التحذير من الإغترار بالحياة الدنيا -2-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الحمد لله الذي حذرنا من دار الغرور، وأمرنا بالإستعداد ليوم البعث والنشور، نحمده تعالى وهو الغفور الشكور، ونشهد أن لا إله إلا إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، القائل: “يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الجد والتشمير، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، في الجمعة الماضية تناولنا الحديث عن التحذير من الإغترار بالحياة الدنيا، وذكرنا أنفسنا وإياكم بالوعيد الذي توعد به الله عز وجل كل من آثر ملذات الدنيا على واجبه الذي خلق من أجله، وهو عبادة الله تعالى والإخلاص فيها ابتغاء مرضاته، ونواصل اليوم أيها الإخوة المؤمنون التذكير في نفس الموضوع لعلنا نعود إلى رشدنا، وننتهي عن غينا، فحالنا لا يرضي، وأخبارنا لا تدل على أننا نهتدي بالقرآن الكريم ولا بسنة النبي الذي جاء ليخرجنا من الظلمات إلى النور، ونحن وغالبيتنا تأبى إلا أن تضع نفسها في أوحال الجاهلية والغواية والفسق والخروج عن السراط المستقيم، وعلموا أن المؤمن الكيس الحكيم، المستنير بنور ربه السميع العليم، هو الذي يدرك تمام الإدراك أن عمره يسير، وحياته قصيرة، تشبه في سيرها نحو مصيرها سفينة مسرعة، تعبر بصاحبها العمر، وتقطع أيامه. فأول منازل رحلته المهد، وآخر محطة الوصول اللحد، ووطنه بعد هذه الرحلة يكون جنة أو نارا، “يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا”، أختي المؤمنة، أخي المؤمن عمرك بلا شك هو مسافة سفرك، تبني السنون والأعوام مراحله، وتكون الشهور فراسخه، وتحدد الأيام أمياله، وتعين الأنفاس خطواته، وطاعة الله هي زادك وبضاعتك، وساعات حياتك رؤوس أموالك، وشهواتك قطاع طريقك، ونورك في مسيرتك قرآن ربك وسنة نبيك، وربحك في النهاية هو فوزك برضوان ربك في دار السلام حيث الإقامة والنعيم المقيم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. هذا إذا كنت من المحسنين الذين يصدقون بيوم الدين، الذين أنعم الله عليهم بتوفيقه وهدايته وكانوا من الصالحين، أما إذا كان الإنسان من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وابتعدوا عن تعاليم دينهم وخالفوا ما جاء به رسول رب العالمين إليهم فتغلبت عليهم الأهواء والشهوات وتلاعبت بهم الرياح والشياطين واللامبالاة فإنه لا محالة سينتهي به المطاف إلى العذاب الأليم، في دركات الجحيم، حيث لا ينفعه عدل ولا شفاعة ولا تنقده حسرة ولا ندامة، ولا قوله في رجاء: “يا ليتني قدمت لحياتي، فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد”. ولقد تنبه كثير من عباد الله الصالحين لهذا الخطب الجسيم، فأدركوا ببصائرهم قبل أبصارهم مبلغ الربح وقيمة الخسران في الدار الآخرة، فأظمئوا نهارهم، وأسهروا ليلهم، وشمروا عن ساق الجد مودعين شهوات النفس وملذات الحياة، ومغتنمين فرصة العمر في كسب الصالحات والمسابقة إلى الخيرات. واصلوا الليل بالنهار في طلب القرب من الرحيم الجبار، “غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، لاإله إلا هو، إليه المصير”. أيها الإخوة المؤمنون، روى الإمام المقدسي عن أبي ذر الغفاري (ض) قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات هن إلي أحب من الدنيا وما فيها، قال لي صلى الله عليه وسلم “احكم السفينة فإن البحر عميق، واستكثر الزاد فإن السفر طويل، وخفف ظهرك فإن العقبة كؤود، وأخلص العمل فإن الناقد بصير”. وهذه السفينة التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر بإحكامها هي العمل الصالح الذي ينبغي لكل عاقل أن بشغل باله به في هذه الدنيا التي تعتبر بمثابة بحر ترسو فوقه السفينة، وإلى هذا المعنى تشير الحكمة المأثورة عن لقمان الحكيم في إحدى وصاياه لإبنه حيث قال: “يا بني: إن الدنيا بحر عميق، قد غرق فيه ناس كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله عز وجل، وحشوها الإيمان بالله تعالى، وشراعها التوكل على الله عز وجل، لعلك تنجووما أراك ناجيا”. ولله ذر من قال: **إن لله عبادا فطنا ** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا *** نظروا فيها فلما علموا ** أنها ليست لحي وطنا *** جعلوها لجة واتخذوا ** صالح الإعمال فيها سفنا. فالمؤمن الحق لا يغلب أمور دنياه على أمور آخرته، وهو في نفس الوقت لا ينقطع عن آخرته مهملا كل دنياه، فالتاجر الأمين عابد بشرط ألا تلهيه تجارته عن شكر باسط الأرزاق، والوالد الذي يسعى في كسب شؤون أهله بالطرق المشروعة عابد ما لم يفتنه أهله وولده عن ذكر البارئ الخالق، والزارع الذي يجتهد في فلاحة أرضه للحصول على إنتاج جيد وفير عابد ما لم تعطله زراعته عن طاعة فالق الحب والنوى، والصانع الذي يثقن صنعته ولا يغش إخوانه عابد مالم تشغله صنعته عن عبادة من أمده بالعزم والقوة، والغني الذي يعطي حق الله في ماله عابد مالم يمنعه البخل والشح عن أداء الحق المعلوم للسائل والمحروم، والفقير الصابر عابد ما لم يخرجه فقره عن حدود الصبر فيعصي مولاه ويعترض على خالقه فيرتكب المعاصي من أجل الحصول على المال من الأوجه الملتوية والطرق غير المشروعة، والموظف الأمين على مسؤولياته عابد ما لم تغره مغريات دنيوية فينزلق إلى أمورلا ترضي الله وتسقطه في الهاوية، وسليم الجسم عابد ما شكر الله على صحته وتوفيقه، وما لم يسخر نعمة الصحة في العبث والفجور وتعاطي المخدرات والمنهيات والخمور، والمريض الصابر عابد ما لم تدفعه آلام مرضه إلى التدمر وعدم الرضى بالمقدور فيحرم الأجر وثواب الصبر، وربة البيت التي ترعى شؤون بيتها، وتسهر على تربية أبنائها، وتطيع زوجها بالمعروف عابدة ما دامت تعلم أن الله معها حيثما كانت، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالتوبة، ويوقظ قلوبنا من الغفلة، ويجعلنا من الشاكرين للنعمة، الخائفين من النقمة، من “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه”، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
عباد الله ، خطب عمر ابن عبد العزيز (ض) فقال: “أما بعد، فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثا، ولم يدع شيئا من أمركم سدى، وإن لكم معادا ينزل الله عز وجل فيه للحكم والقضاء بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، واشترى قليلا بكثير، وفانيا بباق، وخوفا بأمن، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفكم بعدكم الباقون، كذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين؟، في كل يوم وليلة تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل وقد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صدع من الأرض غير ممهد ولا موسد، وقد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهنا بعمله، فقيرا إلى ما قدم، غنيا عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت بكم، كأن الموت فيها على غيركم قد كتب، وكأن الحق فيها على غيركم قد وجب، وكأن الذي تشيعون من الأموات سفر عما قليل إليكم راجعون، تبوؤونهم أجداثهم، وتأكلون تراثهم، كأنكم مخلدون بعدهم، تنسون كل واعظة، وتأمنون كل حادثة، وكأنكم لا تعقلون”.الدعاء.