الجليس الصالح
بسم الله الرحمن الرحيم
الجليس الصالح
الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم كتابه المبين: “الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين”، نحمده تعالى ونشكره على أن مدح المتحابين فيه الذين لا تقوم الروابط فيما بينهم إلا على طاعته ومن أجل مرضاته، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحفظ عباده المؤمنين من قرناء السوء والجهالة، ومجالسة أهل الفسق والضلالة، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، ومصطفاه من خلقه وخليله، القائل في توجيهاته لأتباعه: “المرء على دين خليله”، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين “صدقوا ما عاهدوا الله عليه”، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، يقول رسول الله صلى الله عيله وسلم فيما رواه الشيخان عن ىأبي موسى الأشعري (َض): “إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك(بمعنى معطيك)، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منثنة”، هذا الحديث القيم أيها المسلمون مثل واضح يضربه النبي صلى الله عيله وسلم للصديق الصالح وصديق السوء، الذي لا بد للإنسان المدني بطبعه، الإجتماعي في حياته منه، فالصديق بالنسبة للإنسان كالدواء إن كان صالحا، وكالداء إن كان فاسدا، لذا يجب عليك أن تختار الصديق الذي تركن إليه، وتسترح لصحبته، وتطمئن لمعاشرته، فعن أبي هريرة (ض) قال: قال رسول الله صلى الله عيله وسلم: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل”، وقال تعالى ناهيا عباده: “ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون”، وقال أحد الحكماء: “إن صديقك من صدقك وأتاك من جهة عقلك لا من جهة هواك”، أختي المؤمنة أخي المؤمن، الصديق الحق هو الذي يرى لك مثل الذي يرى لنفسه، يرشدك وينصحك، وعلى طريق الخير يدلك ويعينك، وبالمعروف يأمرك وينصحك، وعن الشر ينهاك ويبعدك، ومن المهالك والمضار يقيك ويعصمك، يسمعك القول النافع، والحديث الصادق، والحكمة البالغة، ويعرفك نعم الله عليك، لتكون على بصيرة من أمرك، ويظهر لك عيوب نفسك حتي تعد العدة لإصلاح حالك، ويشغلك عما لا يعنيك وما لا فائدة فيه لتضييع وقتك، فإذا كان ذا شأن عظيم رفع قدرك، وأعلى منزلتك، وسد حاجتك، وأنزلك المنزلة اللائقة بك، وإن ذكرته أنت بالله تذكر ثواب الله وعذابه، وتجنب الموبقات خوفا من عقابه، واستغفر لذنبه، وامتنع عن الشر وهو ميال إليه، وفي هذا وأمثاله يقول المولى عز وجل: “لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نوتيه أجرا عظيما”، وفيه يقول الشاعر: عن المرء لا تسل وسل عن قرينه ** فكل قرين بالمقارن يقتدي، وليس في الجلساء من ينفع خيره ويضر شره كالأستاذ أو المعلم أو الواعظ، فهو إذا أجهد نفسه في تعليم أبنائه وتفهيم تلاميذه، وإصلاح فاسدهم، وتقويم اعوجاجهم، يطالبهم بالعمل، ويحثهم عليه، وينتظر من ظاهرهم ثمرة ما غرسه في باطنهم، ويشجعهم على فعله، يذكرهم إذا غفلوا، ويمهلهم إذا تعبوا، ولا يكلفهم من الأمور إلا ما يطيقون، ولا يخاطبهم إلا بقدر ما يعقلون، يعتني بهم حاضرين، ويرعاهم غائبين، ويحبهم محبة الأبوين، فإذا كان كذلك فهو الذي يستحق أن تجالسه وتصاحبه، وهو الذي شبهه صلى الله عيله وسلم بالأترجة طعمها لذيذ ورائحتها زكية، وهو كبائع المسك كما قال صلى الله عيله وسلم. أما إذا كان جليسك الصالح مثلك أو دونك فهو الذي ينبغي فيه أن يسد خلتك، ويغفر زلتك، ويقيل عثرتك، ويستر عورتك، وإذا اتجهت إلى الخير حثك عليه، ورغبك فيه، وبشرك بعاقبة المتقين، وأجر العاملين، الذين قال فيهم رب العالمين: “آولئك جزاءهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ونعم أجر العاملين”، فالهم ارزقنا الصحبة الصالحة، واجعل رفقاءنا حاملين للمسك هادين إلى سواء السبيل، جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أما بعد، أخي المسلم أختي المسلمة، صديقك الصالح من كان معك في السراء، وكان عونا لك في الضراء، إذا تكلمت سوءا أو فعلت قبيحا زجرك ومنعك، وحال بينك وبين شرور نفسك، وطهر قلبك من الخبث، ولسانك من الفحش، وعملك من الرياء والعبث، وقال لك: أعرض عن هذا واستغفر لذنبك إنك كنت من الخاطئين، واعلم أخي أن الصالح من إخوانك والطيب من قرنائك لا يمل قربك، ولا ينساك على بعدك، يسرك إذا حضرت بحديثه، ويرضيك بأفعاله، يشهد بك مجالس العلم، وحلق الذكر، وبيوت العبادة، ويزين لك الطاعة بالصلاة والصيام والحج والزكاة وكف الأذى واحتمال المشقة، وحسن الجوار، وجميل المعاشرة، ويقبح لك المعصية، ويذكرك بما يعود به الفساد من الويل والشقاء على العباد في عاجل الأمر وفي “يوم التناد، يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم، ومن يضلل الله فما له من هاد”، وهو الذي يضرب لك الأمثال بفلان الذي شقي بعد السعادة، وذل بعد العزة والسيادة، وافتقر بعد الغنى، ومرض بعد العافية، لأنه كان يصرف الأموال في الفساد، ويستعين بنعم الله على ظلم نفسه وظلم العباد، وكان صحيحا قويا وشابا فتيا، فشرب الخمروزنى، فاحترقت كبده بالخمر، وأصيب بالسيلان والسيدا أو الجذام بسبب الفاحشة وارتكاب الآثام، “ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم، إن في ذلك لآيات لأولي النهى”، وهكذا صديقك الصالح، فإنه ما يزال ينفعك ويرفعك، ويزجرك حتى يكون كبائع المسك وأنت المشتري، ولصلاحه وإخلاصه ومحبته فيك، لا يبيع لك إلا طيبا، ولا يعطيك إلا جيدا، ولا يأخذ منك إلا ثمنا قليلا مناسبا، وإن أبيت الشراء أو امتنعت عن العطاء، طيبك بيديه، وصب عليك العطرمن تلقاء نفسه، فلا تمر بشارع، ولا تسلك طريقا إلا وعبق منك الطيب، وأحبك البعيد والقريب، وملأت رائحة عطرك الأجواء والأنوف، فتعود إليه مشتريا، ولما عنده راغبا، وهذا مثل العلماء الذين لا بد أن تحفظ عنهم شيئا إذا تكلموا، فإن عملت بما سمعت فقد اشتريت منهم، وظهر عليك أثرهم، وإلا فقد أعجبك ما عندهم من العلم، وستعود إليهم لطلب ما ينفعك، ويعلي شأنك، ومثل العابد الذي تجد منه رائحة المسك ولا يعطيك منه شيئا، فإذا رأيت زهده وتقواه واستقامته في دينه ودنياه، اقتديت به، وعملت مثل عمله، وكانت لك فيه اسوة حسنة، وأولئك هم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم كما قال صلى الله عليه وسلم، فعن أنس ابن مالك (ض) قال: “إن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وما أعددت لها؟، فقال الأعرابي: حب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: “أنت مع من أحببت”، وقال صلى الله عليه وسلم: “الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا”، والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. الدعاء