ليلة القدر، وزكاة الفطر
الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، كتب الصيام وسن القيام على عباده المؤمنين، ومنح البركة وأجزل الخيرات للطائعين الذين يصدقون بيوم الدين، ويعملون ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، نحمده تعالى ونشكره على مر السنين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خص أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر العظيم بمزايا وعطايا وبليلة القدر التي أنزل فيها القرآن المبين، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، كان أشد الناس حرصا على إقامة شعائر الدين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وسلم تسليما كثيرا،
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، هاهو ذا شهر الصيام والقيام وامتثال أوامر الرحمن قد أوشك على الإنقضاء، ولم يبق منه إلا أيام قلائل سريعة الإنتهاء، فهل قمتم فيه بما أمرتم به؟، وهل اتقيتم الله ربكم وأديتم حقوقه التي أوجبها عليكم وحافظتم على آداب الصيام التي تزكي أعمالكم؟، وهل صمتموه إيمانا واحتسابا كما أخبركم نبيكم الذي قال: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”، وهل أحسنتم فيه لأنفسكم بمعاملتكم مع الكبير والصغير، والغني والفقير، والبصير والضرير، وحافظتم على حقوق الجار والأجير، لأن الصيام الحقيقي له تأثير، فهو ينور القلب و يهذب النفس ويقوي العزيمة ويعرف العبد مقدار النعمة، ويملآ القلب رحمة ويحرك الشعور نحو فعل الخير من أجل نيل الدرجة ودفع النقمة، فهل أحسنتم فيه إلى الفقراء والمحتاجين، وبررتم الآباء والأمهات والمساكين، وحصلتم فيه على رضى رب العالمين الذي يقول: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
أيها المسلمون، لقد كان الكثير منا ينتظر انقضاء شهر الصيام باليوم والساعة ويقلق لأتفه الأسباب ويخرج عن الطاعة، وذلكم لكونه لم يذق طعم الإيمان، ولم يطمئن قلبه بما افترضه عليه الملك الديان الذي يقول في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”، فكيف يرجو أجر الصيام أيها المسلمون من يضجر من طول الأيام، وكيف يطمع في الإعتاق من النار من يستكثر صيام شهر رمضان، وقد كان سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم يقول: “لو تعلم أمتي ما في رمضان من الخير لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان”، وكيف يفوز بالعفو والغفران من كان فظا غليظ القلب بديء اللسان، لم يرأف بأحد ولم ير من خيره وبره وعطفه أي إنسان، وقد علمتم أن الصيام يصلح القلب ويهذب النفس ويقوي الأبدان ويجلب لصاحبه الكرامة والرضوان، وهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان،
لقد انقضى شهر القيام بالقرآن والتلذذ بسماعه في ليالي رمضان، لقد انقضى شهر الصفح والعفو والتجاوز عن الإخوان وصلة الأرحام وإطعام الطعام والتوبة قبل فوات الأوان، لأن ربكم الذي هو أدرى بكم منكم يحب التوابين ويحب المتطهرين والسباقين إلى الإحسان، وهو سبحانه وتعالى الذي يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ويقول: “وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون”، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له”،
ومن فاته شيء من فضائل رمضان فإن أمامه فرصة ثمينة قلما يجود بها الزمان، إنها ليلة القدر الساطعة البرهان التي جعلها الله بداية لنزول القرآن، قال تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر”، ما صادفها إنسان وسأل الله فيها شيئا من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، فالتمسوها إخواني في ما تبقى من الليالي، وتننافسوا فيها بالأعمال الصالحة تنافسكم في جلب الربح الكثير في بيوتكم ومساجدكم القريبة منكم، وإياكم وكثرة الجولان فإنه يضيع عليكم الفرص، روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم”،
