مظاهر الإعجاز العلمي للقلب
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك،
اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عن النعمان بن بشير بعدة طرق في أغلب المسانيد والصحاح: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله،
وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”، وفي رواية الإمام أحمد: “إن في الجسد مضغة إذا سلمت وصحت سلم سائر الجسد وصح، وإذا سقمت سقم سائر الجسد وفسد ألا وهي القلب”.
أيها الإخوة الكرام، تتمة لما بدأته في الأسابيع الماضية بتطرقي لمواضيع تتصل بسلامة الصدر وبالقلب باعتباره جوهر الإنسان كما يقال، وباعتباره الجهاز الرئيسي في جسم الإنسان وموطن المشاعر والعواطف ومكان النوايا والغايات، وأن مافي القلب ينعكس على كل جوارح الإنسان ويعطي الإنسان هويته الذاتية وصفاته النفسية والوجدانية، وأن صلاحه معيار حقيقي لصلاح المرء أو فساده، رأيت أن أتوقف وإياكم اليوم عند هذه الجارحة العظيمة لنتأمل فيها وفي المهمات الجسيمة التي تقوم بها داخل أجسامنا، لنتحقق بذلكم بقوله تعالى:”وفي أنفسكم أفلا تبصرون”، ولنطلع على هذا الإعجاز العلمي العظيم الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قبل ألف وأربعمائة سنة، حيث لم يترك مجالا لخائض مستريب ولا لضال متشكك في حقيقة النبوة وحقيقة الرسالة، ومن ذا الذي كان يعتقد بأن العلم الحديث سيصل في يوم من الأيام إلى حقائق وإشارات علمية بحتة تؤيد ماقاله الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالنفس البشرية، عبر هذا القلب الذي يمثل ماهية الإنسان وحقيقته؟، حقا وصدقا إنه ماينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى بإذن الله سبحانه، ولذلكم اخترت الكلام في هذا الموضوع، لأنه كلما فتحنا باب التأمل والتفكر في أنفسنا كلما ازددنا إيمانا وقوي إيماننا بالله وبرسوله واستقمنا بالتالي على شرع الله، فماهو المعنى اللغوي والشرعي والطبي للقلب؟ وأين تكمن مظاهر الإعجاز فيه؟
أيها الإخوة الكرام، يطلق القلب ويراد به في المعاجم اللغوية طائفة من المعاني، وهذه المعاني يرتبط بعضها ببعض تمام الارتباط، ولها صلة قوية ببعضها، ولكننا إذا مادققنا في معنى كل منها نجد له خصوصية ينفرد بها، يطلق القلب ويراد به أحد هذه المعاني: الفؤاد، اللب، خالص الشيء، العقل، الصدر، ويعرف القلب بالمعنى الطبي على اعتبار أنه عضلة لحمية من نوع خاص يطلق عليها عضلة القلب، وهي ذات شكل خاص وتركيب معين، وهو مضخة عضلية تقوم بتنظيم الدورة الدموية من وإلى الجسد طوال حياة الإنسان، تعمل بلا كلل ولا ملل في جميع الأجواء ليلا ونهارا صيفا وشتاء في النوم وفي اليقظة حال الصحة وحال المرض،والقلب أيها الإخوة والأخوات يقوم بمهمته العضوية والفيزيولوجية المعروفة، وهي ضخ الدم غير النقي( غير المؤكسد) من البطين الأيمن إلى الرئتين، حيث ينقى بأكسدته، ويعود الدم المنقى المؤكسد من الرئتين إلى البطين الأيسر الذي يضخه إلى كل أجزاء الجسم، فيمد تريليونات الخلايا المكونة لجسم الإنسان بغاز الأوكسجين والغذاء، وإذا اضطربت هذه الوظيفة أو اختلت أو فسدت وصل هذا الفساد إلى سائر خلايا الجسم، ومن لطف الله بعباده أن هذه الدورة مضبوطة ومحكمة، فهي تعمل في اتجاه واحد.
