مداخلة الدكتور الطيب عبد الوهاب حاج الطيب، مرشد الطريقة السمانية بالسودان

بسم الله الرحمان الرحيم، الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، المتفرد بجمال ملكوته، المتوحد بجلال جبروته، تواضَع كل شيء لعظمته، وذل كل شيء لعزته، خضع كل شيء لملكه،

واستسلم كل شيء لقدرته، ملأ قلوب أوليائه بمحبته، واختص أرواحهم  بشهود عظمته، وهيأ أسرارهم لحمل أعباء معرفته، فسبحان من اصطفاهم لحضرته، واختصهم بمحبته، وفضلهم على كافة عباده بعد رسله وأنبيائه، فهم الغياث للخلق، والدائرون مع الحق بالحق.
والصلاة والسلام على الطاهر المطهر، سيدنا محمد عقد الوجود، والوسيلة العظمى لوصول الخير إلى كل موجود، بذرة الوجود ومطلع شمس الشهود، قطب راح النبيين، ونقطة دائرة المرسلين، فضله الله على جميع خلقه، وخصه بجزيل فضله وعطائه، صلى الله عليه وعلى جميع مصابيح الدجى وأصحابه مفاتيح الهدى، وسلم تسليما كثيرا طيبا مباركا فيه جزيلا جميلا دائما بدوام ملك الله
وبعد،
السادة الجلة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، التصوف منهج تطهير، والارتقاء بقيم الأمة المحمدية، لذلك فالدعوة إلى التصوف حتمية واجبة.
السادة الأماجد، إننا في عصر غلبت فيه الشهوات وطغت فيه الماديات، وأسرته المغريات وامتلكته النزوات واحتضنته الملذات، وأحاطت به الموبقات، فانقلب عصرا شهوانيا غافلا فاسدا متمردا شيطانيا استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله، قلما يوجد فيه من يتمثل أحكام الله عز وجل قلبا وقالبا، وينصاع لها ظاهرا وباطنا، ويضبط نفسه وأنفاسه على مقتضاها خفية وعلانية، لذا فقد أصبح من الواجب والمحتم على كل من أراد السلامة والنجاة كيف ما كان انتسابه وانضباطه وتكوينه وثقافته، ومستواه وآفاقه أن يكون التصوف قرينا له، وقريبا منه، ومزدوجا ومصاحبا له في حله وترحاله، عند فراغه واشتغاله، لأنه الدواء لكل الأمراض الظاهرة والباطنة، النفسية والقلبية العقلية والسلوكية، وخصوصا أمراض العصر التي فشت وداعت وانتشرت وصاحت وباتت مشكلة معقدة وداء عضالا، ومن ثم كان التصوف مطالبا به كل من أراد  أن يذَّكر أو أراد شكورا، لأنه الحل لكل معضلة، والمصحح لكل عمل قلبي أو بدني، والسد المنيع في مواجهة جميع الآفات وكل التيارات الضالة، وهو وحده  فقط بحيويته وروحانيته العالية وتشوفاته وتوجهاته الراقية يستطيع تحدي تلك التيارات الهدامة الجارفة.
والحد من انتشارها وشيوعها، وهو وحده فقط يستطيع مصادمة أعدى أعداء القلب الإنساني، والقضاء عليها، فلا الموعظة وحدها بدون حال صوفي وبيئة وتربية صوفية، تستطيع وقف تيارات الشهوات، وحل مشكلاتها ولا الخطبة وحدها مجردة عن التخلق وعن الإحساس والذوق والشعور الصوفي، تستطيع حل معضلة جشع التيارات المادية، ولا الكلمة وحدها وهي بمعزل عن الخشية والتبتل والاستقامة والتقوى والورع تستطيع معالجة الإقلاع عن التمرد والفسوق والفجور والعصيان.
ومن هنا فإن الكتابة في التصوف وإظهار كتبه ومؤلفاته، وإلقاء دروسه وخطبه، ووعظه وإرشاده، ونشر مقالاته واجبة وضرورية لإنقاذ الناس مما يضرهم ويرديهم، ويعوقهم عما خلقوا لأجله، إذ التصوف أمر فطري في الإنسان، ونزعة أصيلة فيه، وهذا يقتضي بكل إلحاح إحياء هذه الفطرة وإنماءها وإيقاظ هذه النزعة ورعايتها حتى نستطيع معالجة جل الأمراض والآفات، والمصائب والمعضلات فالدواء النافع لكل داء يكمن في التصوف، وبدونه لا نستطيع معالجة أي داء.
سادتي الأماجد، التصوف هو استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد، بأن يميتك عنك ويحييك به، ويحصل بمراقبة الأحوال ولزوم الأدب، والانقياد للحق، وبالدخول في كل خلق سني، والخروج من كل خلق دني، التصوف هو لباب الشريعة وخلاصتها، وثمرتها وحكمتها، وأساسها وروحها وقوامها، التصوف هو الطريق الوحيد لاكتساب الإيمان القلبي الصحيح، الذوقي الشعوري الصوفي، وشتان ما بين الإيمان العقلي النظري الاستدلالي وبين الإيمان القلبي الذوقي الشعوري، الذي هو مقام الإحسان، المفسر بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا المقام إلا بالتصوف، الذي هو البحث عن الكمال والوصول إليه، ومعرفة المصادر والموارد، والحدود والقيود والبدايات والنهايات والغايات، والمراتب والمنازل والترقيات والمقامات كلها، فهو يريك أحوال النفس في الخير والشر، ويريك كيفية تنقيتها من عيوبها وآفاتها، ويريك كيفية تطهيرها من الصفات المذمومة والرذائل الخسيسة، التي ورد الشرع باجتنابها، ويريك كيفية الاتصاف بالصفات المحمودة التي طلب الشرع تحصيلها، ويريك كيفية السلوك والسير إلى الله تبارك وتعالى، وإذا كان الأمر هكذا والحال أن كل واحد لايخلو من عيب أو مرض،  فالتصوف واجب على كل عاقل وعلى كل من أراد العافية، درءا للمفاسد وجلبا للمصالح، ومن تم قال الإمام الشاذلي رضي الله تعالى عنه: من لم يتغلغل  في علمنا هذا مات مصرا على الكبائر وهو لا يشعر”.
الصوفية رضي الله عنهم، هم الصفوة من بني آدم، بعد الأنبياء والرسل عليهم السلام، وهم الوارثون للعلم النبوي، والهدي المحمدي، المقتفون آثاره، السالكون طريقه، جمعوا بين العلم والعمل، والحال والمقال، واجتهدوا في جهاد أنفسهم، وتخليص سريرتهم، وصبروا على مشقة السير ووعثاء السفر، وكابدوا وحشة الطريق، وعوائقه وصعابه وأخطاره، حتى وصلوا إلى رسولهم، وظفروا بالقرب من معبودهم، ففتح الله تعالى بصائرهم.
سادتي الكرام، ولنا في سلفنا الصالح من أئمة الصوفية وأتباعهم المثل الواقعي الحي عبر العصور، إن كان في العصور الوسطى إبان الحملة الصليبية، أو في العصر الحديث، إبان مقاومة الاستعمار الحديث، ففي بلاد المغرب الإسلامي عامة، وعلى سبيل المثال في العصر الحديث،  ناضل الصوفية عامة كالشاذلية والخلوتية الرحمانية والسنوسية مع زعمائهم، أمثال الأمير عبد القادر الجزائري، وعمر المختار ومحمد المهدي السنوسي، وأما في المملكة المغربية فعبر تاريخها الإسلامي الطويل، وعبر الدول الإسلامية التي سادت على أرضها كان الصوفية هناك، مع المرابطين والموحدين وغيرهم، وفي العصر الحديث مع مولاي محمد بصير ضد الاستعمار الإسباني،  فقد حاربوا الاستعمار وكافحوه، وحاربوا مشاريعه التي ترمي إلى سلخ الأمة عن دينها، وتراثها وتاريخها وماضيها العظيم، وذلك بإبعادها عن كتابها الكريم، وعن سنة نبيها عليه أفضل الصلاة والتسليم، وحاربوا مناهجه الدراسية التي استهدفت تفريغ أبنائنا من هذه القيم الإسلامية، واستبدالها بقيمهم المستجلبة البغيضة.
فلولا جهاد الصوفية لما أمكن القضاء على هذا المخطط الاستعماري الخطير، ولاتزال محاولات المستعمرين تستهدفنا بأساليب مستحدثة تبعا لتطور العصر، ولا يزال الصوفية في جهادهم الأكبر والأصغر يواجهون محاولات الاستلاب، هذا بنشر قيم التصوف السني الصحيح، وبثها في نفوس أبناء أمتنا الإسلامية، والتي أثبتت نجاعتها عبر التاريخ، في المواجهة الشرسة مع أعدائنا في الداخل والخارج، ثم قبل ذلك بالسير بالمريدين في طريق التزكية، والسفر إلى الله تبارك وتعالى بالتوحيد الخالص وإفراد العبادة وإخلاصها له، فهم الربانيون والنورانيون بحق، خدموا أمتهم وضربوا أروع الأمثلة في ذلك، وتحققوا بحقائق التوحيد والصفات، وانقلبوا ينشرون تعاليم الإسلام وقيمه، ويعلمون أبناء أمتهم القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وأعانوا الطلبة والحفظة على ذلك بإيوائهم والقيام بشأنهم كله، من إعاشة وغيرها، ثم ساروا بهم في طريق التزكية حتى أوصلوهم إلى الله تعالى في مجاهدة شريفة مباركة.
وفي الختام أقول:  نحن اليوم أحوج ما نكون إلى انبساط للتصوف وانطلاق روحه حتى نستطيع أن نزحزح كابوس المادية الثقيل الجاثم على صدر العالم والمثير للقلاقل والحروب بين الشعوب، وأن نروع شبح الأنانية الذي يطل على البشرية بشعا مخيفا، يكاد يصرع بهوله الضعفاء والفقراء، أسأل الله الكريم أن يبارك في جمعكم الكريم هذا، ويصبغ على جهدكم المبارك حلل القبول، وأن يبارك في أمير المومنين، جلالة الملك محمد السادس وولي عهده الأمير وأن يوفقهما لخدمة الإسلام والمسلمين، كما نسأله جل وعلى أن يبارك في جهود مولاي إسماعيل وإخوانه وتلاميذه، ويوفقهم لخدمة الإسلام عامة، والتصوف خاصة، حتى يسود بقيمه وينتشر بين أبناء أمتنا الإسلامية، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *