نهاية العام وبداية عام جديد
الحمد لله، الحمد لله ، الحمد لله الذي شرع الهجرة والجهاد لحماية الدين ودرء الفساد، وقال في محكم الكتاب: “ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رءوف بالعباد”، نحمده تعالى ونشكره، ونسأله أن يهدينا سبل الرشاد، ونشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد.
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المهاجر من بلد إلى بلد، والقائل: “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار، الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه من المهاجرين والأنصار، وسلم تسليما كثيرا،
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، إن في دنيانا ذكريات لا يمل حديثها، ولا تسأم سيرتها، بل قد تحلو أو تعلو إذا أعيدت وتكررت، ومن هذه الذكريات، حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إمام البشرية، وسيد ولد آدم، فهي من الذكريات الغوالي، التي تتجدد آثارها وعظاتها، كلما سلك المرء سبيله إلى الاعتبار والإذكار،
وفي حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أيام خوالد، ما تزال تضيء على ممر الأيام، وتتألق في غرة الزمان، ولعل من أسطعها وأروعها، يوم الهجرة، الذي تهب علينا نسمات ذكراه، في كل عام من أعوام الزمن، ومن شواهد عظم حادث الهجرة أنه يزداد بهاء وسناء كلما تناوله العرض والبحث، كالذهب والإبريز؛ كلما عرضته على النار لتمحصه، ازداد إشراقا وصفاء.
وهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت فاتحة الأمل، وبارقة النصر، وطريق العودة له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه إلى مكة فاتحين ظافرين بعد أن أرغموا على الخروج منها مضطهدين، كما قال تعالى: “إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ” يعني إلى مكة.
والهجرة النبوية يا عباد الله، تتجلى فيها دروس من التضحية والفداء والبذل، فهذا رأس الأمة وإمام الملة صلى الله عليه وسلم يتحمل العبء الثقيل، في سبيل الدعوة إلى الله، وإعلاء كلمته، والمجرمون من أعداء الدعوة يبذلون قصارى جهودهم لمقاومته، بحيلة الوعد تارة، والإغراء تارة، ثم بتسليط الغوغاء والسفهاء أخرى، ثم بالتآمر الدنيء، الذي ينتهي إلى الإجماع على اغتياله بلا ارعواء، قال تعالى: “وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ”.
أيها المسلمون، لما رأى المشركون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا، وخرجوا بالذراري والأطفال، وساروا بهم إلى المدينة مهاجرين، خافوا أن يفجأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج وللحاق بهم، فاشتد عليهم أمره، ولم يبق بمكة من المسلمين، إلا رسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي رضي الله عنه وقلة من الذين اعتقلهم المشركون كرها، فأجمعوا أمرهم على قتله صلى الله عليه وسلم ، وجاء جبريل بالوحي من عند ربه تبارك وتعالى فأخبره بذلك، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة.
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر نصف النهار، في ساعة لم يكن يأتيه فيها، فقال له: “أُخْرِجْ من عندك” فقال: إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال: “إن الله قد أذن لي في الخروج”، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: “نعم”.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريش، يتطلعون من شقوق الباب ويترصدونه، ويأتمرون أيهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من البطحاء، فجعل يذروه على رؤوسهم وهم لا يرونه وهو يتلو “وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ”، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه، فخرجا من خوخة في داره ليلا.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى غار ثور فدخلاه، وضرب العنكبوت على بابه، وجدَّتْ قريش في طلبهما، وأخذوا معهم القافلة، حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه، فقال أبو بكر، يا رسول الله: لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
ولما يئس المشركون من الظفر بهما، جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منها مائة ناقة، فجدّ الناس في الطلب، فلما مروا بحي مدلج، بصر بهم سراقة بن مالك فركب جواده وسار في طلبهم، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فساخت يدا فرسه في الأرض، ثم قال سراقة: ادعو الله لي، ولكما علي أن أرد الناس عنكما، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق، ورجع يقول للناس: قد كفيتم ما هاهنا، وسار رسول الله حتى بلغ المدينة التي كان أهلها في أحر الشوق إلى إيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه.
أيها المسلمون، إن حدث الهجرة يعتبر من أعظم المواقف، التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد العدوان فغير به مجرى الأحداث، وضيع على خصومه فرصة الانتقام، وأحبط مسعاهم، وبلبل أفكارهم، وأسفر عن مبلغ تأييد الله له، وحمايته من كيد الكائدين، وطيش الظلمة الجاحدين.
وبمثل هذه السيرة العطرة، تتجلى الخواطر، لننهل منها دروسا عظيمة، عميقة الدلالة، دقيقة المغزى، بعيدة الأثر في نفوس الكرام من أبناء الملة. ومن واجب المسلمين أن يحسنوا الانتفاع بها، عن طريق التذكر المفضي إلى العمل بها: “إِن فِي ذٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْب أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْع وَهُوَ شَهِيدٌ”، ولعل من أبرز الدروس المستقاة من حادث الهجرة، هو أن صاحب الدين القويم والعقيدة الصحيحة، ينبغي ألا يساوم فيها، أو يحيد عنها، بل إنه يجاهد من أجلها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وإنه ليستهين بالشدائد والمصاعب تعترض طريقه عن يمين وشمال، ولكنه في الوقت نفسه، لا يصبر على الذل يناله، ولا يرضى بالخدش يلحق دعوته وعقيدته.
ويلوح لنا في حادث الهجرة خاطر آخر، يتعلق بالصداقة والصحبة، فالإنسان في هذه الحياة لا يستطيع أن يعيش وحيدا منفردا، بل لابد من الصديق يلاقيه ويناجيه ويواسيه، يشاركه مسرته، ويشاطره مساءته. وقد تتجلى هذه الصداقة والصحبة في تلك الرابطة العميقة، التي ربطت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر رضي الله عنه ، لقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر، تقوم لعرضٍ أو لغرض، وتنهض على رياء أو نفاق، إلا من رحم الله، والأمة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى عصبة أهل الخير، التي تتصادق في الله، وتتناصر على تأييد الحق، وتتعاون على البر والتقوى “ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ”.
وخاطر ثالث يتجلى من ذكر هذه الحادثة، وهو أن الله ينصر من ينصره، ويعين من يلجأ إليه ويعتصم به ويلوذ بحماه، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن المخلص، الموقن بما عند الله، حين تنقطع به الأسباب، وحين يخذله الناس، وبعض الأغرار الجهلاء يرون مثل ذلك فرارا وانكسارا، ولكنه -في الحقيقة- كان عزا من الله وانتصارا: “إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ “.
وخاطر رابع؛ يشير إلى أن الشباب إذا نبتوا في بيئة الصلاح والتقوى، نشؤوا على العمل الصالح، والسعي الحميد، والتصرف المجيد، والشباب المسلمون إذا رضعوا رحيق التربية الدينية الكريمة، كان لهم في مواطن البطولة والمجد، أخبار وذكريات. فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يتردد في أن ينام على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو يعلم أن سيوف المشركين تستعد للانقضاض على النائم فوق هذا الفراش، يتغطى ببردته، في الليلة التي اجتمع فيها شياطين الكفر والغدر، ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويالها من نومة تحيطها المخاوف والأهوال، ولكن تلبية لداعي الفداء وثقة بوعد الله: “فَٱللَّهُ خَيْرٌ حفِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرحِمِينَ”.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وقفوا وقفة المهاجر بنفسه، وإن لم يهاجر بحسه، فلنهاجر إلى الله تعالى بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا ولنلجأ إلى الله ليكون ناصرنا ومؤيدنا. فلنهاجر إخوتي طريق المعاصي إلى رضى الله ونكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.آمين.
الخطبة الثانية
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون: نستقبل بعد أيام عامًا هجريا جديدًا، وليست الغبطة بكثرة السنين، وإنَّما الغبطة بما أمضاه العبد منها في طاعة الله تعالى، إذ علينا أن نستقبل أيَّامنا وشهورنا وأعوامنا بطاعة ربِّنا، ومحاسبة أنفسنا وإصلاح ما فسد من أعمالنا.
وإنَّ من بديع حكمة الله تعالى أن جعل طرفي العام شهرين محرَّمين، وهما شهر ذي الحجة في خاتمة العام وشهر المحرَّم في فاتحة العام، فكأنَّ في ذلك إشعارًا للمؤمن بأن يختم عمله بالخير ويفتتحه بالخير، فقد هيَّأ الله له في فاتحة كلِّ عام وفي خاتمته شهرًا محرَّمًا تعظَّم فيه الأجور على الطاعات، كما تعظَّم فيه الحرمات، قال الله تعالى: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِعِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ”، وشاهد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم”.
والمقصود أنَّ الله تعالى قد جعل خاتمة كلِّ عام وفاتحته موطنًا يغتنمه العبد للتوبة وإصلاح الحال والزيادة في الخير. فإنَّه إذا افتتح السنة بالطاعة وختمها بالطاعة يرجى أن يكتب له عامه ذاك كلُّه طاعة. فإنَّ من كان أوُّل عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.
قال قتادة: “إنَّ الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواه، وإن كان الظلم على كلِّ حال عظيما، ولكن الله يعظمُّ من أمره ما يشاء”.
وقال ابن عباس: رضي الله عنه “فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ” أي: لا تظلموا أنفسكم في كلِّهنَّ، ثمَّ اختصَّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهنَّ حرما، وعظَّم حرماتهنَّ، وجعل الذنب فيهنَّ أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم ولله ذر القائل:
قطعتَ شهور العام لهوًا وغفلةً ** لم تحـترم فيـما أتيت المحـرَّمـا
فلا رجبًا وافـيت فيه بحـقِّه *** لا صمت شهرَ الصوم صومًا متمِّما
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة *** تبكي عليها حـسرة وتنـدُّما
وتستقبل العام الجديد بتوبـة *** علَّك أن تمحـو بها مـا تقـدَّما.
فاغتنم يا أخا الإيمان هذا الشهر المحرَّم للتوبة النصوح تمحُ ما سلف من الذنوب والخطيئات السالفة في الأيام الخالية،وكل عام وأنتم بخير.
الدعاء…