حب الأوطان من الإيمان -2-

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، نحمده حمد الشاكرين الذاكرين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في محكم كتابه: “وهو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربي قريب مجيب”، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله جبل على حب بلاده ووطنه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم اللقاء به. أما بعد فيا أيها المؤمنون، في الجمعة ما قبل الماضية بدأنا الحديث عن حب الوطن، وأنه من مستلزمات الإيمان، وضربنا لذلك أمثلة من سيرة خير خلق الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، واليوم نواصل في نفس السياق، ونقول وعلى الله الإتكال، أيها المؤمنون الصالحون، لقد عبر القرآن الكريم عن الوطن بعبارات تدل عليه، فإن هذه الكلمة وإن لم يأت ذكرها بهذه الصيغة فإنها جاءت بمفهومها بينة واضحة بمدلولها، قال الله تعالى: ” والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم” وقال جل من قائل: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم”، وقال أيضا: ” قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا”، فكلمة الدار والديار لا مفهوم لها سوى ذكر الأوطان التي يعيش فيها الإنسان بأمن وأمان، وجاء ذكر الوطن بلفظ الأرض،  قال تعالى: “الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر” وقال أيضا: “وعد الله آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا”، أيها الإخوة المؤمنون، إن محبة الأوطان شيء فطري فطر الله عليه الخلائق،  
فما من إنسان إلا ويعتز بوطنه، مهد صباه ومدرج خطاه ومرتع طفولته، وملجأ كهولته، ومنبع ذكرياته، وموطن آبائه وأجداده، ومأوى أبنائه وأحفاده، بل حتى الحيوانات لا ترضى بغير وطنها بديلا ومن أجله تضحي بكل غال ونفيس، فالطيور تعيش في عشها في سعادة ولا ترضى بغيره ولو كان من حرير، والسمك يقطع آلاف الأميال متنقلا عبر البحار والمحيطات ثم يعود إلى وطنه، وكل المخلوقات تحن إلى أوطانها ولا تبغي بغيرها بديلا، بل إن بعض المخلوقات إذا تم نقلها عن موطنها الأصلي فإنها تموت حسرة وتشوقا، أخرج الأزرقي في “أخبار مكة” عن ابن شهاب قال: قدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي فدخل على عائشة (ض) فقالت له: يا أصيل! كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، قالت: أقم حتى يأتيك النبي فلم يلبث أن دخل النبي، فقال له: يا أصيل! كيف عهدت مكة؟ قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق اذخرها، وأسلت ثمامها، فقال صلى الله عليه وسلم: “حسبك يا أصيل لا تحزنا” وفي رواية أخرى: “ويها يا أصيل! دع القلوب تقر قرارها”، بمعنى لا تشوقنا وتهيج أرواحنا لمكة واتركنا نألف المدينة، أيها الإخوة المؤمنون، من مقتضيات الانتماء للوطن محبّتُه والافتخارُ به وصيانتُه والدفاعُ عنه والنصيحةُ له والحرصُ على سلامتِه واحترامُ أفراده وتقديرُ علمائه وطاعةُ ولاة أمرِه، ومِن مقتضياتِ الوطنيّة القيامُ بالواجبات والمسؤوليّات، كلٌّ في موقعه مع الأمانة والصدق، ومن مقتضيات حبّ الوطَن احترامُ نظُمه وثقافته والمحافظة على مرافِقه ومواردِ الاقتصادِية والحِرص على مكتسَباته وعوامِل بنائه ورخائِه والحذرُ من كلّ ما يؤدي إلى نقصه، وإن أعظم خيانة يجترمها الإنسان أن يخون وطنه أو يعين من يدبر الشر لزعزعة أمنه واستقراره، فواجبنا اليوم أمام التغيرات التي طرأت على المجتمعات حولنا أن نحملا بلدنا من الأفكار الدخيلة، وأن نؤصل ثقافة حب الوطن روحا ووجدانا وتعاملا وتبيانا عند ناشئتنا وخاصة منهم شبابنا، فالاوطان لا يدمرها عدوها القادم من الخارج وانما يدمرها ابناؤها إذا لم يجد حب الاوطان الى قلوبهم سبيلا، فاللهم اجعلنا لنعمك من الشاكرين، ولوطننا وأهلنا حامين، ولعروة بيعتنا لأمير المؤمنين حافظين، وعلى صراطك المستقيم سائرين، غير مبدلين ولا مغيرين، آمين، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

أيها الإخوة المؤمنون، ها أنتم ترون أن حفاظ الأمن في هذا البلد يعثرون بين الفينة والأخرى على أشخاص هم من هذا البلد يدبرون المكائد ويتدربون على الوسائل والأساليب لإلحاق الضرر بالوطن والمواطنين، وضرب المصالح الإقتصادية والحيوية والإدارية، وذلك عندما لعبت بعقولهم الأفكار الضالة، وتشبعوا بالأباطيل التي يتلقونها عمن لم يعرفوا الحس الوطني، ولا يميزون بين نعمة الأمن والإستقرار وبين الهمجية والإرهاب والإعتداء على الأرواح البشرية وما يترتب عليه من ترميل النساء، وتيتيم الأطفال، وإلحاق الأضرار بالوطن والسمعة الطيبة التي نسعى جميعا لجلبها لمملكتنا المغربية من خلال إخلاصنا وتفانينا في خدمة بلدنا كل من موقعه، فهي لبنات تؤسس لبنيان شامخ، بناه أسلافنا الصالحون بأرواحهم، وبدمائهم التي استرخصوها لننعم بعدهم بالرفاه والأمن والأمان على ممتلكاتنا ومقوماتنا المغربية الإسلامية الإنسانية، فلنتعاون جميعا على حماية أبنائنا وبناتنا من هذه الأفكار التخريبية العدوانية المستوردة التي يتعرضون لها من قبل أعداء وحدتنا الترابية والدينية، والذين ينسلخون عن مقومات ثوابثنا الراسخة، ولنكن عينا على أمن البلاد وحمايتها من جميع أنواع الفساد، بتلقينهم كيف يكون الإنتماء للوطن، وكيف ينبغي أن تنكتل جميعا لحمايته والحفاظ على وحدته، ولنكن عونا للتبليغ عن كل التصرفات المشينة التي يمكن أن تؤدي إلى إذاية أمتنا، ولنمتثل في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري عن النعمان بن بشير: “مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا” وهذا الذي حل بالأمم من حولنا، فلنتعظ ولنعد إلى رشدنا، ولنلتزم منهج قائدنا وأميرنا جلالة الملك محمد السادس في العمل على رفاه وازدهار أمتنا بإخلاصنا في وظائفنا وفي مسؤلياتنا المنوطة بنا، وأن نمد أيادينا البيضاء لنفع المواطنين، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. الدعاء

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *