زاوية آل البصير ودورها في درء أسباب الخلاف والاختلاف عبر التاريخ
ينحدر آل البصير من الشرفاء الرقيبات1، الذين ينتهي نسبهم إلى الشيخ الشهير سيدي أحمد الرقيبي2 دفين الرقيبة بوادي أدرى3 في اكتاوة ناحية زاكورة، المنحدر بدوره من الشيخ الشهير مولاي عبد السلام بن مشيش
الإدريسي الحسني دفين جبل العلم من بلاد غمارة. وهذا يعني أن آل البصير عشيرة شريفة النسب، وأنهم يمثلون أحد فروع القبائل الرقيبية الشهيرة المنتشرة “… في موريتانيا والساقية الحمراء، وآيت باعمران، وبني ملال، وسطات، وخريبكة، ومكناس”4، ثم في غيرها من البقاع داخل المغرب وخارجه. أما زاويتهم ببني عياط بتادلة فتعتبر أكبر وأشهر زاوية في هذا القطر بعد زاويتي الصومعة وأبي الجعد5.
وإذا كانت الزوايا والطرق الصوفية بالمغرب قد لعبت دورا مهما في تاريخ هذا البلد، حيث كانت عنصرا فاعلا في خلق اللُّحمة والوحدة بين مختلف فئاته، وأداة لتثبيت الأمن والاستقرار في عدد من جهاته من خلال نبذ كل أسباب الفرقة والخلاف بين أبنائه، فإن التاريخ يشهد لزاوية آل البصير ولرجالاتها بمثل هذا وزيادة، فهذه الزاوية ليست بِدْعًا من سابقاتها، ورجالها ليسوا أقل شأنا من غيرهم، كيف لا وقد توارثوا قيم الوحدة ونبذ الخلاف أبا عن جد وكابرا عن كابر. ثم كيف لا وجدهم الأكبر مولاي عبد السلام بن مشيش هو مبدع فكرة الوحدة الصوفية في المغرب، وهي الفكرة التي جسَّدها في تربيته الروحية لشيخ واحد وهو الشيخ أبي الحسن الشاذلي، الذي أخرج هذه الرؤية من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، فأبدع طفرة التوحد في المشهد الصوفي المغربي نحلة وأصولا، حتى إن معظم الطرق الصوفية التي جاءت بعد الشاذلية أعلنت تشبثها بهذه الطريقة، واعتمدت منهجها الصوفي، وبلغ التوحد الصوفي ذروته مع هذا الشيخ، حتى قيل: “إن الطريقة الشاذلية نسخت سائر الطرق كما نسخت الملة المحمدية سائر الملل”6.
وإذا، فالرؤية الوحدوية وقيم التسامح ونبذ الخلاف ليست بالشيء الجديد على شيوخ زاوية آل البصير، وإنما رضع هؤلاء لِبانَها، وارتشفوا قِيَمَها خلفًا عن سلف، وترجمها كل واحد منهم بالفعل على أرض الواقع، فإبراهيم البصير الجد الذي تلقَّبتْ الأسرة بِلقبه كان صيتُه يضرب الآفاق في سوس والصحراء، وبلاد شنقيط والسودان الغربي، وكان كل رؤساء القبائل “يقدرونه قدرَه، ويُحْضِرُونَهُ مجامعهم، فنفعهم كثيرا في إحقاق الحق وإزهاق الباطل بكشفه العجيب”7. كما كانت جميع القبائل السوسية والصحراوية تخدمه8، خاصة قبائل تكنة، التي “يرجع له الفضل في إخماد الحروب وإطفاء النائرات بينها”9. وكذلك كان أبوه الفقير قاسم الشهير بكَيسوم الذي عُرِف بزهده وصلاحه وكثرة سياحته، حيث كان يقوم سنويا بالسياحة في كل أرجاء الصحراء لتفقد تلاميذه وأتباعه، والسعي في أعمال الخير، ومن ثَمَّ لم يكن “يُعرف عند أهل الصحراء ووادي نون إلا أنه رجل يسعى في الصلح وإطفاء النائرات، والبث في النوازل والمنازعات، وترك الخلافات والمناوشات”10.
وهذا يعني أن الشيخ إبراهيم البصير الجد تلقى تلك القيم القائمة على درء كل أسباب الخلاف والاختلاف من أبيه، وحرص على تطبيقها في كل أرض تُؤْويه، وهو ما تجسد بالفعل عند دخوله إلى سوس التي كانت شهرتُه قد سبقته إليها نظرا لصيته الذائع في ربوع الصحراء، إذ قامت منازعات ومشادات بين أرباب القبائل فيمن يكون له شرفُ استقباله في قبيلته، لكن نزوعه الوحدوي وكياستَه احْتَوت الأمر، حيث أسس زاويته في الأخصاص باعتبارها مكانا وسطا بين القبائل السوسية11، فكان لهذه المعلمة الدينية أثرُها البارز في خلق اللحمة بين القبائل ومحو آثار الخلافات بينها، خصوصا وأنها “صارت ملجأ الخائفين، ومكانا للمقاضاة، إذ أن أغلب القبائل كانت تهرع إليها لفض المنازعات، والبث في الخصومات، لأن الحرب في هذه القبائل كانت لا تضع أوزارها، لكن بفضل هذا الشيخ حلت الأخوةُ مكانَ العداوة بينهم”12.
ولم تقف إسهامات هذه العشيرة عند هذا الرجل ووالده، بل زادت واتسعت مع أبنائه وأحفاده. وقد اشتهر من بعده على الخصوص ابنه مبارك البصير الذي خلفه على رأس زاويته، “… فكان له مقامُ والدِه من قوة روحانية، ومحبةِ الناس له واعتقادِهم فيه، وكانت له هالةٌ كبرى واسعةً جدا في كل سوس وفي الصحراء”13. واشتهر أيضا بسعيه في الصلح بين المتقاتلين، وأصحاب الثأر وأرباب النزاع، حتى “… عرف عند العامة أن من يردُّه خائبا في شفاعة يصاب عن قريب”14، فكانت هذه السلطة الربانية سببا في انصياع العامة والخاصة له في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. ونظرا لمكانته الكبيرة بين القبائل، وتعبيرا من هذه الأخيرة عن رضاها وخضوعها لطاعته، تَمَّ عقدُ اتفاقية من قِبَل أعيان الأفخاذ المجاورة للزاوية البصيرية خاصة أيت علي، يشهدون فيها بتحكيم زاوية الشيخ مبارك البصير في جميع أمورهم الدينية والدنيوية15، فكان لذلك دور كبير في فض الكثير من النزاعات والخلافات بين القبائل، وفي إخماد العديد من الفتن والقلائل، مما خلق جوا من التعايش والتوحد والسلم، وقضى على مظاهر التفرقة والتشرذم والظلم.
وقد خلف هذا الشيخ ولدين، وهما محمد البصير16، الذي كان له فضل كبير في تدعيم مكانة آل البصير ونشر قيمهم الوحدوية، سواء في سوس أم الصحراء أم في جنوبها أم في حوض السنغال، أما ثانيهما فهو إبراهيم البصير مؤسس زاوية بني عياط، الذي نقل هذه المبادئ إلى باقي ربوع المغرب.
فأما محمد البصير فهو أشهر من أن يُعَرَّف به في الصحراء وسوس وتادلة وموريتانيا والسنغال ومالي، هذه المناطق التي “جابها طولا وعرضا زائرا للصالحين والعلماء العاملين، فكثر أتباعه وتلاميذه، وأضحى ينتقل في جمع غفير”17، إلى درجة أن أهل القبائل التي كان يصِلُ إليها لم يكونوا يأذَنُون له بتوديعهم “لاحترامهم الشديد له ومحبتهم البالغة لجنابه”18، بل أكدت المصادر أن كل القبائل كانت تخدمه وتقدره حقَّ قدره19، حتى تلك التي عادت عشيرتَه منذ سنوات طويلة، فصار يتحرك في الصحاري والقبائل كيفما شاء دون أن يعترض سبيله أحد20. وسبب كل هذه الشهرة هو اشتهاره بالصلاح من جهة، ومن جهة ثانية دوره الإصلاحي الذي كان يقوم به، حيث كان في كل تلك السياحات يُرْشِد الناسَ إلى الخير، ويصالح بين المتنازعين، ويغرِس بذور المحبة والتآخي، رغبةً منه في نبذ الخلافات وتكريس قيم الوحدة والتعايش السلمي بين الأفراد والقبائل.
