الصلاة على النبي فوائدها صيغها والحكمة من مشروعيتها
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيأيها الإخوة الكرام، تبعا لما وعدتكم به في الخطبة الماضية، فإني سأتمم الكلام عن الفوائد الأخرى المتبقية للصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، والصيغ التي تجوز الصلاة بها على رسول الله، وسأختم بالكلام عن الحكمة من مشروعية الصلاة عليه، بتناول ماكان الصحابة الكرام يقومون به بالاجتماع على الدعاء وحمد الله على نعمه الكثيرة، بما في ذلك وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياتهم، وما من الله عليهم به وما هداهم لدينه، بغية إنعاش محبته في القلوب، لأن محبته صلى الله عليه وسلم شرط في صحة الإيمان، إذ لا تلقح القلوب إلا بمحبته الصادقة، ومتابعته الناطقة.
أيها الإخوة الكرام، إن للصلاة على سيد الوجود صلى الله عليه وسلم فوائد وثمرات أوصلها السادة العلماء إلى أكثر من اثنين وخمسين فائدة مستنبطة من عدة أحاديث صحيحة، فمن هذه الفوائد أنها من صلاة الله عز وجل وملائكته ورسوله، وأنها تكفر الخطايا، وتزكي الأعمال، وترفع الدرجات، وتغفر بها الذنوب، وتستغفر لقائلها، ويكتب له بها قيراط مثل أحد من الأجر، وأن من داوم عليها يكيل بالمكيال الأوفى، ومن جعل كل صلاته لرسوله يكفى أمر الدنيا والآخرة، وأنها تمحق الخطايا، وأنها تفضل عتق الرقاب، وأن صاحبها ينجى من الأهوال، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد بها لصاحبها، وأنها توجب الشفاعة والرحمة، وتوجب رضى الله لقائلها، وأنها تؤمن من سخط الرب، ومظناة للدخول تحت ظل العرش يوم القيامة، كما أنها ترجح الميزان وتورد الحوض، وتؤمن من عطش يوم القيامة، وتعتق من النار وتجوز على الصراط، وأن المكثر منها يريه الله المقعد المقرب من الجنة قبل الموت، وتكثر أزواجه في الجنة، وأنها تقوم مقام الصدقة للمعسر، وأنها زكاة وطهارة، وأن المال ينمو ببركتها ويقضي بها مئة من الحوائج بل أكثر، وأنها عبادة، وأنها من أحب الأعمال إلى الله، وأنها زينة المجالس، وأنها تنفي الفقر وضيق العيش، ويلتمس بها كل مظان الخير، وأنها نور، وأنها تنصر على الأعداء، وتطهر القلب من النفاق والصدأ، وتوجب محبة الناس، وأن صاحبها يكرمه الله برؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، كما يكرمه بمصافحته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. فأينا لايرغب في قطف هذه الثمار وجني هذه الفوائد؟
أيها الإخوة الكرام، أما الصيغ التي تجوز بها الصلاة على سيدنا رسول الله، فأولها الصيغة المشهورة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة الكرام رضي الله عنهم، روى الإمام مسلم وغيره عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم.”، وفي الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة التزام بما أمر به رسول الله، لكن بالاطلاع على الأبواب التي ألفت حول صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، نجد بأن جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم التزموا بهذه الصيغة الواردة لايزيدون عليها شيئا، كما نجد جماعة أخرى منهم أجازت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بصيغ غير منصوصة ولا واردة بما في ذلك ذكره بالسيادة، وقدموا الأدب مع سيدنا رسول الله على الالتزام بالأمر، وذكروا بأن الخروج عن الصيغة المروية غير محظور ولا ممنوع، وأن الصلاة المطلوبة بنص الكتاب العزيز تؤدى بأي صيغة من الصيغ، واستشهدوا بقول الحق سبحانه وتعالى: ” لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا”، فهذه الآية تشير إلى التزام الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، وإلى توقيره وتعظيمه، وأقل التأدب مع سيدنا رسول الله هو ذكره بالسيادة، والسيادة ليست بزيادة كما قال بعضهم، وفي هذا المقام ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيما رواه ابن ماجة في سننه، أنه كان يقول في صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم:” اللهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين”، وخلاصة القول أن من اختار صلاة من الصلوات المأثورة التي لم ترو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو رزقه الله بيانا وأبان عن عظيم حرمته صلى الله عليه وسلم، بألفاظ فصيحة ومعان شريفة فله ذلك، فقد عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم صلوات لم ترو عنه فأقرها وأثنى عليها، من ذلك ما رواه الطبراني في كتاب الدعوات عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:” جاءوا برجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا عليه أنه سرق ناقة لهم، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع، فولى الرجل وهو يقول:” اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من صلاتك شيء وبارك على محمد حتى لايبقى من بركاتك شيء وسلم على محمد حتى لا يبقى من السلام شيء، فتكلم الجمل فقال: يامحمد إنه بريء من سرقتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:” من يأتيني بالرجل؟”، فابتدره سبعون من أهل بدر، فجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:” ياهذا ما قلت آنفا وأنت مدبر؟ فأخبره بما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك نظرت إلى الملائكة يخترقون سكك المدينة حتى كاد أن يحول بيني وبينك الملائكة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:” لتردن علي الصرط ووجهك أضوأ من القمر ليلة البدر”، وأيضا فقد صلى الإمام الشافعي رحمه الله وهو من أكثر الناس تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة كتابه المسند الذي هو عمدة أهل مذهبه، بقوله: “اللهم صل على محمد كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون”. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم:” لقد من الله على المومنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين”، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام النسائي عن معاوية رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا ندعو الله عز وجل ونحمده على ما هدانا لدينه ومن علينا بك، قال: الله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا الله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وإنما أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة”.
أيها الإخوة الكرام، بقي أن أتكلم عن الحكمة من مشروعية الصلاة على رسول الله، ولإدراك ذلك ينبغي تفسير معنى المنة الواردة في الآية والحديث.
فالذي يمن على الآخر هو الذي يعطيه عطية يحتاج إليها هذا الآخذ، إذن فالمن الذي نحن بصدده هو العطاء بلا مقابل، فإذا جاءت نعمة بعد الحاجة إليها، وانقطعت هذه الحاجة بوجود النعمة، فلابد إذن أن تأتي بفعل بعدها وهو أن تشكر من أنعم عليك، وخصوصا أنه الله، و(منة) الله برسوله صلى الله عليه وسلم تمنح للعالمين عطاء على قدر الدنيا وعلى امتداد الآخرة، فتكون هذه منة كبيرة، فإذا كان مطلق بعث رسول كي يهدي الناس إلى منهج الله يكون نعمة، فماذا إذا كان الرسول من أنفسهم ومن رهطهم ومن جماعتهم وهو إنسان له مواصفاتهم؟، علاوة على كونه معروفا نسباً وحسباً ومعروفا أمانة، ومعروف صِدقاً، كل هذه (مِنة) إنها معانٍ تأتي كلها في سلك واحد، ولاينبغي هنا أن ننسى الحالة التي كانت عليها الجاهلية، حيث لم تكن طاهرة ولا نقية ولا نامية، فالمجتمع الجاهلي كما تعلمون كان محكوما بالهوى والجبروت والسلطان والقهر.
وبذلكم يظهر أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم أدركوا نعمة وجود رسول الله فيهم، فاجتمعوا في حلقة ذكر ليحمدوا الله على هذه النعم المتعددة التي أكرمهم الله بها بسبب وجود سيدنا رسول الله، فكذلكم صلاتنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل والنهار، إن هي إلا لسان وفاء نرحل به إلى الله عز وجل نقول له: يا رب لولا رسولك هذا ما عرفناك، لولا محمد رسول الله ما عرفنا لاإله إلا الله، ولولا محمد ماعرفنا الطهارة ولولا محمد ما عرفنا الصلاة والزكاة والحج والعمرة، ولولا محمد ماعرفنا القرآن ولا الأحكام المنزلة في القرآن، ولولا محمد ما عرفنا الأخلاق والقيم، لولا رسولك هذا ما التزمنا بهديك، ما عرفنا صراطك، ما عرفنا الحق من الباطل، فاللهم إنا نسألك أن تزيده فضلاً على فضل وأن تزيده إكراماً على إكرام، هذه هي الحكمة من مشروعيتها وهذا هو معنى صلاة العبد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن تعتقد بأن صلاتك على النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة منك له، فإن مثلنا لايشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بالمكافأة لمن أحسن إلينا، وأنعم علينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه، لتكون صلاتنا عليه مكافأة بإحسانه إلينا وإفضاله علينا، إذ لا إحسان أفضل من إحسانه صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين.