عرفات والأضحى
الحمد لله، الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل مكان، يسأله من في السماوات والأرض، كل يوم هو في شأن، جعل عدة الشهور إثني عشر شهرا منها أربعة حرم،
وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان، نحمده تعالى ونشكره على الدوام،
ونشهد أن لا إله إلا الله الملك القدوس السلام، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق فيما أخبر به عن رب الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام، وسلم تسليما كثيرا،
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون: تكلمنا فيالجمعة الماضية عن فضل هذه الأيام العشر المباركات من شهر ذي الحجة، وبيننا فضل التقر إلى الله تعالى بألوان العمل الصالح من الإكثار من نوافل الطاعات، كالصلاة والصيام، والنفقة على الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل وذوي الأسقام، يام إن أجمل ما يغبط عليه المؤمن، وخير ما يتمنى المسلم لنفسه ولأخيه المسلم، ويرجو له التشبع والتزود منه هو أن يراه جادا في طاعة الله مشغولا قلبه ولسانه وفكره وسائر جوارحه بما فيه مرضاة الله، ومن نعم الله علينا أن الله سبحانه وتعالى قد أفسح لنا المجال وهيأ لنا مختلف الفرص للتزود منها على كل حال، وأوسع هذه المجالات وأرحبها ما هيأته الشريعة الإسلامية الغراء للمسلمين في هذه الأيام الطاهرة، أيام العشر الأوائل من شهر ذي الحجة،
فقد كان الجاهليون قبل الإسلام يعظمونها، ويعملون فيها من الأعمال ما يخلد ذكراها، فكانوا يضعون السيوف في أغمادها، وتضع الحرب فيها أوزارها، فلا يحاربون بعضهم أو غيرهم تكريما لها، حتى تكون الأيام سلما والبلاد أمنا، والنفوس مطمئنة مستقرة، وجاء الإسلام فأبقى لها فضلها، وأضفى عليها من ألوان الخير والبر والإحسان ما يرفع شأنها ويحيي في نفوس الناس آثارها، لذا أقسم الله عز وجل بها فقال: “والفجر وليال عشر”، وإنما أقسم الله بها إيذانا بفضلها وتشريفا لها على غيرها، ومعلوم أن فضل الأيام والليالي التي فضلها الله تعالى إنما يعود بالخير والبركة على الذين يعرفون قيمتها، وكيف يستغلون أوقاتها، لأن الله تعالى يبارك فيها عمل العاملين، ويجزل فيها العطاء للشاكرين، ويضاعف الأجر للمخلصين،
روى الإمام البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر من ذي الحجة، قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال:ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء من ذلك”، أيها الإخوة المؤمنون: ها هي ذي الفرصة الآن سانحة لمن لم يدرك فضيلة الجهاد في سبيل الله بنفسه وماله، ولمن لم تهيأ له ظروف اللحاق بمن أنعم الله عليهم بالحج من عباده، فمن فاته هذا الخير وذاك الإكرام فعليه أن يغتنم الفرصة قبل فوات الأوان، وأن يولي وجهه وجهة العمل الصالح في هذه الأيام المباركة يغتنم من الأعمال ما يرجح ميزان حسناته، ويضاعف أجره على صالح أعماله،
فموائد العمل الصالح في هذه الأيام مهيأة، ولمن يرغب فيها ويجد في طلبها حاضرة، قطوفها دانية، وألوانها متنوعة شهية، فمن رغب عن لون منها وجد في غيرها بغيته وضالته، فمن هذه الأنواع الزائدة عن الصيام والقيام في هذه الأيام، إطعام الطعام وإفشاء السلام، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والتصدق بالمال على الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام،
ويكفي الأيام العشر من هذا الشهر فضلا وفخرا وزينة أن بينها يوما مشهودا هو يوم عرفة، ذلكم اليوم الخالد بخلود الزمن، الباقي ما بقيت الأيام والأعوام، إنه يوم الموقف العظيم، الذي يقف فيه الحجاج بين يدي ربهم الكريم بقلوب واجفة وأعين بالدموع واكفة، وألسنة بالذكر لاهجة، وبالدعاء إلى الله ضارعة، يجتمعون فيه من أقطار الدنيا، مشرقها ومغربها يرجون رحمة الله، ويخشون عذابه، فينزل الله عليهم الرحمات ويغفر لهم جميع السيئات، ويباهي بهم ملائكة السماوات،
ففي صحيح مسلم عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من يوم أفضل عند الله تعالى من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ضاحين ـ بارزين إلى الشمس ـ جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم ير يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة، وروى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن يوم عرفة،”إن الله عز وجل تفضل في هذا اليوم فغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم” وإنما كان يوم عرفة يوم المغفرة الشاملة لأن الحج يكمل بالوقوف فيه،
وهو ركن الحج الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم: “الحج عرفات”، ويوم عرفة هو اليوم المشهود الذي من الله فيه على عباده المسلمين بإكمال دينهم ورضي لهم الإسلام دينا، وكان من بركة هذا اليوم أن قلد الله فيه أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسام الكمال، فنزل فيه قوله تعالى : “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي رضيت لكم الإسلام دينا”، في يوم عرفة تجتمع الألوف المؤلفة من المسلمين، على اختلاف طبقاتهم فوق صعيد واحد، أجناسهم ولغاتهم وبلادهم مختلفة، خاشعين متحابين متجردين من فاخر الثياب، مبتعدين عن الرتب والألقاب، متحدين في وجهتهم وعبادتهم إلى رب الأرباب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، لا يبتغون إلا رحمته، ولا يرجون إلا غفرانه، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم، وأبيضهم وأسودهم، كلهم قد أطلق لسانه بالذكر والدعاء والتلبية.
وصيامه لغير الحاج سنة مؤكدة، فاللهم اهدنا الصراط المستقيم، واحشرنا في زمرة النبيئين والصديقين، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
فيا أيها الإخوة المؤمنون، لقد ختم الله الأيام العشرمن هذا الشهر بيوم عيد، عيد الأضحى المبارك السعيد، وهو جدير بهذه التسمية الكبيرة، جدير بالحفاوة به وبالفرح والسرور في رحابه، لأنه يدكرنا بيأس المشركين من إحباط دعوة الرسول الأمين محمد صلى الله عليه وسلم ، دعوة التوحيد، دعوة الحق، دعوة عبادة الله وحده لا شريك له، وقطع أطماع الملحدين في النيل من رسالة خاتم النبيئين والمرسلين، وإكمال الدين وإتمام النعمة على المسلمين، قال تعالى: “اليوم يئس الذين كفروا من دينكم، فلا تخشوهم واخشون، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمي ورضيت لكم الإسلام دينا”،
أما التشريعات الخاصة بهذا العيد فهي أمور تعبدية دائمة متكررة، جعلها الله مظهرا من مظاهر الفرح الإيماني وتعبيرا واضحا عن الإبتهاج اليقيني، منها الصلاة الجامعة المعروفة بصلاة العيد، وتمتاز عن الصلوات الأخرى بكونها تقع في المصلى، يذهب إليها الناس رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير حتى يحين وقت الصلاة،
ثانيا التكبير سبع مرات بعد تكبيرة الإحرام وقبل الفاتحة في الركعة الأولى وخمس مرات بعد تكبيرة القيام في الركعة الثانية،
ثالثا الخطبة بعد الصلاة لحث الناس على الأخلاق الفاضلة، والتشبث بمبادئ الدين القيمة،
رابعا الأضحية وهي ما يذبح أو ينحر تقربا إلى الله عز وجل ، وهي سنة مؤكدة يشترط في فاعلها القدرة على ثمنها، وإلا فلا تسن على من لا استطاعة له على شرائها، ويشترط في الأضحية سلامتها من العيوب، فلا تصح بالعمياء ولا بالعوراء ولا بالعرجاء ولا بالجعفاء، وغير ذلك من العيوب، ووقتها يوم العيد وثانيه وثالثه،
وتدبح بعد الصلاة، وبعد أن يذبح الإمام أضحيته، ولا تصح قبل ذلك، فمن ذبح قبل الصلاة فقد خالف سنة محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول: “من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة والخطبتين قفد أتم نسكه، وأصاب سنة المسلمين” ، ومن باع جلدها أو شيئا منها فلا أضحية له،
وللأضحية ذكريات خالدة ذات أثر عظيم في تقوية الروح الدينية ومضاءة العزيمة القوية الإسلامية، إنها تذكير بقصة سيدنا إبراهيم عندما أمر بذبح ابنه اسماعيل، ففداه الله بذبح عظيم،
واعلموا أيها المسلمون أن العيد ليس لمن لبس الجديد، وتلذذ بالطعام والشراب ونشر القديد، والمساكين والمحتاجون ينظرون إليه من بعيد، ولكنه لمن عرف حق الله على العبيد، فضحى وأنفق وأطعم منها البائس والفقير واليتيم، وقدم ذلك استعدادا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم،
والعيد لمن ظفر بقول الله تعالى: “هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمان بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد”.
الدعاء…