وقد تواطأت الأخبار والآثار على أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان متحريها فليتحرها ليلة السابع والعشرين”، وعن أبي بن كعب أنه قال: “والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان، ووالله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها وهي ليلة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها”، وقال صلى الله عليه وسلم: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفرله ما تقدم من ذنبه”، وعن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟، قال صلى الله عليه وسلم: “قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”،
واعلم أخي الصائم وأختي الصائمة أنك لن تظفر بهذا الفضل الكثير والعطاء الجزيل إلا إذا قمتها وأحييتها بالعبادة المتنوعة، والإخلاص لله بالأعمال المشروعة، والتوجه إلى الله بالدعوات المأثورة. وعلى أمتنا الإسلامية أن تتخذ من شهر الصيام عامة ومن ليلة القدر المباركة خاصة منطلقا إلى أعمال البر والإحسان وإلى العودة إلى دستور الإسلام، وتحكيم مناهجه في كل شأن، وإكرام حفاظ القرآن الذين أكرمونا بسماعه في ليالي شهر الصيام وتشجيع دارسيه وطالبيه حتى تصبح ليلة القدر كما كانت عند السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ليلة القرآن حفظا ودراسة وتجويدا ومسابقة وقياما، بما يليق بمقامها عند الملك الديان، فأكثروا فيها من الذكر والإستغفار ورفع الأكف إلى الله العزيز الغفار ليهدينا جميعا إلى سواء السبيل، وأن يردنا ردا جميلا إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيئين والصديقيم والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وأن يهزم أعداء الإسلام والمسلمين، وأن يجعل كيدهم في نحورهم ببركة هذا الشهر العظيم، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، لقد شرع لكم ربكم في ختام هذا الشهر المبارك عبادات تزيدكم من الله قربا ومن المؤمنين حبا، ومن النار بعدا، ومن الأخيار صحبة، شرع لكم زكاة الفطر وهي فريضة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكبير والصغير والذكر والأنثى وعلى الغني والفقير والعبد والأجير،
وهي زكاة للأبدان وطهرة للصائم من اللغو والرفث ومن كل ما يصدر عن الإنسان من صغائر الآثام،
وهي شكر لله على إتمام الصيام وإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام تغنيهم عن ذل السؤال في يوم الإنتهاء من الصيام، يخرجها المسلم عن نفسه وعمن تلزمه نفقته من زوج وأولاد وآباء وخدم، ولا يلزم إخراجها عن الحمل الذي في البطن، ولا عمن مات في رمضان، ويخرجها المسلم في البلد الذي وافاه تمام الشهر فيه.
وإن كان من يلزمه أن يفطر عنهم في بلد وهو في بلد آخر فإنه يخرج فطرتهم مع فطرته، كما يجوز أن يفوضهم في إخراجها عنه وعنهم في بلدهم، ومن لزمت غيره فطرته فأخرجها هو عن نفسه فلا بأس،
ووقت إخراجها يبدأ بغروب شمس ليلة العيد ويستمر إلى صلاة العيد، لما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج زكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة”، وقال صلى الله عليه وسلم: “فرضت زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات”، ويجوز إخراجها قبل يوم العيد بيوم أو بيومين،
والمستحقون لها هم المستحقون للزكاة المفروضة في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)،
ومقدارها صاع من القمح أو الشعير أو الدقيق مما يقتات به أهل البلد، وهو الأفضل والأحسن عند العلماء، وهو ما كان عليه العمل عند السلف الصالح، ولا يجوز دفع القيمة إلا إذا كانت المصلحة تدعو إلى ذلك،
كما شرع الله الإكثار من التكبير عند إكمال الصيام بعد الإعلان عن العيد لقوله تعالى: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)،
وشرع الله لكم صلاة العيد وهي من تمام ذكر الله وشكره على الإتمام وعتق أهل الكبائر من الصائمين، فيلحق فيه المذنبين بالمحسنين، وذوي الأخطار من الذنوب بالأبرار وتعطى فيه الجوائز للصائمين القائمين والمجدين المجتهدين الذين أخلصوا فيه العمل لله رب العالمين، اللهم اجعلنا منهم، وممن “قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”.
الدعاء…