتلوه، ولكنه عليه الصلاة والسلام خرج من بينهم وقد ألقى الله عليهم سنة من النوم، بعد أن ترك علياً رضي الله عنه في مكانه نائماً على فراشه، وطمأنه بأنه لن يصل إليه أي مكروه، وقال له: نم على فراشي وتسبح ببردي فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.
وكذلك كان، فقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم واخترق صفوفهم وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رؤوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم فلا يرونه، وهو يتلو:”وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لايبصرون”، والمهم هنا أنهم بقوا ينتظرون وينظرون من صير الباب حتى يعرفوا النائم، فقام علي من الفراش، فسقط في أيديهم، وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا علم لي به، فأول مافعلوه بهذا الصدد أنهم ضربوا عليا وسحبوه إلى الكعبة وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما، وكذلك فعل أبو جهل مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها عندما سألها عن أبيها فأنكرت معرفة مكان وجوده، حيث لطمها في خدها لطمة طرح منها قرطها.
من هنا يظهر أيضا تلكم التضحيات الجسام التي قدمها هؤلاء الشباب في سبيل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الدين الإسلامي، حيث ظلوا ينكرون معرفة أي شيء عن الرسول وصاحبه رغم مشاركتهم في تفاصيل التفاصيل، وهذا يجعلنا نتساءل اليوم عن الخدمة الحقيقية التي يمكن أن يقدمها كل واحد منا للدين الإسلامي، اللهم عرفنا بسيرة نبيك عليه السلام وبسيرة أصحابه الأعلام، عليهم الرضى والرضوان، وانفعنا بها، وزدنا محبة فيهم واقتف بنا أثرهم، وأنلنا رضاك ياأرحم الراحمين يارب العالمين.والحمد لله رب العالمين.
الدعاء.