والقلب لا يزيد عن ثلث كيلو جرام، وهو في حجم قبضة اليد، ويزن في المتوسط 312 جراما، وينبض القلب في الدقيقة الواحدة من ستين إلى ثمانين نبضة، وزيادة النبض أو انخفاضه عن هذا المعدل يدل على حالات مرضية تعرف بضغط القلب، ولهذا القلب قدرات عجيبة وغريبة، فهو لا يكف عن الحركة ليلا أو نهارا، يقظة أو مناما، ولو توقف لأسلم العبد روحه إلى بارئها، ويضخ القلب نحو أربعة لترات من الدم في الدقيقة الواحدة، هذا في حال الهدوء، أما في حالة العدو والحركة، فإن سرعة النبض تزيد، وكذلك يرتفع معدل ضخ الدم إلى نحو عشرين لترا في الدقيقة، وهذه المضخة الجبارة تنقبض وتنبسط في اليوم الواحد مائة ألف مرة، وفي العام أربعين مليون مرة، كما أنها توزع الدم على الجسم كله في دورات متتابعة وغير متناهية طالما كان الإنسان على قيد الحياة، ولا تستغرق الدورة الدموية الواحدة أكثر من عدد من الثواني لايتجاوز عشرين ثانية، فيدفع الدم إلى الدماغ في أعلى الجسم في ثمان ثوان، ذلك لأن المسافة بين القلب والدماغ لا تزيد عن خمسة وأربعين سنتمترا، كما أنه يدفع الدم إلى القدمين في نحو ثمانية عشر ثانية، والقلب هو أول أجهزة الجسم البشري قياما بوظائفه، حيث يبدأ عمله مبكرا جدا جدا، فعندما يتم التلقيح والإخصاب وتتكون اللاقحة والتي تأخذ في الانقسام المتتالي، فإن القلب البشري يعتبر أول الأعضاء تكونا وخلقا، كما أنه في ذات الوقت يعتبر آخرها توقفا عن العمل وموتا.
أيها الإخوة الكرام، يقول الأطباء: إذا كان الإنسان في حالة من الأمن والطمأنينة والراحة والهدوء فإن أسهم الجهاز نظير التعاطفي ترتفع فتهدأ ضربات القلب، وينعم الإنسان بالاستقرار والتفكير المنظم، ويقوم بعمله على خير الوجوه وأحسنها، أما إذا انتابه الخوف أو هاجت عواطفه واضطربت مشاعره، فإن أسهم الجهاز العصبي ترتفع بواسطة العوامل التي أشرنا إليها، ويزداد تبعا لذلك معدل ضربات القلب، ويستدل على أي من هاتين الحالتين باستقرار العينين في محجريهما أثناء الراحة والطمأنينة والهدوء، كما يستدل على حالة القلق والتوتر بعدم استقرار العينين في محجريهما على نحو ماأشار القرآن الكريم في قصة مريم حينما وضعت وليدها من غير أب أو زوج استبد بها القلق والخوف، وظهر ذلك على صفحة وجهها وفي عينيها، فأدركها الله بلطفه وأنطق وليدها يبلغها هذه الرسالة: “فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا، وهزي إليك بجدع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا”، يقول عمرو بن ميمون: “مامن شيء خير للنفساء من التمر والرطب”، فالتمر والرطب عندما يتناوله المريض أو النفساء أو الناقه من المرض يمده بعناصر الصوديوم والكالسيوم والبوتاسيوم، وهذه العناصر تعمل على استقرار الحالة النفسية، ويظهر ذلك في استقرار العين “وقري عينا”، ويقول الله تعالى مبينا حال المومنين واضطرابهم يوم الخندق: ” إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا”.تأملوا أيها الإخوة الكرام في هذه المظاهر لتدركوا عجيب صنع الله فيكم، وأسأله تبارك وتعالى أن يزيدنا وإياكم إيمانا، وأن يجعل لنا ولكم أوفر النصيب لديه ولدى رسوله وأحبائه وأوليائه،آمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
بقي أن أتوقف عند المعنى الشرعي للقلب، وهو المعنى المادي وهو نفسه المعنى الطبي الذي أشرنا إليه سابقا، وهو مستودع الأسرار والأنوار من المشاعر والعواطف والأحاسيس والانفعالات التي تظهر كردود أفعال للضغوط والكروب التي يتعرض لها الإنسان من المواقف الحياتية المتباينة، وفي آيات القرآن الكريم جعل القلب موضعا للهدى والتقوى والطهارة والسكينة والاطمئنان والخشوع والإخباث واللين والوجل والوجف والرأفة والرحمة والألفة ووصف بالسلامة والإنابة كما جعل موضعا للضلال والإثم والهوى واللهو والزيغ وحمية الجاهلية والرعب والريب والقسوة والغلظة والغل والغيظ والحسرة ووصف بالمرض والعمى والطبع والختم والإغفال، وبأن عليه أقفالا وأكنة إلى غير ذلك من المعاني التي سنتوقف عندها في خطبة قادمة لنبين مظاهر القلب السعيد ومظاهر القلب الميت من خلال آي القرآن الكريم، ولا أنسى أن أذكر في الختام بأنه ورد ذكر القلب في تسع وثلاثين سورة من سور الكتاب العزيز، وذكر في ثمانية وتسعين آية، وهذا التنوع وهذه الوفرة تدل على أهمية القلب كما قال العلماء، فاعتنوا به تسعدوا في الدنيا والآخرة والحمد لله رب العالمين.
الدعاء…