الهجرة النبوية الشريفة.. دروس وعبر

إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَهْدِيهِ ونَشْكُرُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيْهِ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنا وسَيِّئاتِ أَعْمالِنَا، مَن يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ. وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ ولا مَثيلَ لَه ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا وحَبِيبَنا وعَظِيمَنا وقائِدَنا وقُرَّةَ أَعْيُنِنا محمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ وصَفِيُّهُ وحَبِيبُهُ، بَلَّغَ الرِّسالَةَ وأَدّى الأَمانَةَ ونَصَحَ الأُمَّةَ فَجَزاهُ اللهُ عَنّا خَيْرَ ما جَزَى نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنا محمَّدٍ صَلاةً تَقْضِي بِها حاجاتِنا وتُفَرِّجُ بِها كُرُباتِنا وتَكْفِينا بِها شَرَّ أَعْدائِنا وسَلِّمْ عَلَيْهِ وعَلَى ءالِهِ سَلامًا كَثِيرا.

أَمّا بَعْدُ عِبادَ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ ونَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، والسَّيْرِ عَلى خُطَى رَسُولِهِ الكَرِيم، يَقُولُ اللهُ تَعالى في مُحْكَمِ كِتابِه ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا. فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى، وَكَلِمَةُ اللهِ هِىَ الْعُلْيَا، وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [سورة التوبة: 40].
إِخْوَةَ الإِيمانِ إِنَّ كَلامَنا اليَوْمَ عَنْ مُناسَبَةٍ مُهِمَّةٍ كَلامُنا عَنْ شَيْءٍ مِنْ سِيرَةِ المُصْطَفَى صَلَواتُ رَبِّي وسَلامُهُ عَلَيْهِ كَلامُنا عَنِ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ المُبارَكَةِ وإِنَّ الدُّرُوسَ المُسْتَفادَةَ مِنْ سِيرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَثِيرَةٌ، كَيْفَ لا والكَلامُ عَنْ سِيرَةِ أَفْضَلِ الناسِ وخَيْرِ الناسِ سَيِّدِنا محمدٍ صَلّى اللهُ عليه وسلَّم، كَيْفَ لا والكَلامُ عَنْ سِيرَةِ خاتَمِ الأَنْبِياءِ وسَيِّدِ المُرْسَلِينَ وحَبِيبِ رَبِّ العالَمِين.
فَسَيِّدُنا محمدٌ إِخْوَةَ الإِيمانِ اصْطَفاهُ اللهُ بِالرِّسالَةِ وأَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ والإِنْذارِ فَدَعا الناسَ إِلى دِينِ الإِسْلامِ دِينِ جَمِيعِ الأَنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ دِينِ التَّوْحِيد، دَعا الناسَ إِلى عِبادَةِ اللهِ الواحِدِ الَّذِي لا شَرِيكَ لَهُ ولا شَبِيهَ لَهُ ولا مَثِيلَ لَهُ ولا صاحِبَةَ لَهُ ولا وَلَدَ ودَعا الناسَ إِلى العَدْلِ إِلى الإِحْسانِ إِلى مَكارِمِ الأَخْلاقِ كَما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسلامُ إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأَخْلاقِ اهـ (رَواهُ البَيْهَقِيّ).
وقَدْ تَحَمَّلَ حَبِيبُنا المُصْطَفَى أَيُّها الأَحِبَّةُ في سَبِيلِ الدَّعْوَةِ الشَّىْءَ الكَثِيرَ المَصاعِبَ الكَبِيرَة، دَعا الناسَ جِهارًا فَكانَ يُكَلِّمُ الناسَ في المَواسِمِ الَّتي يَجْتَمِعُونَ فِيها ويَقُولُ أَيُّها الناسُ قُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ تُفْلِحُوا اهـ دَعا قَوْمَهُ بِصَبْرٍ وثَباتٍ مَعَ إِيذائِهِمْ لَهُ وكَيْدِهِمْ لَه، رَمَوْا عَلى ظَهْرِهِ سَلَى جَزُور (رَواهُ البُخارِيُّ) أَيْ كِيسَ وَلَدِ الناقَةِ وصَبَرَ ولَمْ يَتَخَلَّ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلى الله، ضُرِبَ بِالحِجارَةِ وصَبَرَ ولَمْ يَتَخَلَّ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلى الله، عُرِضَ عَلَيْهِ المالُ والجاهُ ولَمْ يَتَخَلَّ عَنْ دِينِ الله، هُدِّدَ بِالقَتْلِ فَلَمْ يَتَخَلَّ عَنِ الدَّعْوَة، قالَ المُشْرِكُونَ لأَبي طالِبٍ “يا أَبا طالِبٍ ماذا يُرِيدُ ابْنُ أَخِيكَ؟ إِنْ كانَ يُرِيدُ جاهًا أَعْطَيْناهُ فَلَنْ نُمْضِيَ أَمْرًا إِلاّ بَعْدَ مَشُورَتِه، وإِنْ كانَ يُرِيدُ مالاً جَمَعْنا لَهُ المالَ حَتَّى يَصِيرَ أَغْنانا، وإِنْ كانَ يُرِيدُ المُلْكَ تَوَّجْناهُ عَلَيْنا” فَأَجابَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ بِالجَوابِ المَشْهُورِ وَاللهِ يا عَمُّ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ في يَمِينِي والقَمَرَ في شِمالي ما تَرَكْتُ هَذا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلِكَ دُونَه .
أَيُّها الأَحِبَّةُ لَقَدْ ثَبَتَ حَبِيبُ اللهِ ثَباتًا يَتَضاءَلُ أَمامَهُ ثَباتُ الجِبالِ الراسِياتِ، فَٱتَّفَقَ المُشْرِكُونَ عَلَى قَتْلِهِ وجَمَعُوا مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلاً جَلْدًا قَوِيًّا لِيَضْرِبُوهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ واحِدٍ حَتَّى يَتَفَرَّقَ دَمُهُ بَيْنَ القَبائِل، فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وأَخْبَرَهُ بِكَيْدِ المُشْرِكِينَ وأَمَرَهُ بِأَنْ لا يَبِيتَ في مَضْجَعِهِ الَّذِي كانَ يَبِيتُ فِيه، فَدَعا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأَمَرَهُ أَنْ يَبِيتَ عَلَى فِراشِهِ ويَتَسَجَّى بِبُرْدٍ لَهُ أَخْضَر، فَفَعَلَ، وأَمَرَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، ثُمَّ خَرَجَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَوَكِّلاً عَلَى اللهِ والكُفّارُ عَلَى بابِهِ وهُوَ يَقْرَأُ قَوْلَ اللهِ تَعالى (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) إِلى قَوْلِهِ تَعالى (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) سُورَةُ يس. فَأَخَذَ اللهُ بِأَبْصارِهِمْ عَنْ نَبِيِّهِ وجَعَلَ يَذُرُّ حَفْنَةً مِنْ تُرابٍ كانَتْ بِيَدِهِ عَلَى رُؤُوسِهِمْ فَلَمْ يَرَوْا خُرُوجَهُ صَلّى اللهُ عليه وسلَّم.

وَٱخْتارَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَبا بَكْرٍ حَبِيبَهُ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِيُرافِقَهُ في الهِجْرَة، وصارَ أَبُو بَكْرٍ أَيُّها الأَحِبَّةُ يَمْشِي ساعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وساعَةً خَلْفَهُ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ يا رَسُولَ اللهِ أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ ثُمَّ قالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ “وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ما كانَتْ لِتَكُنْ مِنْ مُلِمَّةٍ إِلاَّ أَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ لي دُونَكَ”.
فَلَمّا وَصَلاَ إِلى غارِ ثَوْرٍ إِخْوَةَ الإِيمانِ قالَ صاحِبُ رَسُولِ اللهِ لِحَبِيبِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ “وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لا تَدْخُلُهُ حَتَّى أَدْخُلَهُ فَإِنْ كانَ فِيهِ شَىْءٌ نَزَلَ بي قَبْلَكَ”، فَدَخَلَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا ثُمَّ دَخَلاَ الغارَ. ويُرْوَى أَنَّهُ كانَ فِيهِ خَرْقٌ فَخَشِيَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَىْءٌ يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَجَعَلَ عَلَيْهِ قَدَمَهُ فَجَعَلَتْ حَيَّةٌ تَضْرِبُهُ وتَلْسَعُهُ حَتَّى صارَتْ دُمُوعُهُ تَنْحَدِرُ ]دَلائِلُ النُّبُوَّة[ وهُوَ لا يُزِيحُ رِجْلَهُ ولا يَرْفَعُها.
فَلَمّا وَصَلَتْ رِجالُ قُرَيْشٍ إِلى الغارِ قالَ أَبُو بَكْرٍ “يا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إِلى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنا تَحْتَ قَدَمَيْهِ” فَقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَا أَبا بَكْرٍ ما ظَنُّكَ بِٱثْنَيْنِ اللهُ ثالِثُهُما ـ .
ورَوَى البَيْهَقِيُّ في دَلائِلِ النُّبُوَّةِ أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِشَجَرَةٍ في لَيْلَةِ الغارِ فَنَبَتَتْ أَمامَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَسَتَرَتْهُ، وأَمَرَ اللهُ العَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ عَلى فَمِ الغارِ فَسَتَرَتْهُ عَلَيْهِ السَّلام، وأَمَرَ اللهُ حَمامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَوَقَفَتا بِفَمِ الغارِ، وأَقْبَلَ فِتْيانُ قُرَيْشٍ بِعِصِيِّهِمْ وهَراواتِهِمْ وسُيُوفِهِمْ حَتَّى إِذا اقْتَرَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عليه وسَلَّمَ جَعَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَنْظُرُ في الغارِ فَرَأَى نَسْجَ العَنْكَبُوتِ عَلى فَمِ الغارِ ورَأَى عِنْدَ مَدْخَلِهِ الحَمامَتَيْنِ فَرَجَعَ إِلى أَصْحابِهِ فَقالُوا لَهُ مالَكَ لَمْ تَنْظُرْ في الغارِ فَقالَ رَأَيْتُ حَمامَتَيْنِ بِفَمِ الغارِ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَد.
وبَعْدَما هَدَأَ الطَّلَبُ تابَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هِجْرَتَهُ إِلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ فَوَصَلَها سالِمًا في يَوْمِ الاِثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ حَيْثُ وَجَدَ فِيهِ أَنْصارًا ءازَرُوهُ وحَمَوْا دَعْوَتَهُ وبَذَلُوا النُّفُوسَ والأَمْوالَ دُونَها حَتَّى انْتَشَرَتْ في المَشارِقِ والمَغارِبِ جَزاهُمُ اللهُ خَيْرًا ورَضِيَ عَنْهُم. إِخْوَةَ الإِيمانِ لَقَدْ حَمَى اللهُ تَعالى حَبِيبَهُ بِخَيْطِ العَنْكَبُوتِ، حَمَى اللهُ تَعالى حَبِيبَهُ بِأَضْعَفِ وأَوْهَنِ البُيُوتِ بَيْتِ العَنْكَبُوتِ فَسُبْحانَ المَلِكِ القُدُّوسِ الفَعّالِ لِما يُرِيد. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات، من كلِّ الذنوب والخطايا والسيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه كان توابًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله الملك القدُّوس السلام، مُجري الليالي والأيام، ومُجدِّد الشهور والأعوام، أحمده تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل شهر المحرَّم فاتحة شهور العام، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله سيد الأنام، وبدر التَّمام، ومِسْك الختام، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله البَرَرَة الكِرام، وصَحْبِه الأئمَّة الأعلام، والتَّابعين ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ ما تعاقب النُّور والظَّلام.

