حالة الناس بعد رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مصرف الشهور، ومقدر المقدور، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وهو عليم بذات الصدور، جعل لكل أجل كتابا، ولكل عمل حسابا، نحمده تعالى ونستغفره ونتوب إليه، ونشكره على نعمه الظاهرة والباطنة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الأولى والآخرة، له الخلق والأمر، وإليه المصير يوم الحشر، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، قضى حياته في الجهاد والعمل فما زال يعبد ربه حتى حضره الأجل، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كان كل دهرهم رمضان، فما كان دخوله يزيد من اجتهادهم، وما كان خروجه ينقص من أعمالهم، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، كنتم في شهر الصيام والقيام، شهر الخيرات والبركات والإنعام، تصومون النهار وتقومون من الليل وتتقربون إلى ربكم العزيز الغفار، طمعا في ثوابه وخوفا من عقابه، وامتثالا لأوامره واجتنابا لنواهيه، فانتهت تلكم الأيام، وقطعتم بها مرحلة من حياتكم، لن تعود إليكم، وإنما يبقى لكم ما أودعتموه فيها من خير أو شر، ستجدونه عند من لا يضيع أجر من أحسن عملا، فمن كان في شهر الصيام محسنا فليحمد الله على ذلك، وليبشر بعظيم الثواب وجزيل العطاء هنالك، ومن كان فيه مسيئا فليتب إلى الله توبة نصوحا، فإن الله يتوب على من تاب وآمن وعمل صالحا، وليحسن الختام فإن الأعمال بالخواتم. أخي المسلم، يا من بنيت حياتك على الإستقامة في شهر الصيام، دم على استقامتك بقية الشهور والأيام، ولا تهدم ما بنيت لنفسك بالعودة إلى المعاصي وارتكاب الآثام، فتهلك وتكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، واعلم أن من علامة قبول الحسنة إتباعها بالحسنة، وإن الرجوع إلى المعاصي بعد التوبة منها أعظم جرما وأشد إثما، وإن أمامكم ميزانا توزن فيه الحسنات والسيئات، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون. يا من أعتقه مولاه في رمضان، وطهر قلبه من الأمراض والأوزار إياك أن تعود إلى الموبقات المحرمات فتسقط في المهالك وتبوء بالخسران وسوء الدار. يا من ألفت حضور المساجد وعمارة بيوت الله بالطاعة والعبادة والأذكار، وأداء صلاة الجمعة والجماعة والتراويح والأوتار، واصل سعيك المبارك وأكثر خطواتك بالليل وأطراف النهار، ولا تقلل صلتك بالمساجد فتشارك المنافقين في أعمالهم، وتكون من أصحاب النار، الذين لا ياتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون، ولا تهجر الجمعة والجماعة وتنقطع عنهما نهائيا فيختم الله على قلبك وتصير من الغافلين، روى الإمام مسلم عن ابن عباس (ض) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين”. يا من تعودت تلاوة القران في شهر القرآن، وحضور مجالس الوعظ في رمضان، داوم على قراءته وحضور مجالسه ما وسعك الزمان، فإنه ربيع القلوب، ومزيل الكروب، وشفاء لما في الصدور، وهو روح من الله وهدى ونور مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، لا تقطع صلتك به، فإنه حجتك يوم القيامة، “يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون”. يا من كنت تقوم من الليل في الأيام الرمضانية، استمر على هذه المسيرة الطيبة الربانية، واجعل لك من قيام الليل نصيبا ولو كان قليلا، ترفع فيه حوائجك إلى ربك، وتبتل إليه تبتيلا، وتكون من الذين يمتثلون قول ربهم حين يقول: “ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا”. يا من ألفت الصيام في رمضان، امض في هذه العبادة الحميدة، فإن الصيام لا يزال مشروعا طوال العام، فهناك أيام حث على صيامها نبي الأمة محمد عليه الصلاة والسلام، منها ستة أيام من شوال، لقوله صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان ثم اتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر”، قال العلماء في شرح هذا الحديث: الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والأيام الستة بشهرين، فصم هذه الست في أول الشهر أو في وسطه أو في آخره، متتابعة أو متفرقة بشرط أن لا تعتقد أنها مؤكدة أو واجبة مفروضة، وإنما هي مستحبة لا غير، فمن صامها فله الأجر، ومن لم يصمها فلا شيء عليه، وعلى النساء أن يصمن الفرض قبل النافلة. ومن ذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، لقوله صلى الله عليه وسلم: “صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر يذهب وحر الصدر”، ومنها صيام عشر ذي الحجة وخصوصا يوم عرفة لغير الحاج، ومنها صيام العشر الأول من المحرم خصوصا العاشر منه، فعن أبي هريرة (ض) قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: “الصلاة في جوف الليل، قيل ثم أي الصيام أفضل بعد رمضان قال: شهر الله الذي تدعونه المحرم”. ومنها صيام الإثنين والخميس، كل هذه الأيام يستحب لك صيامها إن أردت زيادة الفضل والثواب والتقرب من ربك العزيز الوهاب، واقتداءا بنبيك الذي بعثه الله لإنقاذك من العذاب. يا من تعودت في رمضان بذل الصدقات والإحسان إلى الأرامل والفقراء والمساكين والأيتام، واصل إحسانك بقية الأيام، وتصدق فإن الله يجزي المتصدقين، وتحر في صدقتك ذوي الحاجات المتعففين عن ذل السؤال من الفقراء الذين لا يسألون الناس إلحافا، واعلم أن خزائن ربك ملآى لا تغيظها نفقة، ويده سحاء الليل والنهار، وأنه لا غنى بكم عنه طرفة عين، فليست حاجتكم إليه في رمضان فقط. أيها الإخوة المؤمنون، ما بال أقوام يقبلون في رمضان على الطاعة فإذا انسلخ رمضان تنكروا وتغيرت أحوالهم، لقد سئل بعض السلف عن مثل أولئك فقال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، لقد كانت تمتلئ بهم المساجد في الصلوات الخمس، وعندما ذهب رمضان اختفوا وانمحت آثارهم من المساجد، وقبعوا في بيوتهم، كأنهم استغنوا عن ربهم، أو كأن الواجبات سقطت عنهم، والمحرمات أبيحت لهم خارج رمضان، نعوذ بالله من كيد الشيطان ومن الضلال بعد الهدى، ومن العمى بعد البصيرة، ومن الكفر بعد الإيمان، يقول الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم”، جعلني الله وإياكم من الذين يشكرون النعمة بالطاعة، ويغتنمون الفرصة قبل أن تصير غصة، ولا يضيعون أوقاتهم بالإعراض والغفلة، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
فيا أيها المسلمون، اشكروا الله على ما هداكم إليه من الطاعة في رمضان، واسألوه القبول والعفو عن التقصير فيما سلف من الأيام، وواصلوا بقية دهركم بالأعمال الصالحة، والتجارة الرابحة التي تقدمونها بين أيديكم ليوم القرار، فإن رب الشهور واحد والجزاء عن الأعمال واقع وثابت وأكيد، يوم يتحقق الوعد وينجز الوعيد، “يوم يقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد، وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمان بالغيب وجاء بقلب منيب، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد”، ولا تكونوا كالذين يمسكون عن المعاصي في رمضان، فإذا انسلخ رمضان عادوا إلى ارتكاب المعاصي والآثام، أولئك الذين “بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار”، وإن بعض الناس ليحصل منهم بعد رمضان إسراف في الشهوات وإقبال على الملذات كأنهم بذلك يعلنون تضايقهم من رمضان، وفرحهم بانقضاء شهر المكرمات والغفران، أو كأنه عدو قد انتصروا عليه، وبدعة قد تخلصوا منها، بينما المشروع لكل مسلم عند فراغه من كل عبادة مشروعة، أن يكثر من الشكر والإستغفار، ورفع الأكف إلى الله الواحد القهار، لأن الشكر يستدعي المزيد والدعاء مخ العبادة، أيها المسلمون، إنه لا مانع من تناول الطيبات وفعل المباحات و إظهار الفرح والمسرات بعد الإنتهاء من فعل الواجبات، مع المحافظة على الآداب الإسلامية، وترك المحظورات ألا أخلاقية، وعدم الإسراف في النفقات لأنه عز وجل لا يحب المسرفين، وعلى المسلم أن يكثر بعد رمضان من الأعمال الصالحة بقلب خاشع ونية خالصة، وأن لا يزكي نفسه فقد كان الصحابة (ض) مع جلال ما يؤدون من صالح الأعمال يخافون أن ترد عليهم دعواتهم وأعمالهم، كما ذكر الله ذلك عنهم حين قال: “والذين يوتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون”. الدعاء