النظافة وحب الوطن
د/عبد الهادي السبيوي
الحمد لله الذي جعل الإسلام طُهْرة للقلوب، ومحوًا للذنوب، ونظافة للأبدان، أحمده سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبًا، وأشكره على عموم نِعَمه، وما يَسَّره من أسباب النظافة الحسية والمعنوية.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في محكم كتابه: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جاء بالحنيفية السَّمْحة، وبخيرَيِ الدنيا والآخرة، وشرَع نظافة الظاهر؛ لتُوافِق أمره بنظافة الباطن، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الأطهار، المنفذين لهدي نبيهم ظاهرًا وباطنًا.
أما بعد:
فأيها الناس، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، والتزموا بأوامر دينكم، واقتفوا دائمًا سيرة نبيكم؛ لتفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عشرٌ من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونَتْف الإبْط، وحَلْق العانة، وانتقاص الماء – يعني: الاستنجاء – قال الراوي: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة))؛ رواه مسلم.
إخوة الإسلام: لقد اهتمّ الإسلام وبالغ في أمر النظافة أكثر من غيره من الديانات؛ ولم تكن النظافة والطهارة يومًا ضربًا من الترف أو الكماليات في الإسلام، بل إنها إحدى الضروريات المهمة التي لا يستغنى عنها، كُلِّف بها الجميع، رجالاً ونساءً، كبارًا وصغارًا، فهي أمر لا يستغني عنه أحد، وهي فطرة فطر الله الناس عليها، فالنفوس تنفر من ضدها، ويؤذيها منظر القذارة والاتساخ، فضلاً عن الروائح الكريهة التي يتأذى بها الناس والملائكة الكرام؛ ففي الحديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ -وَقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ- فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ”.
فهذه فطرة النفوس السوية، تتأذى من الروائح الكريهة، والهيئات الكريهة، والقذارة المستهجنة، من أجل ذلك حثت الشريعة على التنظف المستمر، والتطيب بالريح العاطر، والتزين قدر ما يستطيع الإنسان إلى ذلك سبيلاً، قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً طَهُورًا}. وقال سبحانه: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}.
النّظافة هي الصّورة الّتي بنى الله الحياة على أساسها، فلقد خلق الكون جميلاً، طاهرا،ً نظيفاً، ينظِّف بعضه بعضاً، بما أودعه فيه من قوانين وأسباب… فنظام الكون كلِّه مبنيّ على النّظافة، فالرّياح تكنس، والمطر يغسل، والأرض تدفن، وهكذا… حتى غريزة الحيوان مفطورة على النظافة والتنظّف.
والنفس الإنسانيّة مجبولةٌ على طَبْع النظافة، وهي تحمل فطرةً بيضاء نقيّة، ولقد خلق الله الإنسان صافياً طاهراً من الذّنوب والآثام، وطاهر العقل والقلب والروح، طاهر المشاعر والأحاسيس والمنطلقات…
ولذلك، فإن التّشريعات والتعاليم أكدت ضرورة محافظة الإنسان على النظافة في كلّ شيء، في عقله وقلبه وروحه وأفكاره ونواياه، وكل ما يشكّله ويكوِّنه أو يصدر عنه…
ولم يكتف الإسلام بدعوة الإنسان إلى الحفاظ على الطهارة الفكرية والروحية والإيمانية، بل استكمل الصورة على المستوى المادي والشكلي: في الجسد والملبس والبيت والشارع والبيئة المحيطة… بحيث تكون النظافة في كلّ ما حولنا، لتبقى الصورة جميلةً، راقيةً، حضارية، وليكون الإنسان محميّاً من كلّ سلبيات القذارة.
والله سبحانه وتعالى يحبُّ التوّابين والمتطهّرين من عباده.. وهذا ما ذكرته الآية الكريمة في سورة البقرة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}. وفي هذا، تأكيد التلازم بين نظافة الشّكل وطهارة المضمون.
ومن هنا، نستطيع التأكيد أن ديننا بُني على النّظافة.. ففي الحديث عن رسول الله(ص): “تنظَّفوا بكلّ ما استطعتم، فإنّ الله تعالى بنى الإسلام على النّظافة، ولن يدخل الجنّة إلا كلّ نظيف”.
احبتي في الله
نظرا لأهميّة النّظافة، فقد أدخلتها الشَّريعة في صلب أحكامها، عندما أكَّدت أهميَّة الطَّهارة، لتكون النظافة هي النتيجة، فالطّهارة هي الطّريق إلى النظافة، فنحن نطهّر لننظف، وقد ورد في الحديث: “الطّهارة شطرٌ للإيمان”.. إذاً الطّهارة والإيمان لا ينفصلان. والكلّ يعرف أن “لا صلاة إلا بطهور”؛ طهارة البدن وطهارة الثياب وطهارة مكان السجود… وكذلك الصيام، لا بدّ فيه من الغسل عندما توجد أسبابه. وفي الحجّ، إذا تنجّس ثوب الإحرام، لا بدّ من المبادرة إلى تطهيره… ولا يصحّ طوافٌ إلا بطهارة البدن والثياب، وبوضوء أو غسل. حتى الميّت أيّها الأحبّة، الذي سيَبْلى، دعانا الله إلى أن يكون بدنه وكفنه طاهرين نظيفين.. نقيّين..فأيّ دعوةٍ إلى النظافة والطهارة هي أبلغ من هذه، وأيّ دينٍ هو أكثر رقيّاً من هذا الدين؟
وزيادةً في ربط النّظافة بالإيمان والعبادة، حرص الإسلام على عدم جواز تنجيس المساجد، وإذا تنجَّس أيّ مكانٍ في المسجد، فلا بدَّ من المبادرة إلى تطهيره.
امَّا على المستوى الشّخصيّ، فقد أكَّد الإسلام الحرص على الطّهارة الدّائمة للبدن، عبر الوضوء والدَّعوة إلى الغسل وعبر إزالة النّجاسات، وليس كيفما كان، بل ضمن نظامٍ دقيقٍ ومفصَّل. وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): “الطّاهر النّائم كالصّائم القائم”. وورد أيضاً: “طهِّروا هذه الأجساد طهّركم الله؛ فإنّه ليس من عبدٍ يبيت طاهراً إلا بات معه ملكٌ لا ينقلب ساعةً من اللّيل إلا قال: اللّهمّ اغفر لعبدك فإنّه بات طاهراً”.
والنّظافة، أيّها الأحبّة، لا تقتصر على الفرد فحسب، إنّما لها تأثير في من حولنا، وبالتالي فمن حقّ الّذين نجالسهم، أن لا نؤذيهم برائحة العرق الّذي يفرزه الجسد او بلباس متسخ تفوح منه روائح كريهة او تشمئز منه الأنفس .
أمّا نظافة الفم والأسنان، فقد أعطاها الإسلام حيِّزاً كبيراً، عندما أكَّد استحباب تنظيف الأسنان بالسّواك، فقد ورد عن رسول الله(ص): “ما زال جبريل يوصي بالسّواك، حتّى ظننت أنّه سيجعله فريضة”. وهكذا تمتدّ رحلة النّظافة إلى الثّياب، ونلتقي بأبرزها، عندما دعا الله رسوله(ص) إلى أن ينذر قومه ويقف في وجه الرّجس.. فخاطبه قائلاً: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. ولذا، عندما كان رسول الله(ص) يلتقي برجلٍ أشعث الشّعر، وسخ الثّياب، كان يقول له: “من الدّين المتعة وإظهار النّعمة”، وفي حديثٍ آخر: “ما على أحدكم إن وجد سعةً أن يتّخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي مهنته”.
والمساكن والبيوت أيضاً هي صورة الأفراد والمجتمعات، وكان الحرص عليها أن تكون هي أيضاً نظيفةً، وقد ورد في الحديث: “إنّ الله نظيف يحبّ النّظافة، كريم يحبّ الكرم، جواد يحبّ الجود، فنظِّفوا أفنيتكم”.
ولم يقف الإسلام عند هذا الحدّ، بل دعا إلى النَّظافة العامَّة، لتشمل الشَّوارع والطّرقات، والحدائق العامَّة وأماكن الجلوس فيها، وكذلك نظافة مياه الأنهار والبحار، والغابات… فقد ورد في الحديث: “الإيمان تسع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطّريق”.
أيّها الأحبَّة: هذا هو الإسلام الّذي جاء به رسول الله(ص)، الإسلام الّذي لم يجعل النَّظافة، كما لم يجعل الجمال، على هامش تشريعاته، فالله جميلٌ يحبُّ الجمال، والنّظافة جمالٌ بحدِّ ذاتها. وقد استطاع الإسلام منذ بزوغ فجره، أن يصيِّر المجتمع البدويّ الوسخ القذر، مجتمعاً يعتبر النَّظافة جزءاً أساسيّاً من تكوين شخصيّته الإيمانيّة، وجعل النّظافةَ أمراً تعبّدياً للفرد فهذا ما يريده ديننا العظيم. ولكن أيّها الأحبّة، هل هذا ما نريده؟ وهل هذا هو واقعنا؟
هل إنَّ الصّورة الّتي تنطبع في أذهاننا عن المجتمع الإسلاميّ، هي كذلك عندما ندخل المساجد، أو عندما نذهب إلى الحجّ، أو عندما نتجوَّل في الأماكن العامَّة للمسلمين من أسواق ومنتزهات وشوارع وازقة ؟ هل صحيح أنّه ينطبق علينا شعار “النّظافة من الإيمان”؟!
هذا الشّعار قد يسمعه الجميع ويطلقونه، ولكن مع الأسف، لا يعيشونه، ولا يُحدِث لديهم تغييراً جذريّاً. وهنا سؤالٌ مفصليّ نطرحه على أنفسنا، وقد نجد الحلّ عند الإجابة عنه: هل يشعر كلّ فردٍ منّا بأنَّ النَّظافة هي مسؤوليَّته الشّرعيَّة، وأنها واجبه كما هي بقيّة الواجبات، أو فريضة كبقيّة الفرائض، ويتحمّل مسؤوليتها أمام الله؟ هل إنّ كلّ فردٍ مستعدّ لأن يقف موقف المسؤوليّة أمام رسول الله(ص) الّذي أمر بالنّظافة والطّهارة والمظهر الحسن للفرد والمجتمع؟
أيّها الأحبّة..إنّ الشّعور بالمسؤوليّة هو الّذي يقول للّذي يريد أن يتخلّص من نفاياته وهو في سيّارته، أو من على شرفته، أو الّذي يرمي نفاياته كيفما كان وأينما كان: مهلاً، هل أنت حقّاً تتخلّص منها، أم تتخلّص منها لتعود إليك مجدّداً؟
المشكلة أيّها الأحبّة، هو هذا المفهوم الضيّق الّذي يعتبر أنّ البيت الّذي نملكه ، هو فقط ما نملك، وهو فقط ما نحن مسؤولون عنه. وللأسف، حتّى البيت المستأجَر، قد لا يتعاطى معه البعض بمسؤوليّة، أليس هذا مفهوماً ضيّقاً للحياة ولطريقة العيش ولما يريده الله منّا؟… فلقد خلق الله الكون، وجعلنا مسؤولين عنه، ومؤتمنين عليه، فهل نحن نحفظ هذه الأمانة حقّاً؟
فالمؤمن إذا غادر مكاناً تركه أنظف مما كان، ولكن المخجل أن نجد عكس ذلك في مجتمعاتنا، حتى في أمكنة العبادة.
إنّ ما نشاهده في الأسواق والشوارع نهاية كل يوم من تراكمٍ للنّفايات والازبال ، هو مشهدٌ يدمي القلوب، رغم أن وسائل النّظافة قد تكون متيسّرة، ولكنّ المشكلة أنّ الكثيرين لا يأبهون لذلك.
احبتي في الله
اعلموا رحمكم الله ان النّظافة قيمة لا تتجزّأ، تماماً كبقية القيم، ولا يوجد أيّ مبرّرٍ لأيّ فردٍ ولا لأيٍ مجتمعٍ لكي لا يكون نظيفاً. أيّها الأحبّة، ان الاستضعاف ليس عذراً، فأنت لا تحتاج إلى أيِّ إمكاناتٍ كي تمتنع عن رمي قارورةٍ هنا أو قارورةٍ هناك، أو رمي بقايا طعامك وأنت تسير على الطّريق أو فوق رمال الشاطئ بعد أن قضيت أنت واهلك أو أصدقائك يوما كاملا من الاستمتاع بالبحر وجماليته أو بالغابة او في منتزه ولا شأن للاستضعاف بتاتاً بهذا السّلوك، كما لا يمكن أن نعتبر غياب النّظام حجّة، فالنّظام يجب أن ينبع من ذاتك. ومن المفارقة، أن تجد الشّخص نظيفاً خارج بلاده احتراماً للقانون هناك، وخوفاً من العقاب، في حين أنه لا يأبه بإيمانه ولا بالنّتائج الّتي تترتّب على سلوكه في بلاده ، ومن المفارقات العجيبة أننا جميعا نطالب ببيئة نظيفة وأحياء نظيفة وشواطئ نظيفة وغابات نظيفة وأسواق نظيفة ولكننا لا نتوانى في رمي بقايا الطعام في الطرقات العامة وفي الشوارع والأزقة، ولا نتوانى في ترك الأزبال فوق رمال الشاطئ أو في المنتزهات والحدائق العامة .
أيّها الأحبَّة، فلنحوّل النَّظافة إلى سلوكٍ مجتمعيّ، حتَّى لا يشعر من ينادي بها بالغربة، أو كأنَّه يقوم بعملٍ خطأ، ولنترجم إماطة الأذى عن الطَّريق إلى عملٍ جماعيّ حضاريّ، تتكاتف من أجله الجهود عبر الوسائل الحديثة، وعبر تنظيم برامج النَّظافة وحملات التوعية الإعلامية حولها، والأهمّ عبر تفعيل دور الدَّولة والبلديَّات و القيام بمسؤوليتهما في المتابعة والمحاسبة. فلنتكاتف لنقدم القدوة للأجيال الصاعدة والصغار، الّذين قد تمحو صورة أحدٍ من أهلهم وهو يرمي ورقةً في الشّارع، أو يرمي عقب سيجارته، كلَّ ما يتعلّمونه في المدارس.
وأخيراً فلنبدأ، وليبدأ كلٌّ منَّا، ليتعوَّد أن لا يغادر مكانه في المسجد قبل أن يتأكَّد أنَّ مكانه نظيف. نعم، نحن لسنا أقلَّ شأناً من الدّول النَّظيفة، وبلادنا لا تقلُّ عن بلادهم، وعلينا أن نتحمل مسؤوليتنا عن هذه البلاد التي نسكنها، وأن نُدخل النّظافة بالسّلوك والقدوة في تربيتنا وتربية أولادنا، من خلال البرامج المدروسة، ومن خلال وسائل الإعلام، من خلال الجمعيّات واللّجان، ومن خلال القوانين والتّشريعات، وحتى من خلال العقوبات، “النّظافة من الإيمان”، فلنردِّدها ونطبِّقها، ونحن نعي جيّداً أن لا إيمان كاملاً بلا نظافة كاملة.ولنكن، أيّها الأحبّة، قدوة العالم في الخير والتَّقوى والسّلوك، وبهذا نُقبل عند الله، ونكون خير أمّةٍ أخرجت للنّاس، تعمل للخير وتدعو إليه. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله المتفرد بالملك والخلق والتدبير، يعطي ويمنع وهو على كل شيء قدير، له الحكم وله الأمر وهو العليم الخبير، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه وهو اللطيف القدير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها صادقًا من قلبه من أهوال يوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الشفاعة، ولا يدخل الجنة إلا من أطاعه، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: إن أغلى ما يملك المرء الدين والوطن، وما من إنسان إلا ويعتز بوطنه؛ لأنه مهد صباه ومدرج خطاه ومرتع طفولته، وملجأ كهولته، ومنبع ذكرياته، وموطن آبائه وأجداده، ومأوى أبنائه وأحفاده، حتى الحيوانات لا ترضى بغير وطنها بديلاً، ومن أجله تضحي بكل غالٍ ونفيس، والطيور تعيش في عشها في سعادة ولا ترضى بغيره ولو كان من حرير، والسمك يقطع آلاف الأميال متنقلاً عبر البحار والمحيطات ثم يعود إلى وطنه، وهذه النملة الصغيرة تخرج من بيتها ووطنها فتقطع الفيافي والقفار وتصعد على الصخور وتمشي على الرمال تبحث عن رزقها، ثم تعود إلى بيتها، بل إن بعض المخلوقات إذا تم نقلها عن موطنها الأصلي فإنها تموت، فالكل يحب وطنه، فإذا كانت هذه سنة الله في المخلوقات فقد جعلها الله في فطرة الإنسان، وإلا فما الذي يجعل الإنسان الذي يعيش في المناطق شديدة الحرارة، والتي قد تصل إلى ستين درجة فوق الصفر، وذلك الذي يعيش في القطب المتجمد الشمالي تحت البرد القارس، أو ذلك الذي يعيش في الغابات والأدغال يعاني من مخاطر الحياة كل يوم، ما الذي جعلهم يتحملون كل ذلك إلا حبهم لوطنهم وديارهم!! لذلك كان من الحقوق والواجبات الاجتماعية في الإسلام والتي غرسها في فطرة الإنسان حقوق الوطن والأرض التي يعيش فيها ويأكل من خيرها ويعبد الله تحت سمائها، وأول هذه الحقوق الحب الصادق لهذا الوطن.
أيها المؤمنون، عباد الله: لقد وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يُخاطب مكة المكرمة مودعًا لها وهي وطنه الذي أُخرج منه، فقد روي عن عبد الله بن عباسٍ -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكة: “ما أطيبكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ”. رواه الترمذي.قالها بلهجة حزينة مليئة أسفًا وحنينًا وحسرة وشوقًا، مخاطبًا إياها: “ما أطيبكِ من بلد”. ولولا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مُعلم البشرية، يُحب وطنه لما قال هذا القول الذي لو أدرك كلُّ إنسانٍ مسلمٍ معناه لرأينا حب الوطن يتجلى في أجمل صوره وأصدق معانيه، ولأصبح الوطن لفظًا تحبه القلوب، وتهواه الأفئدة، وتتحرك لذكره المشاعر.
إن ارتباط الإنسان بوطنه وبلده مسألة متأصلة في النفس، فهو مسقط الرأس، ومستقر الحياة، ومكان العبادة، ومحل المال والعرض، ومكان الشرف، على أرضه يحيا، ويعبد ربه، ومن خيراته يعيش، ومن مائه يرتوي، وكرامته من كرامته، وعزته من عزته، به يعرف، وعنه يدافع، والوطن نعمة من الله على الفرد والمجتمع، ومحبة الوطن طبيعة طبع الله النفوس عليها، ولا يخرج الإنسان من وطنه إلا إذا اضطرته أمور للخروج منه، كما حصل لنبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- عندما أخرجه الذين كفروا من مكة، قال تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]، وكما حدث لموسى -عليه السلام-؛ قال الله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً) [القصص: 29]، قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي: “قال علماؤنا: فلما قضى موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله وحن إلى وطنه، وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغوار.فالمسلم الحقيقي يكون وفيًّا أعظم ما يكون الوفاء لوطنه، محبًّا أشد ما يكون الحب له، مستعدًا للتضحية دائمًا في سبيله بنفسه ونفيسة، ،فحبه لوطنه حب طبيعي مفطور عليه، حب أجل وأسمى من أن ترتقي إليه شبهة أو شك، حب تدعو إليه الفطرة، وترحب به العقيدة، وتؤيده السنة، وتجمع عليه خيار الأمة. وحب الوطن يظهر في احترام أنظمته وقوانينه، وفي التشبث بكل ما يؤدي إلى وحدته وقوته، حب الوطن يظهر في المحافظة على منشآته ومنجزاته، وفي الاهتمام بنظافته وجماله، حب الوطن يظهر في إخلاص العامل في مصنعه، والموظف في إدارته، والمعلم في مدرسته، حب الوطن يظهر في إخلاص أصحاب المناصب والمسؤولين فيما تحت أيديهم من مسؤوليات وأمانات، حب الوطن يظهر في المحافظة على أمواله وثرواته، حب الوطن يظهر في تحقيق العدل ونشر الخير والقيام بمصالح العباد كلٌّ حسب مسؤوليته وموقعه، حب الوطن يظهر في المحافظة على أمنه واستقراره والدفاع عنه، حب الوطن يظهر بنشر القيم والأخلاق الفاضلة ونشر روح التسامح والمحبة والأخوة بين الجميع، وأن نحقق مبدأ الأخوة الإيمانية في نفوسنا، وأن ننبذ أسباب الفرقة والخلاف والتمزق، وأن نقيم شرع الله في واقع حياتنا وسلوكنا ومعاملاتنا، ففيه الضمان لحياة سعيدة وآخرة طيبة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
اللهم ألف على الخير قلوبنا، واجمع ما تفرق من أمرنا.وأصلح ذات بيننا. هذا؛ وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، ، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والظلَمة وسائر أعداء الملَّة والدين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ملك البلاد أمير المؤمنين محمد السادس لما تحب وترضى وخذ بناصيته للبر
والتقوى، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.اللهم كن له معينا ونصيرا وأعنه وانصره على أعدائه وأعداء المغرب
وأحفظه اللهم في ولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن وشد أزره بأخيـــــــه المولى رشيد وسائر الأسرة العلوية المجيدة وأيِّده بالحق وارزقه البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، وارحمنا يا أرحم الراحمين.اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك.
عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس: 85]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار [البقرة:201].سبحان ربك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.