وأما الابن الثاني، إبراهيم البصير مؤسس هذه الزاوية العامرة (زاوية بني عياط بتادلة)، فلم يكن أقل شأنا من أخيه، بل فاقت شهرته جميع أبناء هذا الفخذ، ولذلك نعتبره بحق واسطة العقد في هذه العشيرة الطيبة، لا جرم وأنه بفضل هذا الشيخ اتسعت شهرة آل البصير، وانتشرت مبادئهم وقيمهم الوحدوية في اتجاهي الشمال والجنوب والشرق والغرب. ولعل هذا ما جعل المؤرخ محمد المختار السوسي يقول: “إنه إن كان لكل آل البصير شفوفٌ في أعصارهم فإن له [إبراهيم البصير] عليهم شفوفا كبيرا بما تأتى له من شهرة كبيرة، متسعةِ الهالة، مستفيضةِ الأحاديث، فياضةِ الأخلاق والكرم “21.
فبالإضافة إلى سوس والصحراء وجنوب الصحراء، ذاع صيت هذا الشيخ في كل من مراكش والرحامنة، وبني مسكين، والشاوية، والزيدانية، وتادلة، وبني ملال، وبني عياط، وغيرها من المناطق المغربية، وفي كل هذه المناطق لم يَحِدْ سيدي إبراهيم عن عادة أسلافه، إذ عُرِف بسعيه الحثيث في حل المشاكل الاجتماعية للقبائل والأفراد، فكان بدوره “يدعو المتخاصمين للصلح فيما بينهم، ويأمر برد المظالم والتبعات، والتسامح والتناصح”22، حتى اشتهر بين الناس بعادة “المصالحة بين المتقاتلين”23.
وتشير المصادر إلى أن إبراهيم البصير نزل ببني عياط، فوجد طبول الحرب تدق في جميع قبائلها ” لأن الحرب لم تكن تهدأ بينهم”24. وما من يوم يمر ” حتى تسمعَ أخبار القتل والسلب والنهب والغدر بما لا يوصف، فَقَدِم عليهم الشيخ إبراهيم البصير … وساقه القدرُ إليهم ليكون درعا واقيا لهم من شر بعضهم البعض، فسعى في الصلح بينهم، حتى صار الجميع يحتمي به عند اشتداد الملمات”25.
ولعل أخطر الحروب التي عمل إبراهيم البصير على إخمادها، تلك التي كانت بين القبائل العياطية وبين قائدها البشير البوهالي، حيث قاسى كثيرا في المصالحة بينهم26، فكان “كلما نشبت حرب بينهما يذهب ببقرة من عنده، فيجري بالصلح، لا يفتر عن ذلك حتى هدأت الأحوال”27.
ويبدو من سيرة هذا الشيخ أنه سخر كل ما في الزاوية للمصالحة بين القبائل وإحلال السلم والاستقرار بالمنطقة، ذلك أن أغلب القبائل هناك كانت تتناحر فيما بينها. وفي هذا الصدد يقول الشيخ إبراهيم البصير: ” كانت مناوشات كثيرة تقع من حين لآخر بين أطراف القبيلة، فأسرع في إخماد فتيل الفتنة بمن معي من الفقراء والطلبة، حاملا بقرات أرمي بها العار عليهم لكي لا يستفحل الأمر، فيأتي الله بالفرج ويصلح حال القرية، وما إن ينتهي الأمر هنا حتى تقوم الفتنة بين أهل قرية أخرى، فأفعل ما فعلته مع سابقاتها، فيكون بإذن الله الفتح والنصر، وأبعث العطايا لله في سبيل إصلاح ذات البين وإحياء صلة الرحم”28.
وتحتفظ المصادر بالكثير من أخباره في هذا الباب، من ذلك صلحه بين القبيلتين الجبليتين آيت بوجمعة وآيت آشوا، بعدما “… كانت تدور بينهما حرب ضروس من شهور”29. حيث قصدهما بمن معه من الفقراء والطلبة، ” … وما إن نزل بينهما حتى قدم عليه هؤلاء وهؤلاء، ولم يتخلف منهم أحد حتى رؤساء الفتنة، فأذعن الكل للصلح، وأمسكوا عليه العهد”30. لكن لم تمر إلا أيام حتى عادت الحرب بينهما أشد من سابقتها، فخاف الضعفاء من الفريقين على أنفسهم وأهليهم ومتاعهم، فقصدوا زاوية آل البصير لعل شيخها ينقدهم ببركته، وفي هذا الصدد يقول محمد المصطفى بصير: “لما قام النزاع بين فخذي قبيلة آيت وايو، جاء آيت أشو بمواشيهم لكي لا تغير عليهم آيت بوجمعة، وقدم هؤلاء بمواشيهم خوفا عليها من هجوم أيت أشو، فاجتمع الكل في الزاوية وضاقت رحابها بالدواب والأبقار والأغنام، وتكلف الفقراء والطلبة برعيها وسقيها وعلفها مدة، والشيخ يسعى في كل يوم بينهم حتى رد المياه إلى مجاريها”31.
ومن ذلك أيضا ما ذكره صاحب الاغتباط عن صلحه بين قبيلتي آيت أملول وآيت بغلى. حيث قال: “حضرت معه وهو يصلح بين فخذي آيت ملول وآيت بغلي من بني عياط، ونحن نسير نسمع صوت الطلقات النارية بينهم، وما إن سمعوا هيللة الفقراء حتى هرع إليه الفريقان نازلين من أبراجهم بأسلحتهم يستغيثون به، فأخذ الشيخ يذكرهم بأواصر القرابة والأخوة بينهم، يخاطبهم بلهجتهم البربرية، ويحذرهم من عاقبة الدنيا والآخرة، فأحدقت العيون تذرف الدموع، وحينها أمرهم بالسلام على بعضهم البعض، فتعانقوا يشهقون مجهشين من البكاء، فأصلح الله بينهما وأصلح حالهما”32.
وعلاوة على الصلح بين القبائل، كان الشيخ إبراهيم البصير يفعل الأمرَ نفسَه مع الأفراد، فكان يصالح بين المتخاصمين في النزاعات الثنائية حول “… بعض العقارات، أو حول مشاكل تتعلق بالزواج والطلاق، وتوزيع التركات”33.
ومن جهة أخرى كان الشيخ إبراهيم البصير أمام تحد ثان فرضته ظروف الاستعمار، ويتمثل في ضرورة نبذ كل الخلافات والاختلافات حول القضية الوطنية الأولى وهي حب الوطن والدفاع عنه، والالتفات حول العرش العلوي المجيد، وعدم الخضوع لإغراءات المستعمر، ويشهد التاريخ أن هذا الشيخ ظل من الرعايا الأوفياء للأسرة العلوية، رغم كل الإغراءات التي حاول المستعمر استمالته بها، حيث كان “يدعو إلى السمع والطاعة للسلطان، ونبذ الفُرْقَة، وعدم طاعة أصحاب الرياسات الوهمية الذين فرقوا الأمة قددا”34. ولم يكتف بنفسه، وإنما كان أيضا يدعو أتباعه الذين انخرطوا في سلك الوظائف الحكومية زمن الاستعمار إلى رفض كل القرارات التي تمس وحدة البلاد، أو تصدرها الحكومة الفرنسية دون إشراك السلطان، نقول هذا استنادا لما ذكره مؤلف الاغتباط من أن قواد تادلة، وأيت عتاب، وبني مسكين، لجأوا إليه في زاويته يستشيرونه في أمرهم لما “… شدَّدَت عليهم فرنسا الخناق ليكونوا مساعدين لها في إقرار الظهير البربري”35، فأجابهم بقوله: “قولوا لهم إن كان الظهير الذي بأيدينا من عند السلطان فنحن رعاياه، يَعْزِل أو يَتْرُك، وإن كان من عندِكم، فليس لنا ظهير منكم”36. وأكد الشيخ محمد المصطفى بصير أن الجميع امتثل لأمره، حتى إن الفرنسيين “عزلوهم جميعا، وعيَّنُوا مكانهم من هم طِيعة لهم، يحركونهم كيف شاؤوا ومتى شاؤوا”37.
ويعني هذا مما يعنيه، ولاشك، أن سيدي إبراهيم البصير، كان من خدام ملوك الدولة العلوية الشريفة، ومن دعاة الوحدة الترابية لوطنهم، ولذلك ظلت علاقة زاويته بالشرفاء العلويين منذ تأسيسها حتى يومنا هذا “علاقة ولاء وطاعة “38. ولا أدلَّ على ذلك من الظهائر الملكية الشريفة التي أنعم بها ملوك الدولة على هذه الزاوية العامرة39.
وبعد موته، تبنى ابنه الشيخ الحاج عبد الله بصير النهجَ نفسَه، إذ على الرغم من معاصرة مشْيَخَتِه للوجود الفرنسي بالمغرب، إلا أنه لم ينس رسالته الصوفية المتمثلة في جمع كلمة المسلمين، ونبذ كل أسباب الفرقة والخلاف، حيث تذكر الروايات أنه كان مثل أبيه يسعى في الصلح بين المتخاصمين أفرادا وجماعات وقبائل، كما أجمعت المصادر أنه كان من الوطنيين الكبار الذين تشبثوا بوحدة مغربهم، وبتمسكهم بأهذاب العرش العلوي المجيد، فقد كان على خلاف كبير مع حكومة الاستعمار، الأمر الذي عرضه “…لعدة مضايقات من طرف السلطات الفرنسية”40، حتى إنها “حاولت في كثير من الأحيان اغتياله بعدما فضح عددا من الخونة الذين كانوا يتعاونون مع المستعمرين”41. ولمَّا لم تستطع قتلَه، ضيَّقت عليه الخناق، “… فلم يعد يتحرك إلا برخص محدودة زمانيا ومكانيا”42. لكن ذلك لم يثْنِه عن عزمه الأكيد في الدفاع عن وطنه، “… وما انتفاضة خريبكة ووادي زم (اسماعلة وبني خيران، وأولاد إبراهيم)، إلا دليل قاطع على صدق وطنيته، فجل من ثار ذلك اليوم هم من تلامذته الذين تلقنوا الورد الدرقاوي على يده الشريفة، حتى استرخصوا الأنفس والمهج، لأن الذكر الصادق النابع من صميم القلب يجعل صاحبه يسترخص كل شيء”43.
ونظرا لتوجهه الوحدوي، عمل بنو عمومته من الرقيبات القاطنين في المناطق الوسطى من المغرب، على توليته منصب النقابة على جمعيتهم المسماة “جمعية الشرفاء الرقيبات” التي كانت تتخذ من الدار البيضاء مقرا لها، كي يرعاهم وينظر في جميع مصالحم وأحوالهم وأمورهم، لِمَا عرف به من صلاح، وحسن خلق، ودين وعلم، وسعي دائم إلى توحيد الناس على كلمة الحق ونبذ الفرقة والخلاف بينهم44.
وبعد وفاة هذا الشيخ المناظل، تولى من بعده أخوه الشيخ سيدي محمد الحبيب، فسلك سبيل والده في الدعوة إلى الله تعالى، إذ بمجرد توليه المشيخة أخذ يسيح مع الفقراء في جميع الجهات، “… فساح وجال في ربوع المغرب، داعيا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، في سمْتِ عالم رباني، وزُهْدِ ناسِكٍ متعبد”45، يزرع المحبة بين الناس، ويؤلف بين القلوب، ويصالح بين الأفراد والجماعات، ويشهد له التاريخ بمجموعة من المبادرات الإصحلاحية، سواء بين الأفراد أو الأسر أو القبائل، وسأذكر هنا مثال واحدا على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وهو النزاع الذي كان قد وقع بين بعض قبائل الخلالطة بعد الانتخابات التشريعية في السبعينيات، والذي وصل درجة قطع الكلام والرحم بينهم، بل بلغ بهم الأمر إلى أن يتخذ كل منهم مسجده ومصلاه الخاص، وأن يمنع منه غيرهم، وعى الرغم من تدخل مجموعة من الجهات لحل هذا النزاع، فإنه استعصى على الجميع، وبقي قائما إلى حين تدخل الشيخ سيدي محمد الحبيب، حيث قام هذا الأخير بجمع طلبة الزاوية وفقرائها، واشترى بقرة، ثم توجه بالجميع نحو الخلالطة، فجمعهم وذبح البقرة عندهم، وصالح بينهم، فكانت تلك المبادرة سببا في رجوع التآخي والمحبة بين أفراد تلك القبيلة، ولذلك لا نستغرب اليوم إذا رأينا أن أغلب أفراد تلك القبيلة هم من فقراء وخدام هذه الزاوية، كما لا نستغرب وجود أحد فروعها بين ظهرانهم.
فهذه إذن كانت حال الشيخ، فديدنه هو إطفاء النائرات، وطمس بؤر النزاع والخلاف أينما كانت، وهي حال لزم سمتها وعاش عليها إلى أن أجاب داعي الله، فانتقلت مشيخة الزاوية إلى أخيه الشيخ سيدي محمد المصطفى فحافظ بدوره على سيرة أسلافه، بل عرفت الزاوية في عهده “ما لم يعهد لها من الزيادة في المدد والعدد”46، وتكاثر عدد فروعها داخل المغرب وخارجه، و”اتسعت في عهده رقعة الطريقة، وذاع صيتها وانتشر إلى خارج الوطن، فأتباعه اليوم في كل من فرنسا، وإيطاليا، وكندا، وألمانيا، والمشرق العربي، وإفريقيا47. ويظهر الجميع رغم اختلاف ألسنتهم وألوانهم على قلب رجل واحد، وطبعا لم يكن لهذا الشيخ أن يصل بزاويته وطريقته إلى هذه المكانة الراقية لولا توجهه الوحدوي وسعيه الحثيث إلى إزالة كل أسباب النزاع والفرقة والخلاف بين المسلمين محليا وجهويا ودوليا. وسأختم حديثي عن هذا الشيخ الجليل بذكر مثال على توجهه الصلحي الإصلاحي، وهو طبعا ليس المثال الوحيد، وإنما هو لإعطاء صورة فقط للمبادرات التي كان يقوم بها هذا الشيخ من أجل زرع قيم السلم والأخوة والتعايش بين الناس، وترجع فصول هذا المثال الحدث إلى أواخر الثمانينات، حيث حصل صراع ونزاع كبير بين أفراد عائلة شهيرة في ورديغة بسبب إرث يقدر بمئات الهكتارات من الأراضي48، كان من نتائجه قطع الرحم بين أفراد العائلة الكبيرة، وبوار عدد من تلك الأراضي بسبب عدم استغلالها، فما كان من الشيخ عندما انتهى إلى سمعه الخبر إلا أن قام بما كان أسلافه يفعلون من قبل، إذ اشترى بقرة، وحمل طلبة الزاوية وفقراءها وتوجه نحو العائلة، وذبح البقرة في أرضها، ثم صالح بين الجميع، وقسم بينهم الميراث، فأنهى صراعا دام لسنين، ولم يغفل عن تلك العائلة، بل ظل يتعهدها حتى نشأت بينها وبين الزاوية علاقة روحية، تطورت فيما بعد لتصبح علاقة أخوية دموية. فهذا المثال يبين أن الشيخ سيدي محمد المصطفى كان نعم الشيخ الصالح المصلح، قضى حياته داعيا إلى التآخي والتعايش والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يحدث الخلاف والفرقة بين المسلمين.
وها هي الزاوية البصيرية اليوم في عهد شيخها الجديد مولاي إسماعيل بصير، لم تعد مكتفية بالبحث عن زرع قيم الوحدة والتسامح، والتآخي والتصالح داخل المغرب وحسب، وإنما رفعت عقيرتها عاليا لتنشد تحقيق هذه القيم السامية على مستوى الأمة العربية والإسلامية جمعاء49. ولا أدل على ذلك من هذه الندوات العلمية الدولية التي رأت النور في عهد هذا الشيخ الشاب المجدد، أما أدوارها المحلية المتمثلة في خلق أجواء الأمن والاستقرار في المنطقة، وإطفاء بؤر النزاع والخلاف بين الأفراد والأسر والقبائل، فلم تتخل عنها إلى يومنا هذا، وقد حضرت شخصيا غير ما مرة لجلسات صلح بين أفراد وقبائل وأسر في هذه الزاوية، وكان آخرها حضوري في جلسة التآخي والصلح التي أشرفت عليها الزاوية بين قبيلتين من قبائل بني عياط حول آلة رفع الماء من البئر الموجود في القبيلة، والتي شرفني الشيخ مولاي إسماعيل بصير بتقديمي لإلقاء كلمة بمناسبتها.
والحاصل أن زاوية آل البصير بتادلة لعبت دورا متميزا في استتباب الأمن والاستقرار في مناطق نفوذها بعد أن عملت على إزالة العديد من بدور الفتن والخلافات والتفرقة، وقطع أسباب الخلافات والنزاعات، حيث عمل شيوخها على إخماد الفتن والحروب لعدة سنوات “إلى أن استتب الأمن وعم السلام بينهم فرادى وجماعات”50. فاكتسبت الزاوية ورجالاتها من جراء ذلك تقدير العام والخاص، ورفع الجميع قبعته احتراما لها بعدما استطاعت أن تحقق بتأثيرها وسلطتها الروحية ما لم يُتَمَكَّن من تحقيقه بكل الوسائل الأخرى.
الملحق رقم 1: وثيقة تحكيـم زاوية الشيخ سيدي مبارك البصير بالأخصاص
الملحق رقم 2: وثيقة تنقيب الشيخ الحاج عبد الله بصير على الشرفاء الرقيبات بالرحامنة والدار البيضاء
الجيلالي كريم أستاذ باحث،
متخصص في تاريخ التصوف المغربي.
——————–
الهوامش