القلب الميت من خلال آيات القرآن الكريم

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك،

اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “أفلم يسيرو في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”، ويقول عز وجل: “إنما يتذكر أولوا الألباب”. .
أيها الإخوة الكرام، في خطبة هذا اليوم المبارك سأتوقف عند بيان أوصاف القلوب الميتة الشقية من خلال آيات القرآن الكريم، وذلكم ليستطيع كل واحد منا تقويم وتقييم نفسه لينهض بها في اتجاه ربه، وليضع كل واحد منا إصبعه على الداء وليهرع في البحث عن الدواء، واخترت التوقف عند هذا الموضوع لأني وجدت الكثير من الناس يشتكون أمراضا نفسية كثيرة كضيق الصدر، أي ما يعرف بالقبض، ويشتكون الكآبة والاضطراب، ويسيطر عليهم المزاج السوداوي المتشائم، ويشعرون بالإعياء والتعب وصعوبة التركيز والإجهاد الذهني مع فقد الشهية للطعام، وما يصاحب ذلك من الأرق والاستيقاظ في ساعات مبكرة مع عدم التمتع بالنوم مرة ثانية، والتوتر والعصبية وكثرة الشكاوى من كثير من الآلام، كالصداع والدوخة وآلام الظهر وإهمال الذات، والانسحاب من النشاط العادي في العمل والعلاقات الاجتماعية، وعموما الانهيار العصبي، وما يصاحبه من صياح وعويل وبكاء وتمني الموت بل محاولة الانتحار أحيانا، وإذا تأملنا واقع حال الكثير من هؤلاء في عصرنا هذا نجدهم يشتكون من هذه الأمراض ولايدرون أن لكل ذلك علاقة بالقلب الذي أغفلوه ولم يتعهدوه بما يستحق من العناية والإصلاح، ولم يسعوا ولم يجدوا في تحصيل أسباب زيادة الإيمان، وتركوه ميتا ينعم في شقائه.
أيها الإخوة الكرام، أما مظاهر القلوب الميتة كما وصفت في القرآن الكريم، فأول مانجده من ذلك أن آيات القرآن الكريم تصف القلب بالطبع والختم والتغليف، وذلك كقوله عز وجل:” ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة”، وكقوله عز وجل:” وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا”، وكقوله:” وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا”، وقد يسأل سائل مامعنى الطبع والختم والتغليف للقلب الوارد في هذه الآيات؟، أقول في الجواب: إن الطبع على القلوب كما يكون على قلوب الكفار، يكون على قلوب المسلمين العاصين، فأما الطبع على قلوب الكفار فهو طبعٌ على القلب كله، وأما الطبع على قلوب المسلمين العاصين، فيكون طبعاً جزئيّاً، بحسب معصيته، وفي كل الأحوال ليس الطبع ابتداء من الرب تعالى، بل هو عقوبة لأولئك المطبوع على قلوبهم، أولئك بما كفروا، والآخرون بما عصوا، قال أحد كبار الربانيين: الذنوب إذا تكاثرت طُبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين، كما قال بعض السلف في قوله تعالى :”كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون”، قال: هو الذنب بعد الذنب، وقال بعضهم: هو الذنب على الذنب حتى يعمي القلب، حتى قال: وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت: غلب الصدأ حتى يصير راناً، ثم يغلب حتى يصير طبْعاً وقفلاً وختماً، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس، فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد.
ومن أوصاف القلوب الميتة في القرآن الكريم كذلك أننا نجده يصفها بالقسوة، وذلك كقوله عز وجل:” ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة”، والقسوة هي غلظ القلب، يقال: الذنب مقساةٌ للقلب، بمعنى ذهاب اللين والرحمة والخشوع من القلب، وعلامات القسوة كثيرة منها النبو عن سماع الحق، والميل إلى مخالطة الخلق، وقلة الخشية، وعدم الخشوع والبكاء، وكثرة الغفلة عن دار البقاء.
ومن أوصاف القلوب الميتة في القرآن الكريم أيضا أنه وصف بالاشمئزاز من الحق في مثل قوله تعالى:” وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لايومنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون”، وهذه للأسف الشديد حال بعض الناس في علاقتهم بمجالس الذكر ومجالس العلم والوعظ ومجالس القرآن ومجالس الخير، ومن أوصافها أيضا قذف الرعب في القلوب، يقول تعالى:”سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب”، ومن أوصافها نضوب الخير من قلوبهم قال عز وجل:”لهم قلوب لايفقهون بها”، ومن أوصافها الزيغ، قال الله تعالى:”فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم”، وقال:” فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ”، أي ميل عن الحق واتباع للهوى، “فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ”، أي يتابعونه ويتتبعونه حتى يجعلوا ذلك وسيلة إلى الطعن في كتاب الله عز وجل، أسأل الله عز وجل أن يحفظ قلوبنا من الزيغ والقسوة والطبع والختم والتغليف آمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فياعباد الله، روى الإمام مسلم عن حُذَيْفَة قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا (الذي في لونه رُبدة، وهي أن يخْتَلَطَ سَوَادُهُ بِكُدْرَةٍ) كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا(كالإناء المائل عن الاستقامة والاعتدال)، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)، ومعنى الحديث أن الرجل إذا تبع هواه وارتكب المعاصي دخل قلبَه بكل معصية يتعاطاها ظلمةٌ، وإذا صار كذلك افتُتن، وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز، فإذا انكب انصب ما فيه، ولم يدخله شيء بعد ذلك، والفتن التي تُعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، وفتن الغي والضلال، وفتن المعاصي والبدع، وفتن الظلم والجهل.
وأختم بحكمة جامعة مانعة ذكرها أحد الربانيين رحمه الله قال:” إن في القلب شعث لايلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لايزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لايذهبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وفيه قلق لايسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لايطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى يوم القيامة، وفيه فاقة لايسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا ومافيها لم تسد تلك الفاقة أبدا “، والحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *