الهجرة النبوية -2-

 

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،
أما بعد، فياعباد الله سنتابع بحول الله تعالى في خطبة هذا اليوم، تلكم الأحداث المهمة ذات الدروس والعبر البليغة والمواعظ المؤثرة من حدث الهجرة الشريفة.
أيها الإخوة الكرام، وصلنا في الخطبة الماضية إلى مشهد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر إلى غار ثور ليقيما فيه- وهو غار يوجد في جبل شامخ وعر الطريق، صعب المرتقى، ذا أحجار كثيرة- بعد أن خرجا من باب خلفي لدار أبي بكر، وسلكا الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، لأنهم يعلمون أن الطريق الذي ستتجه له الأنظار هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل بل كان يمشي في الطريق على أطراف قدميه، كي يخفي أثره، فحفيت قدماه، وأيا ما كان، فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهى به إلى الغار، فدخل أبو بكر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمس الغار، لينظر أفيه سبع أو حيّة، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسد بها، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:مالك ياأبا بكر؟ قال لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب مايجده، في هذا المشهد يظهر مدى محبة سيدنا أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدى استعداده للتضحية من أجله، كما نستفيد كذلك جواز الرقية الشرعية.
فأقاما في الغار ثلاثة أيام، وهذا يبين مدى العناء والتعب الذي لاقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في هذه الرحلة الشاقة، وكان يبيت عندهما عبد الله ابن أبي بكر يخبرهما بأخبار مكة، ثم يدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت بها، وكان عامر بن فهيرة يروح عليهما بقطيعه من الغنم، فإذا خرج من عندهما عبد الله، تبع عامر أثره بالغنم كي لا يظهر لقدميه أثر، أما المشركون فقد انطلقوا – بعد أن علموا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم – ينتشرون في طريق المدينة يفتشون عنه في كل المظان، حتى وصلوا إلى غار ثور، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أقدام المشركين تخفق من حولهم، فأخذ الروع أبا بكر وهمس يحدث النبي صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، فأجابه عليه الصلاة والسلام :”يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما”، فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يحن لأحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار ولم يخطر ببال واحد منهم أن يتساءل عما يكون بداخله، ولما انقطع الطلب عنهما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، بعد أن جاءهما عبد الله ابن أرقط وهو من المشركين، كانا قد استأجراه ليدلهما على الطرق الخفية إلى المدينة بعد أن اطمأنا إليه، وواعداه مع الراحلتين عند الغار، فسارا متبعين طريق الساحل بإرشاد من عبد الله بن أرقط، وكان قد جعل مشركوا مكة لكل من أتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه ديّة كل منهما، أي مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، وهذا مشهد عجيب مليء بالدروس والعبر.
أيها الإخوة الكرام، روى الإمام البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، لايمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكانا بيدي، ينام عليه، وبسطت عليه فروة وقلت: نم يارسول الله، وأنا أنفض لك ماحولك، فنام، وخرجت أنفض ماحوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت له: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم قلت أفتحلب؟ قال: نعم، فأخذ شاة فقلت انفض الضرع من التراب والشعر والقذى، فحلب في كعب كثبة من لبن، ومعي كثبة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم، يرتوي منها، مايشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين اسيقظ، فصببت من الماء على لبن حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يارسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن الرحيل؟ قلت: بلى قال فارتحلنا، تأملوا في هذه الخدمة الصادقة من قبل سيدنا أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان من دأب أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ردفا للنبي صلى اله عليه وسلم، وكان شيخا يعرف، ونبي الله شاب لايعرف، فيلقى الرجل أبابكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني سبيل الخير.
وذات يوم، بينما كان جماعة من بني مدلج في مجلس لهم، وبينهم سراقة بن جعشم، إذ أقبل إليهم رجل منهم فقال: إني قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل، أراها محمداً وأصحابه، فعرف سراقة أنهم هم، ولكنه أراد أن يثني عزم غيره عن الطلب، فقال له: إنك قد رأيت فلاناً وفلانا، انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم، ثم لبث في المجلس ساعة، وقام فركب فرسه ثم سار حتى دنا من رسول الله، فعثرت به فرسه فخرّ عنها، ثم ركبها ثانية وسار حتى صار يسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت قائمتا فرس سراقة في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخر عنها ثم زجرها حتى نهضت، فلم تكد تخرج قدميها حتى سطع لأثرهما غبار ارتفع في السماء مثل الدخان، فعلم سراقة أنه ممنوع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وداخله رعب عظيم، فناداهما بالأمان، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه حتى وصل إليهم، فاعتذر إليه وسأله أن يستغفر له، ثم عرض عليهما الزاد و المتاع، فقالا: لا حاجة لنا، ولكن عمّ عنا الخبر، فقال كفيتم ثم عاد سراقة أدراجه إلى مكة وهو يصرف أنظار الناس عن الرسول ومن معه بما يراه من القول، وهكذا انطلق إليهما في الصباح جاهداً في قتلهما، وعاد في المساء يحرسهما ويصرف الناس عنهما. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم

الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد فياعباد الله،
بعد ذلك مر الرسول صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك حتى مر بخيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزة-تجالس الرجال- جلدة بمعنى قوية، تحتبي وتقعد بفناء الخيمة، ثم تطعم وتسقي من مر بها، فسألاها هل عندها شيء؟ فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى والشاء عازب، وكانت سنة شهباء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة فقال: ماهذه الشاة ياأم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، فقال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت نعم بأبي أنت وأمي، إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها وسمى الله ودعا، فتفاجت عليه ودرت، فدعا بإناء لها يربض الرهط، فحلب فيه، حتى علته الرغوة، فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا ثم شرب وحلب فيه ثانيا حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها فارتحلوا، فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا، فلما رأى اللبن عجب، فقال: من أين لك هذا؟ والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله إنه مر بنا رجل مبارك.
وفي الطريق لقي النبي صلى الله عليه وسلم أبا بريدة، وكان رئيس قومه، خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رجاء أن يفوز بالمكافأة الكبيرة التي كان قد أعلن عنها قريش، ولما واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمه أسلم مكانه مع سبعين رجلا من قومه، ثم نزع عمامته وعقدها برمحه، فاتخذها راية، وفي الطريق أيضا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وهو في ركب المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضاء، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء بعد عشرة أيام من خروجه من مكة، لهذه الخطبة تتمة لاحقة بحول الله تعالى، والحمد لله رب العالمين

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *