ذكر 11 يناير سنة 1944
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده، أعز دينه بالأخيار من خلقه، وأوسع لهم في الطيبات من رزقه، وكتب عليهم الجهاد لتطهير أرضه من الطغاة والغاصبين لحقوق عباده، نحمده تعالى ونشكره على ما أسبغ علينا من نعمه ودرأ عنا من نقمه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، “وهو القاهر فوق عباده”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله القائل بوحي من ربه: “خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله”، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم اللقاء به، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون، يقول الله عز وجل في كتابه المكنون: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئكم بما كنتم تعملون”، ومعنى هذا الخطاب الرباني الحكيم أن المؤمن بالله رب العالمين المستجيب لأمر خالقه ومولاه في طاعة ويقين، السائر على طريقه ونهجه القويم، من شيمته وشأنه في حياته، أن يكون موصول الجهد دائم العمل، يحسن استغلال الفرص، فيشغل وقته فيما يعود عليه وعلى أسرته ومجتمعه ووطنه بالخير والفلاح، وفيما يوفر للعباد السعادة والحرية والكرامة والنجاح، مستبصرا في طريقه بنور الله الوضاء الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين”، أيها الإخوة المؤمنون، بعد أيام قليلة إن شاء الله تعالى ستحتفل أمتنا المغربية بذكرى من ذكريات الجهاد المرير، ذكرى 11 يناير التي ينبغي أن تبقى تاريخا لحدث عظيم يذكر الأجيال بالأمجاد، ويربط الحاضر بالماضي الذي عرف فيه المغرب كغيره من بلاد العرب والمسلمين، استعمارا غاشما جثم على أرضه واستغل خيرات بلاده واستعبد مواطنيه ردحا من الزمان، إن تاريخ 11 يناير من سنة 1944 يسجل حدثا عظيما، يخلد انبعاث الأمة المغربية من غفوتها، ونهوضها من رقدتها، ويذكرنا بشعور المسؤولين الغيورين من قادتها وزعمائها وعلمائها وساستها بأن عليهم في الحياة واجبات، وأن عليهم نحو أنفسهم ووطنهم ومجتمعهم الذي أسلم قيادته إليهم تبعات تتعلق بحرية الوطن والمواطنين، وحفظ كرامتهم أجمعين آمنين مطمئنين مستقلين لا مستعمرين مستغلين من طرف المستعمرين الغاصبين الفرنسيين منهم والإسبانيين الذين استعمروا المغرب واستعبدوا المواطنين، لإستنزاف خيرات الأرض واستغلالها خارج المغرب، والإعتداء على كل من تسول له نفسه أن يغير هذا المنكر الشنيع الذي ترفضه النفوس الأبية، والغيرة الحقة، والمواطنة الصادقة التي تؤمن بقوله تعالى: “فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين”، من أجل هذه الكرامة والحفاظ على سلامة الأمة، بذل المغاربة جميعا جهودهم، وطالبوا باستقلالهم من خلال وثيقة الإستقلال التي حررها الأبناء البررة من ابناء هذا الوطن، والتي قدمت إلى جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه، فرفعها إلى المسؤولين الفرنسيين بتاريخ 11 يناير 1944، تلك الوثيقة التي مر على تقديمها 72 عاما، والتي هزت الفرنسيين وجعلتهم يفكرون في الأمر جادين، ويعلمون من خلال ما جاء فيها أن احتلالهم للمغرب، لن يدوم ولا يمكن أن يدوم ما دام الشعب قد التف حول قيادته الحكيمة الرشيدة يطالب بحقه في الإستقلال والحرية، وأنه أصبح مستعدا لفداء وطنه بدمائه الطاهرة الزكية، وتلك مسألة طبيعية ورثها الخلف عن السلف، لأننا إذا رجعنا إلى سيرة أولئك الذين خرجتهم مدرسة سيد الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لعرفنا كيف صبروا وصابروا، وكيف جدوا واجتهدوا، وكيف كانوا يعدون لكل امر عدته، وكيف عاشوا بأرواح المجاهدين المناضلين المرابطين على اختلاف الأحوال وتنوع الأعمال، فهذا المقداد بن عمر الصحابي المناضل السباق إلى المكرمات، أسلم مبكرا، وأظهر إسلامه في أول الأمر مع من أسلم فأخذهم الكافرون، وألبسوهم دروع الحديد، وعذبوهم بأنواع التعذيب، فاحتملوا راضين صابرين ضاربين المثل الرائع في إيثار ما عند الله على ما عند الناس، ثم زاد هذا الإضطهاد وضاقت البلاد فأرغم المقداد على ترك وطنه والهجرة إلى المدينة مع من هاجر من إخوانه، طلبا لمرضاة ربه، وهو الذي نهض فبدل قصارى جهده في تصديق ما عاهد الله عليه، واقفا بين الصحابة من المهاجرين والأنصار قبيل غزوة بدر قائلا: “يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك، وبين يديك ومن خلفك حتى يفتح الله عليك. وهكذا كانت أخوة الإيمان، ميثاق شرف بين هؤلاء المؤمنين، ليظلوا على يقينهم، ثابتين صامدين، وليواصلوا خطواتهم في طريق العمل الصالح المصلح مجتمعين، “وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم”. عباد الله، إن الرجوع إلى أحداث الماضي واستعراض التاريخ ليس المراد منه التسلي ولا التغني بالأمجاد، وليس المراد منه أيضا سرد الوقائع والأحداث، وتعداد أسماء الرجال، وإنما هو حث للهمم واستنهاض للعزائم وتذكير بآلاء الله، واسترشاد بالقدوة الحسنة والإسوة الطيبة، وإن مرحلة الكفاح الوطني بعد تقديم وثيقة المطالبة بالإستقلال كان من أهم حلقاتها أنها عرفت رجالا أفذاذا وأبطالا عظاما زلزلوا أقدام المستعمر الغاشم أولئك الذين كانوا السبب الحقيقي لزواله وخروجه من بلدنا المسلم المؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن دستورا يهدي إلى الرشد وإلى طريق الحق المستقيم، وإلى الجهاد في سبيل الكرامة وإعلان كلمة الحق والدين، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، وإن شعبنا المغربي الممثل في تلك الفئة الرائدة الموقعة على وثيقة المطالبة بالإستقلال، قد استلهم مواقفه وخطاه من تعاليم الإسلام الصحيحة، ومن إرادة الملك المجاهد محمد الخامس طيب الله ثراه، والذي كان بدوره يستمد موقفه وثباته وصبره وجهاده ويقينه من قوله تعالى في وصف عباده المؤمنين: “يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم، الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم”.
الخطبة الثانية
لا ينبغي أن ننسى أن المحافظة على الإستقلال تتطلب منا قمة وقاعدة أن نكون على بصيرة من أمرنا ومما يحاك ضدنا من قريب أو بعيد، محذرين أنفسنا ووالأجيال التي ستخلفنا في عمارة بلادنا من ضياع ما بناه أسلافنا، وما جنيناه بعدهم من ثمار، ومما قد يصيب استقلالنا من نكسات، وما يجر علينا الإهمال وإطلاق العنان للشهوات من ويلات، يجب علينا أن ننضبط بحقيقة الإيمان والأخلاق الإسلامية السامية، وأن نلتزم بها في حياتنا العامة والخاصة، وأن نعمل على إحياء السنة المطهرة المرضية المحمدية، ونجدد ما ضاع منها وما اندثر، وأن نتمسك جميعا بالعروة الوثقى، ونسير على المحجة البيضاء عاملين بشرائع القرآن وممتثلين لأوامر الرحمن التي دعانا ربنا إلى اتباعها كلما حلت بنا الفتن، وتداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة على القصعة، وإن ما يجري الآن في شتى بلدان الدنيا من الفتن إلا أمثلة لما يجب أن نحذره ونتقي شره ونتعاون على درئه وإحباطه قبل انتشاره، وقبل فوات الأوان، وأن نستغل هذه المناسبات الوطنية لحث أبنائنا وبناتنا على التشبث بمبادئ الوطنية الصادقة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، قال الله تعالى: “وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون”.
الدعاء.