معاشر المسلمين:
ما أجمل أن نشير إشارات عابرة لعدد من القضايا المهمَّة الجديرة بالإشادة والتَّذكير ونحن في بداية هذا العام الجديد، علَّها تكون سببًا في شَحْذ الهِمَم، واستنهاض العزم للتمسُّك الجادِّ بكتاب الله وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وحاملةً على الاتِّعاظ والاعتبار، ووقفاتِ المحاسبة الدقيقة، ونظراتِ المراجعة المستديمةِ في الأمَّة، تجديدًا في المواقف، وإصلاحًا في المناهج، وتقويمًا للمسيرة في كافَّة جوانبها.

إخوة العقيدة:
أوَّل هذه الإشارات: الحدث الذي غيَّر مجرى التاريخ، الحدث الذي يحمل في طياته معاني الشجاعة والتَّضحية والإباء، والصَّبر والنَّصر والفداء، والتوكُّل والقوَّة والإخاء، والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، إنَّه حَدَثُ الهجرة النبويَّة، الذي جعله الله – سبحانه – طريقًا للنَّصر والعزَّة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته، وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يُشِعَّ في جميع أرجاء المعمورة لو بقيَ حبيسًا في مَهْدِه، ولله الحكمة البالغة في شَرْعِه وكَوْنِه وخَلْقِه.
إنَّ في هذا الحدث العظيم من الآيات البيِّنات والآثار النيِّرات والدروس والعِبَر البالغات ما لو استلهمته أمَّة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطُّرُق؛ لتحقَّق لها عزُّها وقوَّتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنَّه لا حلَّ لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها إلاَّ بالتمسُّك بإسلامها، والتزامها بعقيدتها وإيمانها.
أمَّة التَّوحيد والوَحْدة: لقد أكَّدت دروس الهجرة النبويَّة أنَّ عزَّة الأمَّة تكمن في تحقيق كلمة التَّوحيد، وتوحيد الكلمة عليها، وأنَّ أيَّ تفريطٍ في أمر العقيدة أو تقصيرٍ في أخوَّة الدِّين مآله ضعف الأفراد وتفكُّك المجتمع وهزيمة الأمَّة.

أمَّة الإسلام:
ودرسٌ آخَر من دروس الهجرة النبويَّة، يتجلَّى في أنَّ عقيدة التَّوحيد هي الرَّابطة التي تتضاءل أمامها الانتماءات القوميَّة والتمايزات القَبَلِيَّة والعلاقات الحزبيَّة، واستحقاق الأمَّة للتبجيل والتَّكريم مدينٌ بولائها لعقيدتها وارتباطها بمبادئها.

إخوة الإيمان:
وفي مجال تربية الشَّباب والمرأة، وميدان البيت والأسرة – يبرز الأثر العظيم في حدث الهجرة المصطفَوِيَّة، على صاحبها أفضل الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم؛ ففي موقف عبدالله بن أبي بكر رضيَ الله عنهما، في خدمة ونُصْرَة صاحب الهجرة عليه الصَّلاة والسَّلام – بأبي هو وأمي – ما يجلِّي أثرَ الشَّباب في الدَّعوة، ودورهم في الأمَّة ونُصْرة الدِّين والملَّة
أيُّها الإخوة والأخوات:
وفي موقف أسماء بنت أبي بكر – رضيَ الله عنها، ورضيَ الله عن آل أبي بكر وأرضاهم – ما يجلِّي دورَ المرأة المسلمة في خدمتها لدينها ودعوتها.

أيُّها الأحبَّة في الله:
وإشارةٌ أخرى إلى أمرٍ يتعلَّق بحَدَث الهجرة النبويَّة، في قضيةٍ تعبِّر بجلاءٍ عن اعتزاز هذه الأمَّة بشخصيتها الإسلاميَّة، وتُثبِت للعالم بأسره استقلال هذه الأمَّة بمنهجها المتميِّز المستَقى من عقيدتها وتاريخها وحضارتها، إنها قضيَّةٌ إسلاميَّةٌ، وسنَّةٌ عُمَرِيَّة أجمع عليها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب – رضيَ الله عنه – إنَّها التَّوْقيت والتَّأريخ بالهجرة النبويَّة المبارَكة، وكم لهذه القضيَّة من مغزًى عظيم يَجْدُر بأمَّة الإسلام اليوم تذكُّره والتقيُّد به.
فإلى الذين تنكَّروا لثوابتهم وخدشوا بهاء هُوِيَّتهم، وعملوا على إلغاء ذاكرة أمَّتهم، وتهافتوا تهافتًا مذمومًا، وانساقوا انسياقًا محمومًا خلف خصومهم، وذابوا وتميَّعوا أمام أعدائهم، ننادي نداءَ المحبَّة والإشفاق: رويدكم؛ فنحن أمَّة ذات أمجاد وأصالة، وتاريخ وحضارة، ومنهج متميِّز مُنْبَثِق من كتاب ربِّنا وسنَّة نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا مساومةَ على شيءٍ من عقيدتنا وثوابتنا وتاريخنا، ولسنا بحاجةٍ إلى تقليد غيرنا؛ بل إن غيرُنا – في الحقيقة – بحاجة إلى أن يستفيد من أصالتنا وحضارتنا .

أيُّها الإخوة المسلمون:
وثالث هذه الإشارات إلى حدث عظيم في شهر الله المحرَّم، فيه درسٌ بليغٌ على نصرة الله لأوليائه وانتقامه من أعدائه مهما تطاولوا، إنَّه حدث قديم، لكنَّه بمغزاه متجدِّدٌ عبر الأمصار والأعصار، إنه يوم انتصار نبيِّ الله وكليمه موسى عليه السَّلام وهلاك فرعون الطاغية، وكم في هذه القصة من الدروس والعِبَر والعظات والفِكَر للدعاة إلى الله في كلِّ زمانٍ ومكان، فمهما بلغ الكَيْد والأذى والظُّلْم والتسلُّط؛ فإن نصر الله قريبٌ.

أيُّها الإخوة في الله:
إشارةٌ رابعةٌ إلى فاتحة شهور العام؛ شهر الله المحرَّم، إنه من أعظم شهور الله – جلَّ وعلا – عظيم المكانة، قديم الحُرْمَة، رأس العام، من أشهر الله الحرام، فيه نصَرَ الله موسى وقومه على فرعون وملئه، ومن فضائله: أنَّ الأعمال الصَّالحة فيه لها فضلٌ عظيمٌ، لا سيَّما الصِّيام؛ فقد روى الإمام مسلم في “صحيحه” من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضيَ الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “أفضل الصِّيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم، وأفضل الصَّلاة بعد الفريضة صلاة اللَّيل.”
وأفضل أيام هذا الشَّهر – يا عباد الله – يوم عاشوراء، وفي “الصحيحَيْن” عن ابن عبَّاسٍ – رضيَ الله عنهما – قال: “قدم النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – المدينة، فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء؛ فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)). قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا؛ فنحن نصومه. فقال: “نحنُ أحقُّ بموسى منكم”؛ فصامه وأمر بصيامه.
وفي “صحيح مسلم” عن أبي قَتادة – رضيَ الله عنه – أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم –  سُئل عن صيام يوم عاشوراء؛ فقال: “أحتسبُ على الله أن يكفِّر السَّنة التي قبله”.
لذا يستحبُّ للمسلمين أن يصوموا ذلك اليوم اقتداءً بأنبياء الله، وطلبًا لثواب الله، وأن يصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده؛ مخالفةً لليهود، وعملاً بما استقرَّت عليه سنَّة المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم –  فيا له من عملٍ قليلٍ وأجرٍ كبيرٍ وكثيرٍ من المُنعِم المتفضِّل سبحانه!

إنَّ في الحوادث لعِبَرا، وإنَّ في التاريخ لخَبرا، وإنَّ في الآيات لنُذُرا، وإنَّ في القَصَص والأخبار لمُدَّكَرًا ومُزْدَجَرا، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) سورة يوسف: 111.
هذا، واعلموا – رحمكم الله – أنَّ من أفضل الطَّاعات وأشرف القُربات كثرة صلاتكم وسلامكم على خير البريَّات، صاحب المعجزات الباهرات، والآيات البيِّنات؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم – جلَّ وعلا – فقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) الأحزاب: 56.

اللهُمَّ صَلِّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنك حميد مجيد، اللهم بارِكْ على سيّدِنا محمَّــدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيــمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ،. اللهـــــم وفق وانصر ملك البلاد أمير المومنين محمد السادس لما تحـــــب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى، واحفظه في ولي عهـــــــــده وشد أزره بأخيه وأسرته وشعبه ..

اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخــرة.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسـن عبادتك واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه..

وارض اللهم عن كافة الصحابة من المهاجرين والأنصار وعن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الستة الباقين من العشرة الكرام البررة الذي شهد لهم رسول الله بالجنة.اللهم انفعنا بمحبتهم، ولا تخالف بنا عن نهجهم، يا خير مسؤول ويا خير مأمول..

اللهم ارزقنا الفقه في الدين، والتمسك بالكتاب المبين، والاقتداء بسيد المرسلين، والسير على نهج أسلافنا الصالحين..  

اللهُمَّ إنّا دعوناكَ فاسْتَجِبْ لنا دُعاءنا فاغفر اللهم لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وتوفّنا وأنت راضٍ عنّا، اللهمَّ من أحييته منّا فأحيهِ على الإسلام ومن توفّيتهُ منّا فتوفَّهُ على كاملِ الِإيْمان،

اللهمّ لا تدعْ لنا في يومنا هذا ذنّبًا إلا غفرته ولا مريضًا إلا شفيته يا أرحم الرّاحمين، يا أرحم الرّاحمين.

اللهم  استُر عوراتنا وآمن روعاتنا واجعلنا من عبادك الصّالحين، اللهُمَّ إنّا نسألك التُّقى والنَّقى والعفافَ والغِنى،  اللهُمَّ اجعلنا من عبادك المتخلقين بأخلاق نبيك المصطفى وشمائله العظيمة. وأكرمنا برؤية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم في المنام وشفِّعه فينا، اللهُمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنَّك سميع قريبٌ مجيب الدعوات. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *