النظافة وأهميتها من خلال الهدي النبوي -2-

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.

أما بعد فيا عباد الله، في خطبة سابقة تطرقت لموضوع النظافة وأهميتها من خلال الهدي النبوي، وبقيت بعض الجوانب المهمة في هذا الموضوع، نجد النبي صلى الله عليه وسلم خصها ببعض التوجيهات والنصائح الدقيقة الهامة  تستحق التناول، وتستحق أن نعرفها ونعمل بها ونربي عليها أولادنا.

أيها الإخوة الكرام، إن الإسلام اعتبر النظافة من صميم رسالته، ولن يكون المرء راجحاً في ميزان الإسلام محترم الجوانب إلا إذا تعهد جسمه بالتنظيف والتهذيب، وكان في مطعمه ومشربه وملبسه وهيئته الخاصة بعيداً عن الأدران المكدرة والأحوال المنفرة، وليست صحة البدن وطهارته سلاحاً مادياً فقط، بل إن أثرها عميق في تزكية النفس أيضا.

وإن من توجيهات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، ما ورد عَنْ عَبْد ِاللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَفَّس”، والآن أيها الإخوة والأخوات ثبت علميا أن هناك أمراضاً تنتقل بالعدوى عن طريق الزفير، فإذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فأبعد القدح عن فيك في حال أردت أن تتنفس، وهذا يعد من توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام الوقائية.

ومن توجيهاته صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، ما وورد عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وورد أيضا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ”. 
ومن توجيهاته عليه الصلاة والسلام، أنه نهى أيضا أن يبال على الحجر، حتى لا يتطاير البول عليه فيؤذي الثياب، ونهى عليه الصلاة والسلام عن البول في الأرض الصماء الصخرية، لأن البول يرتد إلى ثوب صاحبه، وهي الملاعن الثلاثة التي يلعن فيها من يؤذيها، ورد عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثَّلاثَةَ، الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ”، فيا عجبا لمن يقصد مكانا ذا ظل ظليل يستظل به الناس والمارة فيقضي فيه حاجته، فمن قضى حاجته أو بال في هذا المكان ملعون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قضى حاجته أو بال في قارعة الطريق ملعون عند رسول الله، وللأسف الشديد هذا هو الحاصل الآن كما تعرفون وترون دائما في مداخل الأبنية أحياناً، وفي بعض البقع الفارغة التي لازالت لم تبن، وفي جوانب الطرق وفوق الأسوار وغيرها، فمن يفعل ذلك فهو بعيد عن كل معاني الإنسانية واللياقة والذوق والأدب والأخلاق الإسلامية.
ومن توجيهات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، ما ورد عن أمنا عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ” السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ”، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينصح باستعمال السواك، ويقوم مقامه اليوم كل مايستعمل لتنظيف الفم.

وفي هذا المقام اسمحوا لي أن أحكي لكم قصة فيها أعظم عبرة: سائح بريطاني زار الشرق الأوسط، وكتب في مذكراته عن السواك الذي يستعمله المسلمون في تنظيف أسنانهم، كتب عنها كتابةً ساخرة ووصفها بالخشبة التي يستعملها المسلمون في تنظيف أسنانهم، قرأ هذا البحث أو هذه الرحلة عالم ألماني، فوصى زميله المسافر إلى السودان أن يأتيه بهذه الأعواد، أعواد الأراك، سحقها ووضعها في مكان ووضع عليها الجراثيم، فإذا فعلها كفعل البنيسلين تماماً تطهر الفم من كل جرثوم.
كل هذه النصوص تدل على أن الإسلام اهتم بالنظافة اهتماماً كبيراً وأولاها عنايةً فائقةً، ورعايةً تامةً لأنها الأساس لكل زينة حسنة، قال تعالى: “يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ”، فأساس الزينة النظافة، وأرضية الزينة النظافة، بل إن العلماء قد اكتشفوا أن لجلد الإنسان رائحةً عطرة فيكفي أن تتنظف لتفوح هذه الرائحة، وهذا ما قالته امرأة في الجاهلية، حيث قالت: “والماء أطيب الطيب المفقود”، وإن تنظيف الجلد بشكل دوري يسمح لرائحته العطرة أن تفوح منه.

ومن توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم الجامعة المانعة في هذا الموضوع، ما رواه الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عشرٌ من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونَتْف الإبْط، وحَلْق العانة، وانتقاص الماء – يعني: الاستنجاء – قال الراوي: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة”.

فكل هذه التوجيهات النبوية القصد منها لفت المسلم إلى العناية بتطهير الظاهر ونظافته ودفْع الأوساخ والأقذار عنه، وهي هذه العشرة التي هي من محاسن ديننا الحنيف؛ إذ كلها تنظيف للأعضاء وتكميل لها؛ لتتمَّ صحتها، ويَروق منظرُها؛ فالمضمضة والاستنشاق مشروعان في طهارة الحدث الأصغر والأكبر باتفاق، وهما فرضان فيهما، كذلكم تطهير الفم والأنف وتنظيفهما؛ لأن الفم والأنف يتوارَد عليهما كثير من الأوساخ والأبخرة ونحوها، والمسلم مضطر إلى تنظيف ذلك وإزالته، وكذلكم السواك يُطهِّر الفمَ كما مر؛ فهو مَطهَرة للفم، مرضاة للرب؛ ولهذا يُشرَع في كل وقت، ويتأكَّد عند الوضوء، والصلاة، والاستيقاظ من النوم، وتغيُّر الفم، وصُفْرة الأسنان، وكذلكم قص الشارب أو حلقه حتى تبدو الشفة؛ لما في ذلك من النظافة والتحيز مما يَخرُج من الأنف؛ فإن شعر الشارب إذا تدلَّى على الشفة، كره ما يتناوله الإنسان من مأكل ومشرب مع تشويه الخِلْقة بوفرته، وإنِ استحسنه مَن لا يعبأ به، وهذا بخلاف اللحية؛ فإن الله تعالى جعلها وقارًا للرجل وجمالاً له، وأما قص الأظفار ونَتْف الإبْط، وغسل البراجم، وهي مطاوي البدن التي تجتمع فيها الأوساخ، فلها من التنظيف وإزالة المؤذيات ما لا يمكن جحوده، وكذا حَلْق العانة، وأما الاستنجاء وهو إزالة الخارج من السبيلين بالماء أو غيره من المنظفات، فهو لازم وشرط من شروط الطهارة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،

أما بعد فيا عباد الله، من خلال ماسبق بيانه، يتضح بأن النّظافة هي الصّورة الّتي بنى الله الحياة على أساسها، فلقد خلق الكون جميلاً، طاهرا،ً نظيفاً، ينظِّف بعضه بعضاً، بما أودعه فيه من قوانين وأسباب، فنظام الكون كلِّه مبنيّ على النّظافة، فالرّياح تكنس، والمطر يغسل، والأرض تدفن، وهكذا حتى غريزة الحيوان مفطورة على النظافة والتنظّف، تأملوا في القط كيف يعمل على دفن فضلاته عند قضاء حاجته، وتأملوا في الكلب كيف يحرص ألا يتأذى من بوله، وتأملوا في غيرهما من الحيوانات.

أيها الإخوة الكرام، إن الإسلام كما علمتم لم يكتف بدعوة الإنسان إلى الحفاظ على الطهارة الفكرية والروحية والإيمانية، بل استكمل الصورة على المستوى المادي والشكلي، فدعانا إلى الحفاظ على نظافة الجسد والملبس والبيت والشارع والبيئة المحيطة، بحيث تكون النظافة في كلّ ما حولنا، لتبقى الصورة جميلةً، راقيةً، حضارية، وليكون الإنسان محميّاً من كلّ سلبيات القذارة، وهنا أتساءل هل صحيح نحن متحققون برفع شعار “النّظافة من الإيمان”؟ وهل يشعر كلّ فردٍ منّا بأنَّ النَّظافة هي مسؤوليَّته الشّرعيَّة ويتحمّل مسؤوليتها أمام الله؟ لأننا عندما ندخل المساجد أو عندما نتجوَّل في الأماكن العامَّة للمسلمين والأحياء وغيرها نجد الأمر بخلاف ذلك.
إنّ الشّعور بالمسؤوليّة هو الّذي يقول للّذي يريد أن يتخلّص من نفاياته وهو في سيّارته، أو من على شرفته، أو الّذي يرمي نفاياته كيفما كان وأينما كان مهلاً، هل أنت حقّاً تتخلّص منها، أم تتخلّص منها لتعود إليك مجدّداً؟

النّظافة أيها الإخوة والأخوات قيمة لا تتجزّأ، تماماً كبقية القيم، ولا يوجد أيّ مبرّرٍ لأيّ فردٍ ولا لأيٍ مجتمعٍ لكي لا يكون نظيفاً. فأنت لا تحتاج إلى أيِّ إمكاناتٍ كي تمتنع عن رمي قارورةٍ هنا أو قارورةٍ هناك، أو رمي بقايا طعامك وأنت تسير على الطّريق.

ختاما، لقد اطلعت في هذه الأيام على خبر يحكي قصة مجموعة من الشباب الصالح لإحدى مدننا في الشمال، يقطنون في حي شعبي، كيف استطاعوا بفضل إرادتهم القوية وعزمهم الراسخ وتظافر جهودهم وصبرهم، أن يشكلوا من حيهم الشعبي الغير النظيف لوحة فنية مغرية داع صيتها في كافة الربوع، بعد تنظيفه وتلوينه بألوان مزركشة زاهية، وتزيينه بأنواع النباتات والأغراس، هؤلاء حولوا النظافة إلى سلوك مجتمعي، فهكذا ينبغي أن نكون، وهؤلاء من ينبغي أن نقلد، لأن ديننا الإسلامي هكذا أرادنا أن نكون، نتمسك بهديه ونضرب المثل للغير بأبهى صوره، والحمد لله رب العالمين.

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *