د. عادل حسن حمزة سعيد، الاستاذ المساعد بجامعة الزعيم الأزهري- جمهورية السودان

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله العليم الحكيم الكريم، الذي ملأ أوليائه بمحبته، واختص أرواحهم بشهود عظمته، وهيأ أسرارهم لحمل أعباء معرفته،

والصلاة والسلام على سيدنا محمد منبع العلوم والأنوار، ومعدن المعارف والأسرار، لاهوت الوصال وعين الكمال، وعلى آله وأصحابه الأبرار.
وبعد،
أيها الإخوة والأحباب، إخوتنا في الله وأحبابنا في جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخوتنا في مسيرتنا القاصدة إلى الله بإذن الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والتحية لكم من إخوان صدق من السودان، جمعت بينكم وبينهم وشائج الإسلام والأرحام حملونا إياها، وهم أشد منا توقا وشوقا إلى لقائكم ومشاركتكم هذا المحفل الصوفي الروحي المبارك، فجزى الله تعالى الإخوة والسادة القائمين على أمره خير الجزاء، خاصة صاحب العناية الإلهية والمعية النبوية سيدنا إسماعيل بصير، كما نشكر لهم كريم تفضلهم بدعوتنا وحسن استقبالهم وضيافتهم لنا، ونسأل الله أن نكون عند حسن ظنهم.
أيها الإخوة والأحباب:
فإذا كانت مهمة دعاة الإسلام المخلصين أن يعيدوا لهذا الدين روحه، وأن يفتحوا مغاليق القلوب، فما قصد الصوفية في كل عصر وزمان، إلا العودة بالمسلمين لظلال الأنس بالله تعالى، ونعيم مناجاته، وسعادة قربه، بإرجاع روحانية الإسلام إليه.
وإذا كان خصوم الإسلام قد عملوا على تشويه معالمه، وبتر مضمون أحكامه، والتعتيم على محاسنه وسمو أهدافه وغاياته، فإن الله أذن لدينه بالحفظ والبقاء، فتحطمت أقلامهم وذهبت الريح بدعواهم، وبقي التصوف منارة السالكين إلى الله عز وجل، ومنهجا ربانيا إيجابيا لنشر الإسلام وتدعيم بنيانه، إذا فهم فهما صحيحا، وطبق تطبيقا سليما، وفق قواعده وأسسه التي ما انفكت عن الكتاب والسنة البتة.
من أجل هذا وذاك نبعث أهمية التصوف كمنهج سلوكي لابد منه، يقول سيدي الشيخ أحمد زروق المغربي المالكي الشاذلي في كتاب قواعد التصوف، القاعدة الرابعة الصفحة الرابعة، ما نصه: “فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه، ولا هما إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما دونه، فلزم الجميع، لتلازمها في الحكم كتلازم الأرواح للأجساد ولا وجود لها إلا فيها، كما لا حياة إلا بها”.
•    مرجعية الصوفية مقتبسة من نور مشكاة النبوة:
اهتدى أهل التصوف في بناء منهجهم القائم على إرساء الأمن الفكري ونشر قيم التسامح والمحبة ونبذ العنف بكل صوره وأشكاله، بتعاليم الإسلام المستمد من القرآن الكريم والسنة المشرفة.
وفي مقدمة هذه المحاضرة، اذكر طرفا من عبارات أعلام الصوفية تؤكد التزامهم بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وحالا، فمن ذلك ما حكي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال لأحد أصحابه: “قم بنا حتى ننظر لهذا الرجل الذي شهر نفسه بالولاية، فلما خرج من بيته – أي الرجل- ودخل المسجد رمى ببصاقه تجاه القبلة، فانصرف أبو يزيد وقال: هذا ليس مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون مأمون على ما يدعيه؟”.
فإذا كان هذا حالهم في الاقتداء بالنبي صلى الها عليه وسلم والتأدب بأدبه في البصاق، وهو من أصغر الأشياء فكيف بالأمور التي تتصل بحرمة المؤمن وحياته ودمه وعرضه؟
ويقرر حجة الإسلام الإمام الغزالي عن تجربة شخصية، أن طريق الصوفية هو الذي يقود إلى اقتفاء أثر رسول الله فيقول: ” وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به، أني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به”.
والأقوال المنقولة والمأثورة عن مشائخ الصوفية، والتي يرشدون عبرها أتباعهم للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والتخلق بأخلاقه كثيرة جدا، بحيث يضيق المقام عن سردها واستقصائها لذا أكتفي بهذا القدر التي ذكرته.
وهذه الأقوال في مجملها تدل بلا ريب أو شك على أن الصوفية يتخلقون بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه مثلهم الأعلى في مكارم الأخلاق، خاصة فيما يتعلق بمعاملة الخلق معاملة تقوم على الرأفة والرحمة واللين والتسامح ودعوتهم إلى الله بالرفق واللطف والحكمة والموعظة الحسنة، لذا تمدد الإسلام على أيديهم دونما إكراه، وتقاطر الناس على سلوك الطريق الصوفي، فأصبحت الطرق الصوفية تنظيما واسعا يضم مختلف المجموعات البشرية في انصهار تام، فالتعايش الأخوي وتفهم الآخر والبعد عن التعالي والإقصاء للآخر هو من أهم خصائص الصوفية.

الطرق الصوفية في السودان:
لا يختلف اثنان في أن الطرق الصوفية قد شكلت وجدان معظم أهل السودان، وتركت آثارا متعددة ومتجددة في الحياة السودانية منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي، مما أكسب هذه الآثار أهمية خاصة في دراسة الأصول الفكرية للمجتمع والروافد المغذية والمؤثرة في تشكيل الشخصية السودانية، وارتباط ذلك بالمتغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية في الحقب التاريخية المختلفة.
وفدت الطرق الصوفية للسودان من عدة مصادر هي الحجاز ومصر وشمال وغرب أفريقيا. وفي المراحل الباكرة كان الأثر الصوفي الحجازي أقوى من سواه، وربما يكون مرد ذلك إلى القيمة الروحية للحجاز والأثر الوجداني العميق لذلك على السودانيين.
إن مرحلة دخول الطرق الصوفية كمؤسسات منظمة ذات تعاليم وأذكار وأوراد جماعية ومشتركة، قد سبقتها مرحلة اتجاه فردي في التصوف بهدف مجاهدة النفس وتطهيرها، وحتى الذين انخرطوا في حلقات الذكر ومراكز العلم الفقهي ونهلوا من رسالة أبي زيد القيرواني ومختصر خليل زاوجوا بين ذلك والتصوف، فاشتملت تراجمهم وسيرهم على عبارات تعكس هذا المنهج أو الاتجاه مثل: جمع بين العلم والتصوف أو جمع بين الشريعة والحقيقة أو جمع بين علوم الظاهر والباطن.
العلماء القراء والمتصوفة المغاربة وأثرهم في تاريخ السودان:
في أوائل القرن السادس عشر الميلادي التاسع الهجري جاء رواد من المغرب العربي إلى السودان.

الأثر السياسي:
عندما هاجر المغاربة إلى السودان، وجدوا أغلبية أهله من المسلمين وحكمائه من النصارى التابعين للكنيسة اليعقوبية (القبطية)، ووجدوا المسلمين عربانا رعاة ينتجعون الكلأ ويقصدون موارد المياه دون اهتمام بشؤون الحكم و سياسة السلطان، فبدأوا ببث الروح الديني وإثارة الوعي السياسي بين الناس فاستجاب بعض الزعماء لندائهم، فتحالف الفونج بزعامة عمارة دنقس مع مشيخة العبدلاب بقيادة الشيخ عبد الله جماع، زعيم قبائل القواسمة الرفاعية، وكونوا منهم جيشا قضى على دولة “عَلَوة” المسيحية، وأقام أول دولة إسلامية في السودان النيلي هي مملكة سنار في أوائل القرن السادس عشر 1505م.
الأثر الفقهي- المذهب المالكي:
المذهب المالكي هو المذهب السائد في السودان، بل الأندلس والمغرب العربي، وقد دخل بواسطة علماء المغاربة إلى السودان فصار هو السائد بينهم.
قراءة الدوري وورش:

انتقلت قراءتا أبي عمر الدوري وورش إلى السودان مع العلماء المغاربة المهاجرين، حيث إنهما القراءتان السائدتان في المغرب العربي.
الطرق الصوفية في السودان وصلتها بالمغرب العربي:
وفيما يلي نأخذ أمثلة ونماذج لبعض الطرق الصوفية ذات الجذور المغربية في أصلها ونشأتها وفي تأثيرها وتأثرها.

الطرق الشاذلية:
مؤسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه، وهو علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي، وكان كبير المقدار عالي المنار له عبارات فيها رموز، وصحب الشيخ نجم الدين الأصفهاني، وابن مشيش وغيرهما، وقد وجدت أحزابه وأوراده رواجا ليس بين مريديه وأتباعه فحسب، بل بين أتباع ومريدي الطرق الأخرى. ومن أشهر أحزاب الشاذلية حزب البحر.

دخول الطريقة الشاذلية إلى السودان:
يروى أن الطريقة الشاذلية دخلت البلاد السودانية قبل عصر الفونج، أي أنها سابقة للقادرية، وأن ذلك قد تم على يد الشريف السيد حمد أبي دَنَّانة صهر الشيخ الجزولي صاحب دلائل الخيرات في القرن التاسع الهجري، وأن هذا العالم قد استقر في سقادي غرب المحمية الحالية بولاية نهر النيل.
ومن أشهر الذين أسهموا في نشر تعاليم الطريقة الشاذلية بالسودان، الشيخ خوجلي بن عبد الرحمن وكان قادريا في بداية أمره، ومن رموز الشاذلية بالسودان الشيخ حمد بن المجذوب، ثم جاء بعده حفيده محمد المجذوب بن قمر الدين، الذي سافر إلى مكة وأقام في المدينة وأجيز من الشيخ السويدي ثم جاء إلى سواكن عام 1248هـ/1832م، ومنها إلى الدامر حيث استقر ونشر أوراد الشاذلية وأسس طريقته المجذوبية، التي أصبحت رافدا من الروافد الأساسية لنقل تعاليم الشاذلية للسودان.

الطريقة الإدريسية:
ولد السيد أحمد بن إدريس بن محمد علي وسط أسرة دينية بقرية ميسور بالقرب من مدينة فاس بالمغرب في سنة 1163هـ/1750م، وهو من ذرية الإمام إدريس بن عبد الله المحض الذي يتصل نسبه بالسيد الحسن بن علي رضي الله عنهما، رحل إلى المشرق حيث وصل ميناء الإسكندرية، وقام بزيارة إلى صعيد مصر، حيث اختار قرية الزينية مقرا لإقامته ومركزا لنشاطه، وقد زار السيد أحمد بن إدريس الصعيد مرة أخرى عقب انتقاله للإقامة بمكة، التي وصلها في أواخر سنة 1213هـ/1899م، حيث باشر نشاطه، ووفد إليه التلاميذ وأخذوا عنه وساعدوا في نشر تعاليمه، ومن الذين أسهموا في وصول تعاليمه للسودان ونشرها به السيد محمد عثمان الميرغني، والسيد إبراهيم الرشيد، والسيد محمد المجذوب، والسيد عبد الله أبو المعالي، والسيد مكي عبد العزيز وغيرهم.
وقد أولى السيد ابن إدريس أمر الدعوة عناية خاصة، فنجده يشجع كبار تلاميذه لنشر تعاليمها في المناطق التي تقطنها القبائل والجماعات الوثنية وغير المسلمة، كبعض مناطق شرق أفريقيا وغربها، وأسس كبار تلاميذه طرقا خاصة بهم، فكانت السنوسية في شمال أفريقيا، والختمية التي أسسها السيد محمد عثمان الميرغني والمدنية التي أسسها السيد حسن ظافر المدني، بينما أسس أبناء السيد ابن إدريس أنفسهم الطريقة الأحمدية الإدريسية، وأنشأت أسرة السيد إبراهيم الرشيد الطريقة الرشيدية.

الطريقة الأحمدية الادريسية:
ارتبط دخول الطريقة الإدريسية للسودان بالسيدين عبد المعتال بن السيد أحمد بن إدريس، وابنه محمد الشريف اللذان وصلا إلى منطقة دنقلا عن طريق مصر في مطلع عام (1295هـ/1878م) ومعرفة أهل السودان بالسيد أحمد بن إدريس وتعاليمه قد سبقت هذا التأريخ بكثير، والسيد عبد المعتال هو الابن الثاني للسيد أحمد بن إدريس وقد ولد بصبيا في سنة 1831هـ/1246م، وعندما بلغ السابعة عشرة من عمره سافر إلى مكة بطلب من تلميذ والده محمد بن علي السنوسي، وتلقى مزيدا من العلم ثم سافر الى برقة بصحبة السنوسي، وظل ملازما له حتى وفاته بالجغبوب في 9 صفر 1276هـ الموافق 27 أغسطس 1859م. استمرت جهود الأدارسة في نشر تعاليم المدرسة الإدريسية من مقر الطريقة ببيوض، ودنقلا، وأرقو، وبعد وفاة السيد عبد العال واصل ابنه محمد الشريف نشاطه وزار صعيد مصر عدة مرات، وأسس عددا من المساجد بدنقلا وأم درمان والخرطوم إضافة إلى تكية بوادي حلفا، تواصلت عقب وفاة السيد محمد الشريف على يد السيد ميرغني بن محمد عبد العال الذي تنقل بين دنقلا وأم درمان وصعيد مصر وعسير وعقب وفاته في عام 1961 آلت زعامة الطريقة إلى السيد الحسن الإدريسي واستمرت جهود الأسرة عقب وفاته بالموردة بأم درمان حتى يومنا هذا.

الطريقة الختمية:
هي الطريقة التي أسسها السيد محمد عثمان الميرغني الشهير بالختم عقب وفاة أستاذه السيد ابن إدريس، ولد السيد محمد عثمان الميرغني بالطائف في سنة (1208هـ/1793م) في أسرة عريقة اشتهرت بالعلم والصلاح، فجده لأبيه هو السيد عبد الله المحجوب (ت. 3-1792م) من كبار الصوفية ومؤسس الطريقة الميرغنية، أخذ السيد محمد عثمان الميرغني الطريقة النقشبندية والجنيدية والقادرية والشاذلية عن مشايخ عديدين، إضافة إلى طريقة جده الميرغنية، قبل أن ينتهي به الأمر إلى الأخذ عن السيد أحمد بن إدريس صاحب القدح المعلى في تربيته الصوفية ودفعه في مجال الدعوة، وقام السيد محمد عثمان الميرغني موفدا من شيخه ابن إدريس برحلات دعوية إلى السودان، وصعيد مصر، والحبشة، وإرتريا، وكان له من العمر ستة وعشرون عاما.
وقد نجح السيد الميرغني في استقطاب العديد من السودانيين في مناطق الكنوز والسكوت والمحس والدناقلة، ومن أبرز أتباعه بمنطقة دنقلا الشيخ صالح سوار الذهب، الذي صحبه في رحلته من الدبة إلى كردفان، ومن الذين سلكوا عليه الطريق بالدبة الشيخ صالح بن عبد الرحمن بن محمد بن حاج الدويحي والد السيد إبراهيم الرشيد، كما أجاز الميرغني عددا من الأتباع من أشهرهم السيد إسماعيل الولي(1792- 1863م)، وقد أعجب الميرغني بعلمه فعينه مرشدا غير أنه قد أسس في فترة لاحقة طريقة مستقلة عرفت بالإسماعيلية.
شملت زيارات السيد محمد عثمان الميرغني الدعوية مناطق الجعليين، حيث مكث بشندي، والمتمة، وتذكر المصادر أن السيد محمد عثمان الميرغني قد رجع إلى الحجاز ثم انضم لأستاذه ابن إدريس باليمن، وبقى معه حتى وفاته في عام 1837م.
ولما توفي السيد محمد عثمان الميرغني في سنة (1268هـ/1852م). وقام ابنه السيد محمد الحسن بمواصلة جهوده في نشر الطريقة بالسودان وحقق نجاحا واسعا، وأصبح محبوبا لدى معظم شيوخ وأتباع الطرق الصوفية، مما أهله للإسهام في تحقيق قدر من التقارب بينها، وخلفه ابنه السيد محمد عثمان الأقرب الميرغني (1819- 1886م). دفين مصر، وخلفه ابنه السيد علي الميرغني الذي ولد بمساوي بمنطقة الشايقية في شمال السودان في عام 1297هـ/1880م وبقي بها حتى وفاته ودفن بمسجده بمدينة الخرطوم بحري في اليوم الرابع والعشرين من ذي القعدة 1387هـ/ 1968م)، وكان من أبرز الزعماء الدينيين والسياسيين في السودان.

الطريقة الإسماعيلية:
تنسب هذه الطريقة إلى الشيخ إسماعيل الولي، وهو بديري دهمشي هاجرت أسرته من منطقة دنقلا الى كردفان. ولد الشيخ بالأبيض في سنة (1207هـ/1792م). إلتقى بالسيد محمد عثمان الميرغني وأخذ عنه تعاليم المدرسة الادريسية والطريقة الختمية.
وفي عام 1241هـ/1826م أي بعد تسع سنوات من أخذه عن السيد الميرغني أسس الشيخ الولي طريقة مستقلة عرفت بالإسماعيلية، وانتشرت طريقته بين البديرية، وسكان الأبيض. توفي الشيخ الولي بالأبيض وله قبة تعد من معالم المدينة وقد خلفه في رئاسة الطريقة ابنه السيد محمد المكي، الذي اشتهر بالتأليف في مسائل الطريقة والسالكين والفيض الإلهي والمدح والأحاديث، وفي عهده انتشرت الطريقة في مناطق كوستس والنيل الأبيض والجزيرة وأمدرمان.

الطريقة الرشيدة:
تنسب هذه الطريقة إلى الشيخ إبراهيم الرشيد الدويحي، الذي ورد ذكره عند حديثنا عن مدرسة السيد أحمد بن إدريس، والسيد محمد عثمان الميرغني، واستقطب العديد من الأتباع الذين دانوا له بالولاء عقب وفاة السيد أحمد بن إدريس، ومن أشهر هؤلاء التلاميذ الشيخ محمد الدندراوي الذي أسس فيما بعد طريقة مستقلة عرفت بالدندراوية، والحاج عبد الله عبد الحفيظ الدفاري الذي يرجع إليه الفضل في نشر تعاليم السيد أحمد بن إدريس في بعض مناطق شمال السودان وفي منطقة الكوة بالنيل الأبيض، وقد ولد الحاج عبد الله الدفاري في حسينارتي في 1225هـ/ 1810م، ويروى أنه قابل الإمام محمد أحمد المهدي في منطقة الكوة قبل إعلان المهدية في عام 1881م وأعطاه بعض أوراد وصلوات السيد أحمد بن إدريس، ومن الأتباع الذين أخذوا عن السيد إبراهيم الرشيد، السيد الشريف محمد الأمين الهندي والد الشريف يوسف الهندي مؤسس الطريقة الهندية في السودان.
وعقب وفاة السيد إبراهيم الرشيد ودفنه بمكة في 7 شعبان 1291هـ/ 20 أغسطس 1874م انتقلت زعامة الطريقة إلى ابن أخيه الشيخ بن محمد صالح مؤسس الطريقة الصالحية بمكة، والتي انتشرت تعاليمها بأنحاء مختلفة من العالم الاسلامي، منها الصومال ومنطقة القرن الإفريقي، ومن أتباع هذه الطريقة المجاهد الصومالي محمد عبد الله حسن الذي قاد حركة جهادية ضد الاستعمار والاحتلال البريطاني والايطالي والفرنسي كما حارب البرتغاليين.

الطريقة التيجانية:
تنسب هذه الطريقة إلى السيد أحمد بن محمد بن مختار المشهور بأحمد التيجاني، وهو من أشهر متصوفة وعلماء القرن التاسع عشر في أفريقيا، ولد بعين ماضي بالجزائر في سنة 1737م. وفي سنة (1186هـ/ 1772م) توجه لأداء فريضة الحج، وفي المدينة أخذ عن الشيخ محمد عبد الكريم السمان كما أخذ أثناء وجوده بمصر الطريقة الخلوتية عن الشيخ محمود الكردي.
دخلت الطريقة التيجانية السودانية في حياة السيد أحمد التيجاني على يد السيد محمد الماحي الدارفوري الذي سافر ماشيا على رجليه إلى فاس، فالتقى بالشيخ التيجاني، فقرأ عليه الحديث وأخذ عنه.
غير أن الفضل في نشر تعاليم الطريقة التيجانية بشمال السودان يرجع إلى عالم وصوفي آخر هو الشيخ محمد بن المختار بن عبد الرحمن الشنقيطي المشهور بأبي العالية، الذي ولد بموريتانيا في حوالي عام 1820م.
وقد كان الشيخ محمد بن المختار عالما وتاجرا في آن معا وعاش لبعض الوقت في سواكن، ثم ذهب إلى بربر حيث توفي في سنة 1882م.
وقد أدخل كثيرا من السودانيين في الطريقة التجانية، منهم حسين سلطان دارفور والشيخ محمد البدوي (شيخ الإسلام) والشيخ محمد خير أحد معلمي الإمام المهدي، والشيخ أبو القاسم أحمد هاشم والشيخ مدثر إبراهيم الحجاز (1855- 1937م). كما نشر الطريقة بغرب السودان الشيخ محمد ود دوليب بخرسي بكردفان.
وفي ختام هذه الورقة نتوجه بالدعاء الخالص لجلالة أمير المؤمنين فخامة السيد الشريف محمد السادس ملك المملكة المغربية وولي عهده بأن يتولى الله تعالى نصرهم وتأييدهم ويحقق على أيديهم الرخاء لأهلنا في المغرب.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.

 

والصلاة والسلام على سيدنا محمد منبع العلوم والأنوار، ومعدن المعارف والأسرار، لاهوت الوصال وعين الكمال، وعلى آله وأصحابه الأبرار.

وبعد،

أيها الإخوة والأحباب، إخوتنا في الله وأحبابنا في جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخوتنا في مسيرتنا القاصدة إلى الله بإذن الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

والتحية لكم من إخوان صدق من السودان، جمعت بينكم وبينهم وشائج الإسلام والأرحام حملونا إياها، وهم أشد منا توقا وشوقا إلى لقائكم ومشاركتكم هذا المحفل الصوفي الروحي المبارك، فجزى الله تعالى الإخوة والسادة القائمين على أمره خير الجزاء، خاصة صاحب العناية الإلهية والمعية النبوية سيدنا إسماعيل بصير، كما نشكر لهم كريم تفضلهم بدعوتنا وحسن استقبالهم وضيافتهم لنا، ونسأل الله أن نكون عند حسن ظنهم.

أيها الإخوة والأحباب:

فإذا كانت مهمة دعاة الإسلام المخلصين أن يعيدوا لهذا الدين روحه، وأن يفتحوا مغاليق القلوب، فما قصد الصوفية في كل عصر وزمان، إلا العودة بالمسلمين لظلال الأنس بالله تعالى، ونعيم مناجاته، وسعادة قربه، بإرجاع روحانية الإسلام إليه.

وإذا كان خصوم الإسلام قد عملوا على تشويه معالمه، وبتر مضمون أحكامه، والتعتيم على محاسنه وسمو أهدافه وغاياته، فإن الله أذن لدينه بالحفظ والبقاء، فتحطمت أقلامهم وذهبت الريح بدعواهم، وبقي التصوف منارة السالكين إلى الله عز وجل، ومنهجا ربانيا إيجابيا لنشر الإسلام وتدعيم بنيانه، إذا فهم فهما صحيحا، وطبق تطبيقا سليما، وفق قواعده وأسسه التي ما انفكت عن الكتاب والسنة البتة.

من أجل هذا وذاك نبعث أهمية التصوف كمنهج سلوكي لابد منه، يقول سيدي الشيخ أحمد زروق المغربي المالكي الشاذلي في كتاب قواعد التصوف، القاعدة الرابعة الصفحة الرابعة، ما نصه: “فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه، ولا هما إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما دونه، فلزم الجميع، لتلازمها في الحكم كتلازم الأرواح للأجساد ولا وجود لها إلا فيها، كما لا حياة إلا بها”.

· مرجعية الصوفية مقتبسة من نور مشكاة النبوة:

اهتدى أهل التصوف في بناء منهجهم القائم على إرساء الأمن الفكري ونشر قيم التسامح والمحبة ونبذ العنف بكل صوره وأشكاله، بتعاليم الإسلام المستمد من القرآن الكريم والسنة المشرفة.

وفي مقدمة هذه المحاضرة، اذكر طرفا من عبارات أعلام الصوفية تؤكد التزامهم بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وحالا، فمن ذلك ما حكي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال لأحد أصحابه: “قم بنا حتى ننظر لهذا الرجل الذي شهر نفسه بالولاية، فلما خرج من بيته – أي الرجل- ودخل المسجد رمى ببصاقه تجاه القبلة، فانصرف أبو يزيد وقال: هذا ليس مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون مأمون على ما يدعيه؟”.

فإذا كان هذا حالهم في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والتأدب بأدبه في البصاق، وهو من أصغر الأشياء فكيف بالأمور التي تتصل بحرمة المؤمن وحياته ودمه وعرضه؟

ويقرر حجة الإسلام الإمام الغزالي عن تجربة شخصية، أن طريق الصوفية هو الذي يقود إلى اقتفاء أثر رسول الله فيقول: ” وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به، أني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به”.

والأقوال المنقولة والمأثورة عن مشائخ الصوفية، والتي يرشدون عبرها أتباعهم للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والتخلق بأخلاقه كثيرة جدا، بحيث يضيق المقام عن سردها واستقصائها لذا أكتفي بهذا القدر التي ذكرته.

وهذه الأقوال في مجملها تدل بلا ريب أو شك على أن الصوفية يتخلقون بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه مثلهم الأعلى في مكارم الأخلاق، خاصة فيما يتعلق بمعاملة الخلق معاملة تقوم على الرأفة والرحمة واللين والتسامح ودعوتهم إلى الله بالرفق واللطف والحكمة والموعظة الحسنة، لذا تمدد الإسلام على أيديهم دونما إكراه، وتقاطر الناس على سلوك الطريق الصوفي، فأصبحت الطرق الصوفية تنظيما واسعا يضم مختلف المجموعات البشرية في انصهار تام، فالتعايش الأخوي وتفهم الآخر والبعد عن التعالي والإقصاء للآخر هو من أهم خصائص الصوفية.

الطرق الصوفية في السودان:

لا يختلف اثنان في أن الطرق الصوفية قد شكلت وجدان معظم أهل السودان، وتركت آثارا متعددة ومتجددة في الحياة السودانية منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي، مما أكسب هذه الآثار أهمية خاصة في دراسة الأصول الفكرية للمجتمع والروافد المغذية والمؤثرة في تشكيل الشخصية السودانية، وارتباط ذلك بالمتغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية في الحقب التاريخية المختلفة.

وفدت الطرق الصوفية للسودان من عدة مصادر هي الحجاز ومصر وشمال وغرب أفريقيا. وفي المراحل الباكرة كان الأثر الصوفي الحجازي أقوى من سواه، وربما يكون مرد ذلك إلى القيمة الروحية للحجاز والأثر الوجداني العميق لذلك على السودانيين.

إن مرحلة دخول الطرق الصوفية كمؤسسات منظمة ذات تعاليم وأذكار وأوراد جماعية ومشتركة، قد سبقتها مرحلة اتجاه فردي في التصوف بهدف مجاهدة النفس وتطهيرها، وحتى الذين انخرطوا في حلقات الذكر ومراكز العلم الفقهي ونهلوا من رسالة أبي زيد القيرواني ومختصر خليل زاوجوا بين ذلك والتصوف، فاشتملت تراجمهم وسيرهم على عبارات تعكس هذا المنهج أو الاتجاه مثل: جمع بين العلم والتصوف أو جمع بين الشريعة والحقيقة أو جمع بين علوم الظاهر والباطن.

العلماء القراء والمتصوفة المغاربة وأثرهم في تاريخ السودان:

في أوائل القرن السادس عشر الميلادي التاسع الهجري جاء رواد من المغرب العربي إلى السودان.

الأثر السياسي:

عندما هاجر المغاربة إلى السودان، وجدوا أغلبية أهله من المسلمين وحكمائه من النصارى التابعين للكنيسة اليعقوبية (القبطية)، ووجدوا المسلمين عربانا رعاة ينتجعون الكلأ ويقصدون موارد المياه دون اهتمام بشؤون الحكم و سياسة السلطان، فبدأوا ببث الروح الديني وإثارة الوعي السياسي بين الناس فاستجاب بعض الزعماء لندائهم، فتحالف الفونج بزعامة عمارة دنقس مع مشيخة العبدلاب بقيادة الشيخ عبد الله جماع، زعيم قبائل القواسمة الرفاعية، وكونوا منهم جيشا قضى على دولة “عَلَوة” المسيحية، وأقام أول دولة إسلامية في السودان النيلي هي مملكة سنار في أوائل القرن السادس عشر 1505م.

الأثر الفقهي- المذهب المالكي:

المذهب المالكي هو المذهب السائد في السودان، بل الأندلس والمغرب العربي، وقد دخل بواسطة علماء المغاربة إلى السودان فصار هو السائد بينهم.

قراءة الدوري وورش:

انتقلت قراءتا أبي عمر الدوري وورش إلى السودان مع العلماء المغاربة المهاجرين، حيث إنهما القراءتان السائدتان في المغرب العربي.

الطرق الصوفية في السودان وصلتها بالمغرب العربي:

وفيما يلي نأخذ أمثلة ونماذج لبعض الطرق الصوفية ذات الجذور المغربية في أصلها ونشأتها وفي تأثيرها وتأثرها.

· الطرق الشاذلية:

مؤسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه، وهو علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي، وكان كبير المقدار عالي المنار له عبارات فيها رموز، وصحب الشيخ نجم الدين الأصفهاني، وابن مشيش وغيرهما، وقد وجدت أحزابه وأوراده رواجا ليس بين مريديه وأتباعه فحسب، بل بين أتباع ومريدي الطرق الأخرى. ومن أشهر أحزاب الشاذلية حزب البحر.

دخول الطريقة الشاذلية إلى السودان:

يروى أن الطريقة الشاذلية دخلت البلاد السودانية قبل عصر الفونج، أي أنها سابقة للقادرية، وأن ذلك قد تم على يد الشريف السيد حمد أبي دَنَّانة صهر الشيخ الجزولي صاحب دلائل الخيرات في القرن التاسع الهجري، وأن هذا العالم قد استقر في سقادي غرب المحمية الحالية بولاية نهر النيل.

ومن أشهر الذين أسهموا في نشر تعاليم الطريقة الشاذلية بالسودان، الشيخ خوجلي بن عبد الرحمن وكان قادريا في بداية أمره، ومن رموز الشاذلية بالسودان الشيخ حمد بن المجذوب، ثم جاء بعده حفيده محمد المجذوب بن قمر الدين، الذي سافر إلى مكة وأقام في المدينة وأجيز من الشيخ السويدي ثم جاء إلى سواكن عام 1248هـ/1832م، ومنها إلى الدامر حيث استقر ونشر أوراد الشاذلية وأسس طريقته المجذوبية، التي أصبحت رافدا من الروافد الأساسية لنقل تعاليم الشاذلية للسودان.

الطريقة الإدريسية:

ولد السيد أحمد بن إدريس بن محمد علي وسط أسرة دينية بقرية ميسور بالقرب من مدينة فاس بالمغرب في سنة 1163هـ/1750م، وهو من ذرية الإمام إدريس بن عبد الله المحض الذي يتصل نسبه بالسيد الحسن بن علي رضي الله عنهما، رحل إلى المشرق حيث وصل ميناء الإسكندرية، وقام بزيارة إلى صعيد مصر، حيث اختار قرية الزينية مقرا لإقامته ومركزا لنشاطه، وقد زار السيد أحمد بن إدريس الصعيد مرة أخرى عقب انتقاله للإقامة بمكة، التي وصلها في أواخر سنة 1213هـ/1899م، حيث باشر نشاطه، ووفد إليه التلاميذ وأخذوا عنه وساعدوا في نشر تعاليمه، ومن الذين أسهموا في وصول تعاليمه للسودان ونشرها به السيد محمد عثمان الميرغني، والسيد إبراهيم الرشيد، والسيد محمد المجذوب، والسيد عبد الله أبو المعالي، والسيد مكي عبد العزيز وغيرهم.

وقد أولى السيد ابن إدريس أمر الدعوة عناية خاصة، فنجده يشجع كبار تلاميذه لنشر تعاليمها في المناطق التي تقطنها القبائل والجماعات الوثنية وغير المسلمة، كبعض مناطق شرق أفريقيا وغربها، وأسس كبار تلاميذه طرقا خاصة بهم، فكانت السنوسية في شمال أفريقيا، والختمية التي أسسها السيد محمد عثمان الميرغني والمدنية التي أسسها السيد حسن ظافر المدني، بينما أسس أبناء السيد ابن إدريس أنفسهم الطريقة الأحمدية الإدريسية، وأنشأت أسرة السيد إبراهيم الرشيد الطريقة الرشيدية.

الطريقة الأحمدية الادريسية:

ارتبط دخول الطريقة الإدريسية للسودان بالسيدين عبد المعتال بن السيد أحمد بن إدريس، وابنه محمد الشريف اللذان وصلا إلى منطقة دنقلا عن طريق مصر في مطلع عام (1295هـ/1878م) ومعرفة أهل السودان بالسيد أحمد بن إدريس وتعاليمه قد سبقت هذا التأريخ بكثير، والسيد عبد المعتال هو الابن الثاني للسيد أحمد بن إدريس وقد ولد بصبيا في سنة 1831هـ/1246م، وعندما بلغ السابعة عشرة من عمره سافر إلى مكة بطلب من تلميذ والده محمد بن علي السنوسي، وتلقى مزيدا من العلم ثم سافر الى برقة بصحبة السنوسي، وظل ملازما له حتى وفاته بالجغبوب في 9 صفر 1276هـ الموافق 27 أغسطس 1859م. استمرت جهود الأدارسة في نشر تعاليم المدرسة الإدريسية من مقر الطريقة ببيوض، ودنقلا، وأرقو، وبعد وفاة السيد عبد العال واصل ابنه محمد الشريف نشاطه وزار صعيد مصر عدة مرات، وأسس عددا من المساجد بدنقلا وأم درمان والخرطوم إضافة إلى تكية بوادي حلفا، تواصلت عقب وفاة السيد محمد الشريف على يد السيد ميرغني بن محمد عبد العال الذي تنقل بين دنقلا وأم درمان وصعيد مصر وعسير وعقب وفاته في عام 1961 آلت زعامة الطريقة إلى السيد الحسن الإدريسي واستمرت جهود الأسرة عقب وفاته بالموردة بأم درمان حتى يومنا هذا.

· الطريقة الختمية:

هي الطريقة التي أسسها السيد محمد عثمان الميرغني الشهير بالختم عقب وفاة أستاذه السيد ابن إدريس، ولد السيد محمد عثمان الميرغني بالطائف في سنة (1208هـ/1793م) في أسرة عريقة اشتهرت بالعلم والصلاح، فجده لأبيه هو السيد عبد الله المحجوب (ت. 3-1792م) من كبار الصوفية ومؤسس الطريقة الميرغنية، أخذ السيد محمد عثمان الميرغني الطريقة النقشبندية والجنيدية والقادرية والشاذلية عن مشايخ عديدين، إضافة إلى طريقة جده الميرغنية، قبل أن ينتهي به الأمر إلى الأخذ عن السيد أحمد بن إدريس صاحب القدح المعلى في تربيته الصوفية ودفعه في مجال الدعوة، وقام السيد محمد عثمان الميرغني موفدا من شيخه ابن إدريس برحلات دعوية إلى السودان، وصعيد مصر، والحبشة، وإرتريا، وكان له من العمر ستة وعشرون عاما.

وقد نجح السيد الميرغني في استقطاب العديد من السودانيين في مناطق الكنوز والسكوت والمحس والدناقلة، ومن أبرز أتباعه بمنطقة دنقلا الشيخ صالح سوار الذهب، الذي صحبه في رحلته من الدبة إلى كردفان، ومن الذين سلكوا عليه الطريق بالدبة الشيخ صالح بن عبد الرحمن بن محمد بن حاج الدويحي والد السيد إبراهيم الرشيد، كما أجاز الميرغني عددا من الأتباع من أشهرهم السيد إسماعيل الولي(1792- 1863م)، وقد أعجب الميرغني بعلمه فعينه مرشدا غير أنه قد أسس في فترة لاحقة طريقة مستقلة عرفت بالإسماعيلية.

شملت زيارات السيد محمد عثمان الميرغني الدعوية مناطق الجعليين، حيث مكث بشندي، والمتمة، وتذكر المصادر أن السيد محمد عثمان الميرغني قد رجع إلى الحجاز ثم انضم لأستاذه ابن إدريس باليمن، وبقى معه حتى وفاته في عام 1837م.

ولما توفي السيد محمد عثمان الميرغني في سنة (1268هـ/1852م). وقام ابنه السيد محمد الحسن بمواصلة جهوده في نشر الطريقة بالسودان وحقق نجاحا واسعا، وأصبح محبوبا لدى معظم شيوخ وأتباع الطرق الصوفية، مما أهله للإسهام في تحقيق قدر من التقارب بينها، وخلفه ابنه السيد محمد عثمان الأقرب الميرغني (1819- 1886م). دفين مصر، وخلفه ابنه السيد علي الميرغني الذي ولد بمساوي بمنطقة الشايقية في شمال السودان في عام 1297هـ/1880م وبقي بها حتى وفاته ودفن بمسجده بمدينة الخرطوم بحري في اليوم الرابع والعشرين من ذي القعدة 1387هـ/ 1968م)، وكان من أبرز الزعماء الدينيين والسياسيين في السودان.

الطريقة الإسماعيلية:

تنسب هذه الطريقة إلى الشيخ إسماعيل الولي، وهو بديري دهمشي هاجرت أسرته من منطقة دنقلا الى كردفان. ولد الشيخ بالأبيض في سنة (1207هـ/1792م). إلتقى بالسيد محمد عثمان الميرغني وأخذ عنه تعاليم المدرسة الادريسية والطريقة الختمية.

وفي عام 1241هـ/1826م أي بعد تسع سنوات من أخذه عن السيد الميرغني أسس الشيخ الولي طريقة مستقلة عرفت بالإسماعيلية، وانتشرت طريقته بين البديرية، وسكان الأبيض. توفي الشيخ الولي بالأبيض وله قبة تعد من معالم المدينة وقد خلفه في رئاسة الطريقة ابنه السيد محمد المكي، الذي اشتهر بالتأليف في مسائل الطريقة والسالكين والفيض الإلهي والمدح والأحاديث، وفي عهده انتشرت الطريقة في مناطق كوستس والنيل الأبيض والجزيرة وأمدرمان.

الطريقة الرشيدة:

تنسب هذه الطريقة إلى الشيخ إبراهيم الرشيد الدويحي، الذي ورد ذكره عند حديثنا عن مدرسة السيد أحمد بن إدريس، والسيد محمد عثمان الميرغني، واستقطب العديد من الأتباع الذين دانوا له بالولاء عقب وفاة السيد أحمد بن إدريس، ومن أشهر هؤلاء التلاميذ الشيخ محمد الدندراوي الذي أسس فيما بعد طريقة مستقلة عرفت بالدندراوية، والحاج عبد الله عبد الحفيظ الدفاري الذي يرجع إليه الفضل في نشر تعاليم السيد أحمد بن إدريس في بعض مناطق شمال السودان وفي منطقة الكوة بالنيل الأبيض، وقد ولد الحاج عبد الله الدفاري في حسينارتي في 1225هـ/ 1810م، ويروى أنه قابل الإمام محمد أحمد المهدي في منطقة الكوة قبل إعلان المهدية في عام 1881م وأعطاه بعض أوراد وصلوات السيد أحمد بن إدريس، ومن الأتباع الذين أخذوا عن السيد إبراهيم الرشيد، السيد الشريف محمد الأمين الهندي والد الشريف يوسف الهندي مؤسس الطريقة الهندية في السودان.

وعقب وفاة السيد إبراهيم الرشيد ودفنه بمكة في 7 شعبان 1291هـ/ 20 أغسطس 1874م انتقلت زعامة الطريقة إلى ابن أخيه الشيخ بن محمد صالح مؤسس الطريقة الصالحية بمكة، والتي انتشرت تعاليمها بأنحاء مختلفة من العالم الاسلامي، منها الصومال ومنطقة القرن الإفريقي، ومن أتباع هذه الطريقة المجاهد الصومالي محمد عبد الله حسن الذي قاد حركة جهادية ضد الاستعمار والاحتلال البريطاني والايطالي والفرنسي كما حارب البرتغاليين.

الطريقة التيجانية:

تنسب هذه الطريقة إلى السيد أحمد بن محمد بن مختار المشهور بأحمد التيجاني، وهو من أشهر متصوفة وعلماء القرن التاسع عشر في أفريقيا، ولد بعين ماضي بالجزائر في سنة 1737م. وفي سنة (1186هـ/ 1772م) توجه لأداء فريضة الحج، وفي المدينة أخذ عن الشيخ محمد عبد الكريم السمان كما أخذ أثناء وجوده بمصر الطريقة الخلوتية عن الشيخ محمود الكردي.

دخلت الطريقة التيجانية السودانية في حياة السيد أحمد التيجاني على يد السيد محمد الماحي الدارفوري الذي سافر ماشيا على رجليه إلى فاس، فالتقى بالشيخ التيجاني، فقرأ عليه الحديث وأخذ عنه.

غير أن الفضل في نشر تعاليم الطريقة التيجانية بشمال السودان يرجع إلى عالم وصوفي آخر هو الشيخ محمد بن المختار بن عبد الرحمن الشنقيطي المشهور بأبي العالية، الذي ولد بموريتانيا في حوالي عام 1820م.

وقد كان الشيخ محمد بن المختار عالما وتاجرا في آن معا وعاش لبعض الوقت في سواكن، ثم ذهب إلى بربر حيث توفي في سنة 1882م.

وقد أدخل كثيرا من السودانيين في الطريقة التجانية، منهم حسين سلطان دارفور والشيخ محمد البدوي (شيخ الإسلام) والشيخ محمد خير أحد معلمي الإمام المهدي، والشيخ أبو القاسم أحمد هاشم والشيخ مدثر إبراهيم الحجاز (1855- 1937م). كما نشر الطريقة بغرب السودان الشيخ محمد ود دوليب بخرسي بكردفان.

وفي ختام هذه الورقة نتوجه بالدعاء الخالص لجلالة أمير المؤمنين فخامة السيد الشريف محمد السادس ملك المملكة المغربية وولي عهده بأن يتولى الله تعالى نصرهم وتأييدهم ويحقق على أيديهم الرخاء لأهلنا في المغرب.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *