القلب الحي السعيد من خلال آي القرآن الكريم
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد
كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “أفلم يسيرو في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”.
أيها الإخوة الكرام، كنت وعدتكم في خطبة ماضية بأني سأتوقف عند بيان أوصاف القلوب الحية السعيدة من خلال آيات القرآن الكريم، وذلكم بعدما تكلمت عن أوصاف القلوب الخبيثة الميتة في خطبة سابقة، لذلكم فمن وجد خيرا فليحمد الله وليجاهدن نفسه ليبقى كذلك، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وليسع جهده أن يصلح قلبه ويقوم نفسه ولينهض بها في اتجاه ربه، في عمل متواصل ومجاهدة ومراقبة دائمة حتى ياتيه اليقين، والمقصود هو أن يقيم كل واحد منا نفسه ويضعها في الميزان ليعلم أهذا القلب الذي يوجد على يساره أهو حي أم ميت؟ فأين تتجلى مظاهر القلوب الحية السعيدة في آي القرآن الكريم؟ وكيف السبيل إلى التحصل على هذا القلب الحي السعيد؟
أيها الإخوة الكرام، أما مظاهر القلوب الحية السعيدة كما وصفت في القرآن الكريم، فأول مانجده من ذلك أن آيات القرآن الكريم تصف القلب بالوجل والخوف والإخباث عند ذكر الله، يقول الله تعالى: “إنما المومنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم”، والوجل هو الخوف في فزع ينشأ منه قشعريرة، واضطراب في القلب.
وفي هذا المقام قد يسأل سائل إذا كان ذكر الله عز وجل يدفع قلوب المؤمنين إلى الوجل، ألا يتنافى ذلك مع قول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى:” الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب”؟، أقول في الجواب: في الحقيقة لا يوجد تعارض بين القولين؛ لأن ذكر الله تعالى يأتي بأحوال متعددة، فإن كان الإنسان مسرفًا على نفسه، فهو يرجف حين يذكر الله الذي خالف منهجه، وإن كان الإنسان يراعي حق الله في كل عمل قَدْر الاستطاعة، فلابد أن يطمئن قلبه لحظة ذكر الله؛ لأنه اتبع منهج الله ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وهذا تجمعه آية واحدة هي قول الحق تبارك وتعالى: “الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله”، فالجلود تقشعر خوفًا ووجَلًا ومهابة من الله عز وجل، ثم تلين اطمئنانًا وطمعًا في حنان المنّان سبحانه وتعالى،إذن فلا يقولن أحد إن هناك تعارضًا بين الوجل والاطمئنان، فكلها من ذكر الله بالأحوال المتعددة للإنسان.
وثاني هذه المظاهر الإطمئنان، يقول سبحانه وتعالى:” الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم عند ذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب”، فكل من وجد في قلبه ضيقا أو قبضا أو شعر بالقلق فليلازم الإكثار من ذكر الله.
وثالث مظاهر القلب السعيد قبول التمحيص، قال تعالى:”وليبتلي الله مافي صدوركم وليمحص مافي قلوبكم والله عليم بذات الصدور”، والتمحيص هو التخليص من كل عيب والتطهير من وساوس الشيطان، ورابع هذه الأوصاف الربط والتثبيت، قال عز وجل :”ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام”،أي يطمئن المؤمنين فلا تتوزع أو تتشتت مشاعرهم، وما أقبح أن يشعر أحدنا بأن مشاعره مشتتة، ومن أوصاف القلوب الحية السعيدة في القرآن الكريم الحفظ من الريب والشك، قال تعالى: “ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب”، وروى الإمام الترمذي قال قلت لأم سلمة يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟ قالت كان أكثر دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله، ما أكثر دعاءك يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال: يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ”، فتلا معاذ:” ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا”، وهذا أيها الإخوة والأخوات من الأدعية التي ينبغي أن نلازم الدعاء بها دائما وأبدا.
ومن أوصاف القلوب الحية البعد عن التشفي في الغير قال عز وجل:” ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا”، وما أحوجنا لأمثال هذه القلوب التي تدعو ربها لنفسها ولإخوانها من المؤمنين بأن لا يجعل الله في قلبها غلا لأحد من المسلمين، بعيدة عن التشفي وحب الأذى للناس، ومن أوصافها الرقة والبعد عن الغلظة، قال عز وجل: “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك”، والفظ هو الإنسان الغليظ الجافي، وقد ورد في صفة النبي عليه السلام:” ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق”، وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومعنى:” لانفضوا” لتفرقوا، ومن مظاهر القلوب الحية السعيدة الخشوع عند ذكر الله، قال الله تعالى:”ألم يان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ومانزل من الحق”، ومن أوصافها امتحان القلوب بأعمال الخير قال عز وجل:” الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى”، أي يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له، ومعنى ذلك خلصها للتقوى واختصها للتقوى، وطهرهم من كل قبيح، وجعل في قلوبهم الخوف من الله، وأذهب عن قلوبهم الشهوات، ومن أوصاف القلوب الحية قبول التآلف مع الغير، وبخاصة من المسلمين، قال عز وجل:”واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم”، وقال سبحانه:”هو الذي أيدك بنصره وبالمومنين وألف بين قلوبهم”، ومن تجليات القلب الحي لزوم الهدى والإيمان ومحلها القلب، قال سبحانه:”ومن يومن بالله يهد قلبه”، ومن أوصافها تعظيم شعائر الله، قال عز وجل:”ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب”، ومن أوصافها السكينة، قال الله تعالى:”هو الذي أنزل السكينة في قلوب المومنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم”، نسأل الله تبارك تعالى أن يمتعنا وإياكم بهذه القلوب الحية السعيدة، وأن يحققنا وإياكم بأوصافها، آمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد فياعباد الله،
بعد أن عرفنا مظاهر القلب السعيد المطمئن السليم، فكيف السيل إذن إلى الحصول على سعادة القلب وطمأنينته وسكينته وحياته؟
أيها الإخوة الكرام، المرء عندما يمرض مرضا عضويا يهرع للطبيب المختص، فيصف له الدواء في وصفة تتخللها مجموعة من الأدوية يأخذها بمقدار معين كل يوم، بل كل صباح ومساء، بل أحيانا قبل أو بعد كل وجبة، كذلكم هذه الأدوية الروحية التي وصفها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، ووصفها لنا الصالحون والعلماء الربانيون، فهي دون شك دواء روحي نافع ناجع لحياة القلب وسعادته، ينبغي أن نأخذها بمقدار معين كل يوم، وسنتعافى بحول الله من جميع الأمراض الخفية التي تعشش في القلوب فتقتلها وتصيرها ميتة.
إن من أهم هذه العلاجات والأدوية الروحية ملازمة الإكثار من ذكر الله، وتلاوة القرآن، وذكر الموت، والاستغفار، والاقتصاد في الأكل، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين، ومساءلة العلماء والحكماء، والمداومة على أوراد خاصة ولو عشرة دقائق في اليوم والليلة، والتفكر في خلق الله، وأن ترى نفسك بعد هذا كله أنك شر الناس، يقول الإمام علي كرم الله وجهه: “كن خير الناس عند الله وشر الناس عند نفسك”، فمن لازم هذه الأدوية الموصوفة في هذه الوصفة حسب استطاعته وقدرته واستمر على ذلك، فإن قلبه سينتعش وسيحيى وسيصبح سعيدا بإذن الله، والحمد لله رب العالمين.