كلمة مولاي اسماعيل في الذكرى 45 لانتفاضة العيون
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
السيد والي صاحب الجلالة على جهة تادلة ـ أزيلال وعامل إقليم بني ملال المحترم.
السيد عامل صاحب الجلالة على إقليم أزيلال المحترم.
السيد رئيس الجهة المحترم.
السادة رؤساء المصالح الخارجية المرافقين للسيد الوالي والسيد العامل كل واحد باسمه وصفته ورتبته.
السيد عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالدار البيضاء التابعة لجامعة الحسن الثاني، ووفد الأساتذة المبجلين المرافقين له.
السادة العلماء والأساتذة والأكاديميون المشاركون في أعمال هذه الندوة العلمية الدولية من داخل المغرب وخارجه.
السادة رؤساء المجالس العلمية المحلية المحترمين والأعضاء المرافقين لهم.
السادة شيوخ وأعيان القبائل الصحراوية وكل من لبى دعوتنا من أقاليمنا الجنوبية الغالية.
السادة البرلمانيون والمنتخبون،
أيها السادة والسيدات الحضور الكرام،
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،
بداية، يشرفني ويسعدني أصالة عن نفسي ونيابة عن كافة أهل البصير ومريدي الطريقة البصيرية ومقدميها وأساتذة مدرسة الزاوية وطلبتها، أن أرحب بجمعكم العظيم في هذه الزاوية العامرة بالله، وأرحب بكل من أتانا ليشاركنا أعمال هذه الندوة العلمية الدولية التي ننظمها تحت الرعاية السامية لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره، وبتعاون مع كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالدار البيضاء التابعة لجامعة الحسن الثاني، والتي تخلد للذكرى الخامسة والأربعين لانتفاضة سيدي محمد بصير الشهيرة بمدينة العيون، واسمحوا لي باسمكم جميعا أن أرحب بشكل خاص بالسادة العلماء والأساتذة المبجلين الذين استجابوا لدعوتنا مشكورين، وقدموا إلينا من دولة ساحل العاج، والسينغال، والسودان، ومالي، ولبنان، والنيجر، واليمن، وفلسطين، والأردن، وإيطاليا، وبريطانيا، والهند، وباكستان، جزاهم الله عنا كل خير آمين، وأرحب بالسيد عميد وأساتذة كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالدار البيضاء، وإن نسيت لا أنسى أن أقول مرحبا وألف مرحبا لإخواننا وأبناء عمومتنا من أهل الصحراء، الذين وصلوا رحمهم وأبناء عمومتهم في جبال الأطلس المتوسط قلب المغرب، وصلهم الله بكل خير.
أيها السيدات والسادة الحضور الكرام،
ننظم اليوم هذه الندوة العلمية الدولية تحت عنوان: “دور أهل التصوف في حماية المجتمعات من التطرف”، والتي ستتدارس في برنامجها الحافل، وخلال أربع جلسات علمية، خمسة محاور، المحور الأول: المناضل سيدي محمد بصير وأولوية قضيته، المحور الثاني: خصوصية التدين المغربي في مواجهة التطرف، المحور الثالث: الجماعات المتطرفة في العالم الإسلامي والغربي، وكيف واجهها أهل التصوف؟ والمحور الرابع: التطرف في الساحل والصحراء نموذجا، والمحور الخامس، التطورات الحالية لقضية الصحراء: العوائق والرهانات”.
أيها الإخوة الكرام،
مداخلتي التي سأتقدم بها مفتتحا أعمال هذه الندوة المباركة موسومة بعنوان:” دور أهل التصوف في حماية المجتمعات من التطرف، زاوية آل البصير نموذجا”، ومن خلالها سأبين أهمية هذا الموضوع الذي سنتدارسه بمعية جمع من العلماء والباحثين والأكاديميين على مدى يومين، وسأعرف التطرف باختصار، وسألقي نظرة شمولية حول أهمية حماية المجتمعات منه، والدور البارز لأهل التصوف في ذلك، وسأتوقف بشكل خاص عند نموذج الزاوية البصيرية وبعض أعلامها وكيف واجهوا هذه المعضلة؟.
أيها الأحبة الكرام،
إن إشكالية حماية وتحصين المجتمعات من التطرف، أصبحت من الإشكاليات الكبرى التي تؤرق كافة الدول والمجتمعات في عصرنا الحاضر، وغدا هذا الغزو أخطر غزو يتهدد الأمة في أيام الناس هذه، وهو عند العقلاء أخطر من الغزو العسكري، لأن كل من يتبنى أفكارا هدامة، فإنه تلقائيا يعد من المؤثرين سلبا على جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع.
ولا أظن أنه يوجد في حياة الإنسان أهم من الأمن، ولا أهم من أن يعيشَ الناس في مجتمَعِهم آمنين مطمئنِّين على مكوِّنات شخصيّتِهم وهويتهم وتميُّز ثقافتِهم ومنظومَتِهم الفكريّة، وبذلكم تكون الحاجة إلى حماية وتحصين المجتمعات من التطرف، حاجة ماسة وملحة لتحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي، فإذا اطمأنَّ الناس على ما عندهم من أصولٍ وثوابِت وأمِنوا على ما لدَيهم من قِيَم ومثُلٍ ومبادئ، فقد تحقَّق لهم الأمنُ في أَسمى صوَرِه وأجلَى معانيه وأَنبلِ مَراميه، وهذا ما يحرص الأعداء والمتطرفون على مهاجمته لتحقيق أهدافهم العدوانية، والترويج لأفكارهم الهدامة، وخاصة بين شريحة الشباب والنساء، والتشويش على أفكارهم ودعوتهم للتطرف، وذلك لأن عندهم قابلية لقبول ما غذيت به عقولهم، ولا يفكرون كما يفكر الكبار، ولا يخافون عاقبة الأمور، وأنهم أصحاب عفوية واندفاع، وليسوا أصحاب تجربة في الحياة، وثقافتهم في الدين محدودة أو منعدمة، وكما تعلمون فمن غذي بثقافة معينة في أول أمره فإنه لن ينطق ولن يتفوه إلا بها، ولن يكون خادما وفيا إلا لها.
أيها الحضور الكرام،
إن مصطلح التطرف الديني لم يرد لفظه في الشرع، ومعناه لغة الوقوف في طرف الشيء، والخروج عن الوسط والاعتدال فيه، وهو يشمل الذهاب إلى طرف التشديد، وإلى طرف التسهيل، فالغالي في الدين متطرف والجافي عنه متطرف، لكن المشهور استعماله في التشدد والتعمق، فيكون مرادفا للغلو، ومفهومه في الشرع مجاوزة المسلم الحد الشرعي في كل شيء، والتشديد فيه بتجاوز الحد، وفيه معنى التعمق، يقال غلا في الشيء يغلو غلوا، وغلا السعر يغلو غلاء إذا جاوز العادة، وهو عام له صور كثيرة لا تنحصر فى الجانب الديني فحسب، بل هناك أشكال مختلفة من التطرف، وذلك كالتطرف السياسي والثقافي والاجتماعي وغيرها، فإذا بالغ الإنسان وتعدى حدود الشرع في الاعتقاد أو العبادة أو السلوك أو الأخلاق والمشاعر أو غير ذلك، فقد وقع في مسلك التطرف المشين.
والمتأمل في مناهي الشرع، يجد أنها ترجع إلى أحد أصلين، إما لكونها من باب التفريط والتساهل ،كترك الفرائض والعقوق والقطيعة وغيرها، وإما لكونها من باب الإفراط والتشدد كالظلم واستباحة الدماء والأموال المعصومة، والخروج على الحاكم المسلم، ومختلف الأعمال الإرهابية وسفك الدماء، وقتل الأبرياء وإتلاف الأموال وغيرها، فمن زاد على الحكم الشرعي كان غاليا متطرفا، ومن نقص عن الحكم الشرعي كان مفرطا متساهلا، وكلا المسلكين مذموم شرعا، وإن كان في الغالب الإفراط أشد خطرا وأعظم وبالا على الأمة من التفريط، فالخوارج غلوا في الاعتقاد فكفروا أهل الكبائر من المسلمين، وقابلهم المرجئة ففرطوا في الاعتقاد، فأثبتوا الإيمان بمجرد القول دون العمل، وبعض المتصوفة غلوا في تعظيم المشايخ والأولياء، والحق وسط بين الغلو والجفاء، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من جميع أنواع التطرف، حذر من تحريم الطيبات، وترك النكاح، وحذر من فتنة القتال والظلم، وانتهاك حرمة المسلم، والمعاهد، وحذر من فتنة الدنيا وحذر من فتنة الخروج عن جماعة المسلمين وإمامهم .
وقد ظهر التطرف في مجتمعاتنا في فترة قصيرة، عندما تم التساهل مع أصحاب هذه الأفكار، وسمح لهم زمنا ما بترويج فكرهم وكتبهم وأشرطتهم، وتقاعس شيوخ الزوايا والعلماء عن أداء واجبهم في التبليغ في إبانه ووقته وحينه، والدليل على ذلك أن أوكار أصحاب هذه التيارات الدخيلة لا تنشط إلا حيث لا توجد الزوايا والعلماء الذين أدركوا ويدركون مهمتهم ويقومون بها أحسن قيام، ينشطون حيث لايوجد من يواجههم علميا بالحجة والدليل والبرهان.
أما تجليات ومظاهر التطرف في مجتمعنا المغربي على الخصوص، وأظنها هي نفسها تجليات التطرف في باقي المجتمعات، فيكفي أن أذكر بأن هؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم تسميات متعددة،كأهل السنة والجماعة، أو أهل الحديث، أو الفرقة الناجية، أو الطائفة المنصورة، أو الهادية إلى الصراط المستقيم، أو السلفية أو الوهابية، هؤلاء كلهم شكلوا خلايا، بدأت أنشطتها بالقيام بما يسمونه تعزيرا، وفي الوقت نفسه التحضير لعمليات ضد المصالح الغربية، وكانت نتيجة ذلك تدبير تفجيرات أزهقت ما لا يحصى عددا من الأرواح باستعمال طرق جد متطورة، كما نفذوا عمليات اعتداء ضد أشخاص في إطار ما يسمونه تغيير المنكر أو التعزير في أدبياتهم، وظهرت لأصحاب هذه التيارات فتاوى غريبة شوشوا بها على أمر تدين الناس، وذلك كأن يعتبر أحدهم مناصرة بن لادن واجبة، لأنه في نظرهم مجدد الجهاد في هذا العصر، ومنهم من اعتبر التحاكم إلى الدساتير شرك، مادامت آلهة معبودة يكفر واضعها وكل من تحاكم إليها، لأنها من الثمار الخبيثة للعلمانية التي هي الجاهلية المعاصرة في نظرهم، وحتى البرلمان ونوابه هم أوثان منصوبة، وأن الديمقراطية ليست هي الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى نصرة الإسلام، وخوض غمارها هو ضرب من العبث وتضييع للجهود والطاقات وإلقاء بالنفس إلى التهلكة، ومن كل هذه الفتاوى والمنطلقات خرج رموز أهل التطرف، إلى أنهم إزاء دولة وحكم ومجتمع ينبغي الخروج عنهم جميعا بالعصيان، واعتبروا أن شرع الله تم إقصاؤه بعيدا عن الحكم بين العباد، وأنه حلت محله القوانين الوضعية التي يعتبرونها كافرة، لأنها من صنع الكفار، وأن الحاكمين لبلاد المسلمين هم دعاة الإباحية و الإنحلال ومسوغوا الفجور والعصيان، ولذلك يدعون للجهاد، وظهرت فتاوى أخرى سأذكرها في حينها.
ونتيجة لتفاعل كل هذه الأحداث والعوامل حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث شهدت مجتمعاتنا الآمنة أحدثا إرهابية، أحداثا غريبةلم نعهدها من ذي قبل، وبعد هذه الفترة أصبحنا نسمع بالإضافة إلى هذه الأحداث بالتشيع وبالتنصير وبالإلحاد والارتداد عن الدين الذي ابتلي به بعض أبناء المجتمع المسلم، ووجد في مجتمعاتنا كذلك الغلاة في تكفير المسلمين، وتنافرت قلوب أهل المجتمع الواحد الذين يرتادون المسجد الواحد، وابتعد بعضنا عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وظهر التعصب في الدين للمذاهب الشاذة، وظهر في مجتمعاتنا المتتبعون لرخص المذاهب، المنادون للأخذ بها، وظهر فينا من يدعم داعش ويسترخص روحه في سبيل الضلال المبين، وظهر من يقول بأن مذهبه القرآن والسنة فقط، وظهر اهتمام غير مسبوق بدعاة الفضائيات المشرقية على اختلاف عقائدهم ومشاربهم وأفكارهم، وما لذلك من تداعيات، وأصبحنا نجد من يصر على ترك المرجعية الدينية المشهورة في بلاده في مجال الفتوى، وأصبحنا نجد نسبة لا يستهان بها من الناس عازفة عن علماء البلاد الكبار زاهدة فيما عندهم.
ومن المعلوم لكل عاقل، أن السلاح الاستراتيجي الأول الذي يستعمل في أيام الناس هذه، بادئ ذي بدء للقضاء على الإسلام إنما هو سلاح التفرقة، إنما هو سلاح تأليب المسلمين بعضهم على بعض، باستثارة أسباب التناقض ولو كانت وهمية في العقائد والمبادئ الإسلامية، نعم أيها السيدات والسادة يتم تفريق المسلمين اليوم باستثارة أمور جزئية اجتهادية، ومن اطلع على كتاب أعمدة الحكمة السبعة للورانس يعلم جلي ما أقول.
فهذه أمثلة كافية تنذرنا بأن مشكلة التطرف أصبحت فارضة نفسها بقوة، وعلى شيوخ الزوايا والعلماء ومن في حكمهم، أن يرسموا خطة عملية محكمة لمواجهتها، فإلى أي حد إذن استطاعت الطرق الصوفية ومؤسسة الزاوايا في مجتمعاتنا الوعي بأهمية هذا الموضوع ؟، وهل امتلكت أو أصبحت لديها خطة واستراتيجية معينة متبعة من أجل تحصينها من كافة المخاطر الحساسة والمتعددة التي باتت تهددها؟، وباختصار أي دور قد يكون لأهل التصوف في حماية المجتمعات من التطرف؟، أقول في الجواب: إن أعداء الإسلام يعلمون أن التصوف هو أهم عامل في وحدة المسلمين لتسامحه في المنهج، وتجنبه التكفير، وتعظيم حرمة المسلم، وعدم الخروج على الحاكم، إن أعدائنا يرصدون كل تحركاتنا، ويكفي أن تعرفوا أن أحد ألد أعداء الإسلام قال في مناسبة من المناسبات: نحن لا نخشى العالم العربي والإسلامي الآن، إنما نخشى أن تعود تلك الزوايا التي خرجت أمثال عمر المختار وعبد القادر الجيلالي وعبد الكريم الخطابي ومحمد المهدي وغيرهم.
هذا شيء والشيء الثاني، أن أول من تصادم مع المتبنين لهذه الأفكار المتطرفة الشاذة، هم أهل التصوف وأرباب الزوايا والعلماء العاملين والربانيين ومن يخالطهم، وذلك لأن أصحاب الزوايا في نظر المتطرفين، أناس مبتدعة ضالين مشركين، نعتوهم بأفظع أنواع النعوت والصفات القادحة، وذلكم كنعتهم بالقبوريين والطرقيين، وقد وصل ببعضهم أن كفرهم وأخرجهم عن الملة، وهكذا أنكروا عليهم الكثير من المسائل، كمسألة الجهر بالذكر، ومسألة الذكر الجماعي جهرا وجماعة ووقوفا، وقراءة القرآن على الأموات، والذكر في السبحة، وأنكروا عليهم زيارة القبور، وقراءة الحزب الراتب، وأنكروا عليهم التوسل، وأخذ الورد عن الشيخ والصلاة بالسدل، وقراءة القنوت في صلاة الصبح، والمصافحة والدعاء بعد الصلاة وإحياء مناسبة المولد النبوي وغيرها من المسائل، ولا أجدني في حاجة إلى التطويل في ذكر أمثلة بعينها، ولعل السادة شيوخ الطرق الصوفية ومريديها والعلماء الحاضرين معنا في هذه الجلسة العلمية، كل واحد منهم يتذكر ماحدث له في مناسبات مختلفة مع أحدهم ممن يحملون هذه الأفكار المتطرفة الدخيلة ويتبنونها.
وهكذا وجد شيوخ الزوايا ومريدوها العلماء أنفسهم تلقائيا في صلب المعركة في مواجهة أفكار أصحاب هذه التيارات الدخيلة، وأنهم أول مطالب بتحصين الناس ضد هذه الأفكار الهدامة، فما كان منهم إلى أن عقدوا مناظرات علمية في مختلف المجالس مع المتنطعين بقصد إفحامهم وتبيين غلطهم، كما كتبوا فتاوى في إبانها حول الكثير من المسائل التي ذكرت، ووزعوها على الناس بقصد تنبيههم ليبقوا متشبثين بالثوابت الوطنية المعروفة في بلدانهم، وذلك كله وعيا منهم أن الفكر لايواجه إلا بالفكر.
وبخصوص زاوية آل البصير وكيف حمت المجتمع من التطرف؟ أقول: إن فضيلة الشيخ الوالد محمد المصطفى بصير رحمه الله، الذي عاصر أيام اشتداد عمل هؤلاء المتطرفين في بلادنا في فترة التسعينيات، كتب عدة رسائل وحرر العديد من الفتاوى في الرد على هؤلاء المتطرفين في هذه المناطق، ووزعها على المريدين ولازلنا نحتفظ بها في أرشيف مكتبة الزاوية، بل إنه ناظر العديد من زعمائهم في بني موسى وبني عمير وتادلة والدار البيضاء، وغيرها من المناطق أمام الملأ، بقصد إفحامهم وإقامة الحجة عليهم، وكان معروفا بشجاعته العلمية وعدم السكوت عن الحق، وبالجملة كان لايخاف في الله لومة لائم، وكل ذلك منه بقصد العمل على تحصين الناس فكريا وروحيا ضد أفكار هؤلاء الدخلاء، ولا أخفيكم سرا أن عددا من الحاملين لهذه الأفكار في هذه الفترة، تجرؤوا وقصدوا الزاوية لهدم ضريحها حاملين معهم الفؤوس والمعاول، كما تجرؤوا مرة أخرى وحضروا في بعض المواسم الدينية التي تحييها الزاوية، وتكلموا جهارا وفي الخفاء، ليمنعوا الناس من الذكر ومما هم فيه وعليه من الخير، يرمونهم بالابتداع والضلال، بل إنهم زاروا العديد من فروع الزاوية في مناطق تادلة والشاوية، ونجحوا في تمزيق سبحهم ونهيم عن حملها أو استعمالها آلة للذكر، ونهوهم أيضا عن زيارة الزاوية وشيخها، وتصدى لهم الشيخ محمد المصطفى رحمه الله بما يقتضيه الأمر من الحكمة والحزم والجد بالحوار المفتوح وتقويم الاعوجاج الفكري بالحجة والإقناع الهادئ البعيد عن التصادم، ودعوة المخطئ إلى الرجوع عن خطئه وبيان الحق بالمناقشة العلمية الهادئة، حيث نظم مع لفيف من مريديه العلماء زيارات لكل هذه المناطق، وجالس المريدين من جديد، وأمدهم بالأدلة والحجج الشرعية على سلامة طريق أهل التصوف من الابتداع، وأنهم على الطريق الحق، واستمرت الزاوية بحمد الله في أداء دورها العلمي التوعوي وحث الناس على عدم الاغترار بأصحاب هذه الأفكار، والالتزام الدائم بثوابت هذه الدار، وعلى هذا النهج سارت باستمرار.
وإن أنسى لا أنسى الدور البارز للمحتفى به في هذه الذكرى، الفقيد سيدي محمد بصير، ابن هذه الزاوية، الرجل الصوفي الذي حمى المجتمع الصحراوي المغربي من مخططات التنصير وطمس الهوية الإسلامية وإقبار اللغة العربية، التي كانت تسعى إسبانيا جادة لتحقيقها في الربوع الصحراوية العزيزة، بغية الوصول إلى التبعية الدائمة للصحراء المغربية إليها.
فاللزوايا والطرق الصوفية دور وأي دور في إظهار وسطية الإسلام وتوازنه وبساطته وسماحته ويسره واعتداله وعفوه ورحمته التي وسعت كل شيء، وترسيخ الانتماء لدى الناس لهذا الدين الوسط وإشعارهم بالاعتزاز بهذه الوسطية، ومعرفة الأفكار المنحرفة وتحصينهم ضدها، وحث الناس على التحقق بالثوابت الدينية للوطن، لأننا والحمد لله أمة ذات ثوابت رصينة معروفة ومشهورة لدى كل مجتمعات العالم، وأننا من أول المجتمعات التي عرفت وقننت هذه الثوابت الخاصة بها، وأنه بسببنا نحن المغاربة أصبحت الكثير من المجتمعات والكثير من الدول تتساءل اليوم هي الأخرى عن ثوابتها الخاصة بها، وأرسلت الكثير من وفودها لتستفيد من التجربة المغربية في هذا الشأن، ينبغي أن نعرف هذا وأن نفتخر به وأن لا نضيعه.
فالمهمة الأولى أو بالأحرى العبادة الأولى، لشيوخ الزوايا والعلماء إذا أراد الطرف الآخر أن يضل الناس، هي أن يوضحوا الحق، وأن يبينوا حقيقة هذا الدين، وأن يردوا عليهم باليقين، لأنهم لايعتمدون إلا على الأكاذيب وعلى الأضاليل وعلى المغالطات، ينبغي أن يبينوا وأن يوضحوا الحق وأن يعلموا الشرع الصحيح، وهذه هي مهمة الزوايا والعلماء، لأنه يقينا لا يمكن أن تقوم للباطل حجة، ولكن تقوم الحجة عند الجاهلين، والشبهات كما تعلمون لاتنجلي إلا باليقين.
أيها الإخوة الكرام، إن من أعظم البلاء والفتنة في هذا الزمان، أن يأتي شخص أمضى حياته في اللهو والمجون والبطالة، فيستفتى في المسائل الكبار في الدين، وهو جاهل به، فيتكلم ويفتي ويصنف الأعمال على حسب هواه، ويجعل من نفسه حكما، ويتهم من يخالف ذلك، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أشراط الساعة بقوله فيما رواه الإمام أحمد: (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الروبيضة قيل: وما الروبيضة قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)، ورى الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: “بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا؛ أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ! فَقَالَ وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ”
أيتها السيدات أيها السادة، إنه للتصدي لظاهرة التطرف واحتوائها، لابد من تبني سياسة شمولية دينية واجتماعية وسياسية وأمنية، فبضل هذه الاستراتيجية الشاملة التي اعتمدها في مغربنا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، تم إلى حد كبير وقف زحف الخطاب الأصولي المتطرف، وتحصين المجتمع وضمان أمنه، ولكن بالرغم من نهج اجراءات اليقظة، وتبني هذه السياسات الوقائية الشاملة، لايزال شبح التطرف والإرهاب يقفان على عتبة المملكة الشريفة، حيث لايزال هناك تخطيط مستمر لزعزعة أمن واستقرار البلد، وهذا مايؤكده الواقع، حيث يتم تفكيك خلايا جديدة في كل وقت حين.
أمام ماذكرنا نحتاج إلى المزيد من فعالية تأطير مؤسسة الزاوايا والطرق الصوفية، لملء الفراغ الذي يعيشه الناس في التأطير الديني والسلوك، وحسم الخلاف في التصدعات الحاصلة في إنتاج المعرفة الدينية وإعادة إنتاجها، والوقوف في وجه التأطير الغريب عن توابثنا، الذي تتزعمه بعض التيارات الإسلامية الدخيلة عن المجتمعات الإسلامية، وإنهاء الخلاف حول تأويل النص الديني، والقراءات المفروضة بعينها على الناس، مما أدى إلى أن يعيشوا ازدواجية في تدينهم وازدواجية في شخصيتهم ونفسيتهم، فالحاجة اليوم أصبحت ماسّة إلى التذكير بقضيّة التطرف، وأصبح اللجوء إلى استراتيجية اجتماعية متكاملة، أمرا ملحا للمساهمة في الحفاظ على عقول الساكنة وتحصينهم ثقافيا من خلال المعلومات الصحيحة التي تزيد الوعي الأمني والثقافي، فيجب إذن على أرباب الزوايا ومن يتبعهم أن يعيدوا إحياء زواياهم لتلعب أدوارها الحقيقية، ويهتموا اهتماما بالغا بالتربية والتوعية والتزكية والتعليم، وأن يهتموا أكثر بالأطفال والشباب، وأن تكون لهم معهم برامج هادفة في الدروس والمذاكرة أثناء سياحاتهم الصوفية داخل البيوت، وفي منابر الخطب والوعظ والإرشاد وفي قاعات الدروس، وفي المحاضرات وفي الإذاعات وفي الشاشات وفي الشبكة العنكبوتية، وما إلى ذلك من وسائل الإعلام المختلفة المتوفرة في عالمنا المتقدم والمتطور، وتكون هذه البرامج والأنشطة بشكل متواصل بدون أي انقطاع كي ينقذوا الناس من شوائب الغلو والتطرف.
ختاما، إن كل هذه المحاور والأفكار التي وردت في كلمتي، والتي مررت عليها مرور الكرام واختصرتها اختصارا، هي التي سيتناولها السادة العلماء والأكاديميون، والأساتذة المبجلون بالتحليل والمناقشة والبيان، أسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في مشاركاتهم ومجهوداتهم، كما أسأله عز وجل أن يبارك في عمر وأعمال راعي هذه الندوة العلمية الدولية مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره، وأن يكلأه بعين عنايته، وأن يحفظ هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين من مخاطر التطرف والإرهاب، وأن يجازي عنا خيرا السيد والي جهة تادلا أزيلال وعامل إقليم بني ملال، والسيد عامل إقليم أزيلال على دعمهم الحسي والمعنوي الدائم للزاوية ولكل أنشطتها الدينية العلمية الثقافية والاجتماعية، كما أشكر كل من ساهم من قريب أو بعيد من أجل تنظيم هذا الملتقى وإنجاحه، وأشكر عمادة كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالدار البيضاء التابعة لجامعة الحسن الثاني على تعاونها مع الطريقة البصيرية، والحمد لله رب العالمين.