ذكرى الإسراء والمعراج
الحمد لله، الحمد لله الذي أكرم نبينا بالمعجزات، وأيده بالبراهين الساطعات، وأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى المحفوف بالبركات،
ثم عرج به إلى أعلى الدرجات، نحمده تعالى ونشكره على ما أسبغ علينا من خيرات،
ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو خالق الأرض والسماوات، شرف نبينا محمدا تشريفا عظيما ليلة الإسراء والمعراج اهتزت له المخلوقات، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الخاتم للرسل والرسالات، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه المصدقين بما جاء به من المعجزات، وسلم تسليما كثيرا،
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون المؤمنات، يقول الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: ” سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأقْصَى ٱلَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـٰتِنَا إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ”،
أيها المسلمون، كلما أوشك شهر رجب الفرد الحرام على الانتهاء إلا وتذكرنا معه حدثا هاما من أحداث السيرة النبوية، إنه حدث الإسراء والمعراج، لم يكن سَفَرًا من أسفار النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يقوم بها في الأرض، لكنه سفر بدأ بالأرض واكتمل في السماء.
لقد جاء هذا السَّفر المعجز عقب سفر من أسفار الدعوة التي كان نبي الله يقوم بها لتبليغ رسالته إلى العالم، وهو سَفره إلى الطائف. هذا السَّفر القدسيّ المعجز، آية من الآيات التي أيّد الله بها نبينا صلى الله عليه وسلم ، روى الإمام مسلم بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته، حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يَربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة”.
هذا الجزء من الرحلة يسمى الإسراء، فقد أسري به ـ وهو السفر ليلاً ـ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وبعد ذلك سيبدأ المعراج. والمعراج من العروج أي: الصعود، قال تعالى: “يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى ٱلأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا”.
وهذا نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم يعرج إلى السماء بعلم الله وإذنه، فما كان للعبد أن يصعد السماوات إلا بإذن ودعوة، وهذا ما جاء صريحًا في بقية الخبر قال “ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل ـ أي: طلب فتح الباب ـ فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففتح لنا، ـ قال صلى الله عليه وسلم: “فإذا أنا بآدم صلى الله عليه وسلم ، فرحب بي ودعا لي بخير”. فآدم في السماء الأولى، وهو نبيّ لقيه صلى الله عليه وسلم في معراجه، ثم عرج به إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل فقيل له ما قيل في السماء الأولى، فلما دخل لقي عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا عليهم السلام، فرحبا به ودعوا له بخير، وفي السماء الثالثة لقي يوسف عليه السلام، وفي الرابعة لقي إدريس عليه السلام، وفي الخامسة لقي هارون عليه السلام، وفي السادسة لقي موسى عليه السلام، وفي السابعة لقي إبراهيم عليه السلام، كلهم يرحبون به ويدعون له بخير، ويشيعونه كما يشيع الزائر عند توديعه، وكان بلغ السماء السابعة، وفيها رأى النبي صلى الله عليه وسلم البيت المعمور في السماء، وإبراهيم الذي بنى البيت الحرام في الأرض الكعبة مُسندا ظهره إلى البيت المعمور في السماء، البيت الذي في الأرض يطوف به الإنس والجن، والذي في السماء يدخله كل يوم ألف ملك لا يعودون إليه، أي: لكثرة الملائكة، ومنذ خلق الله السماء والملائكة يدخلون هذا البيت، ومن دخل لا يعود.
وبعد أن لقي هؤلاء الرسل الكرام ذهب به إلى سِدْرة المنتهى، وإذا وَرَقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقِلال، فهي شجرة عظيمة، أوراقها واسعة، وثمارها ضخمة، قال صلى الله عليه وسلم: “فلما غشيها من أمر الله ما غَشِيَ تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حُسنها، فأوحى الله إليّ ما أوحى، ففرض علي خمسين صلاة في اليوم والليلة”. وقد ذكر الله تعالى في كتابه المعراج كما ذكر الإسراء، ففي سورة النجم قال سبحانه: “وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ، مَا ضَلَّ صَـٰحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ، وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَىٰ، عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ ذُو مِرَّةٍ، فَٱسْتَوَىٰ وَهُوَ بِٱلأفُقِ ٱلاْعْلَىٰ، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ، فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ، مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ، أَفَتُمَـٰرُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ، وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ، عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ، عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ، إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ، مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ، لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءايَـٰتِ رَبّهِ ٱلْكُبْرَى”.
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
نفعني الله وإياكم بكتابه المبين، وبسنة نبيه المصطفى الأمين، وغفر لي ولكم وللمسلمين أجمعين، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون، لا نحتفل بحدث الإسراء والمعراج من أجل ذكر ووصف هذه الرحلة المباركة، وإنما نريد من خلالها الوقوف على ما يستخلص من العبر وهي كثيرة:
يأتي في مقدمتها، بيان أهمية الصلاة بالنسبة لباقي الشرائع التي أوجبها الله علينا، فإذا كانت كلها فرضت في الأرض، فإن الصلاة باعتبارها العبادة التي يدخل من خلالها العبد في مناجات ربه عز وجل فرضت في السماء لعلو شأنها وقيمتها.
ثانيا أنه لما كان بيت المقدس مُهَاجَر كثير من أنبياء الله تعالى كان الإسراء بنبينا صلى الله عليه وسلم إليه، ليجمع له بين أشتات الفضائل.
ثالثا: كان الذهاب بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ليلاً، لأنه زمن يأنس فيه المسلم بالله، منقطعًا عن الدنيا وشواغلها.
رابعا: لما ذكر الله تعالى الإسراء نعت النبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية فقال: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ”، ومن تأمل القرآن الكريم يجد أن الله تعالى نعت نبيه صلى الله عليه وسلم بنعت العبودية في أسمى أحواله وأرفع مقاماته، ففي مقام الدعوة: “وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا”، ولما ذكر إنزال الكتاب عليه قال: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا”، وقال مخبرًا عن الوحي إليه: “فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى”، وقال عن جميع المرسلين: “وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ”، فالعزّ كل العزّ في أن تكون عبدًا لله تعالى.
خامسا: أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، فقد تقدم عليهم وصلّى بهم، وبلغ في المعراج مبلغًا لم يبلغه أحد منهم، وهذا مما لا ينازع فيه أحد.
وأخيرا لقي النبي صلى الله عليه وسلم في السماء الأولى: آدم، وفي الثانية: عيسى ويحيى، وفي الثالثة: يوسف، وفي الرابعة: إدريس، وفي الخامسة: هارون، وفي السادسة: موسى، وفي السابعة: إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، والحكمة في اختيار هؤلاء الأنبياء ـ والله أعلم ـ أنه بمقابلة آدم عليه السلام يتذكر أنه أُخرِج من موطنه وعاد إليه، فيتسلّى بذلك إذا أخرجه قومه من مكة.
وأما عيسى ويحيى عليهما السلام فلِما لاقاه من شدة عداوة اليهود، وهذا أمر سيلقاه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأما يوسف فلِما أصابه من ظلم إخوته له، فصبر عليهم، وقد طرد أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله.
وأما إدريس فلرِفْعة مكانه التي تَشْحَذ الهمة لنيل أعلى الدرجات عند رب السماوات. وأما هارون فلأن قومه عادوه، ثم عادوا لمحبته. وأما موسى فلشدة ما أوذي به من قومه، حتى إن نبينا صلى الله عليه وسلم قال في ذلك: “يرحم الله أخي موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر”، وفي ملاقاة إبراهيم عليه السلام في آخر السماوات مُسنِدًا ظهره للبيت المعمور إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم سيختم عمره الشريف بحج البيت العتيق.
الدعاء…