حب الأوطان من شكر النعم
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، نحمده تعالى على فضله وإحسانه حمدا كثيرا،
ونشكره سبحان وتعالى على نعمه التي أسبغ علينا بكرة وأصيلا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، امتن على عباده بفيض نعمه وآلائه، ودعانا إلى التأمل فيها وشكرها في قوله: “وأما بنعمة ربك فحدث”،
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، سيد من عرف نعم الله فشكره عليها، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المتمسكين بسنته السائرين على نهجه الشاكرين لنعمائه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، في الجمعة الماضية تحدثنا عن موضوع شكر نعمة الأمن التي أنعم وينعم الله تعالى بها علينا، ولله الحمد والشكر، وذكرنا بأن نعمة الأمن في الوطن هي شرط لتحقيق كرامة هذا الإنسان، وأنه لا عيش للإنسان في هذه الحياة الدنيا إلا في مجتمع يسوده الأمن والإستقرار، قال تعالى: “وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا”، بل إن من النعم التي يحتاجها المرء وهو في بحبوحة الجنان أن يبشر بدوام نعمة الأمن عليه بأول كلام الترحيب “ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ”.
ونحن أمام هذه النعمة ينبغي علينا أن نحافظ عليها، ونعمل كل من جهته على دوامها علينا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أصبح منكم آمنا في سربه، معافا في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما سيقت له الدنيا بحذافيرها”، وإن أهم وسيلة للحفاظ على هذه النعمة هي حب الوطن، وتثبيث هذا الحب عند أبنائنا وبناتنا، وأهلينا، وتلقينه لناشئتنا، سلوكا وأقوالا، لأن حب الوطن أمر فطري في الإنسان، فقد جعل الله سبحانه وتعالى بين الإنسان وبين الأرض التي نشأ على ترابها وغذائها، وشرب من معين مائها، وشم من طيب هوائها، رابطة من المشاعر العميقة، والمحبة الوثيقة، هي بمثابة أواصر الدم والرحم التي تصله بوالدته التي حملته في بطنها، وولدته من أحشائها، وغذته بلبنها، وتربى في حجرها، ونما وترعرع بين أحضانها، وهذه المعاني كلها أواصر مشتركة بين الأم الوالدة والأرض المولود فيها، تستوجب من الحقوق فوق كل الحقوق، بعد توحيد الخالق عز وجل.
ولذلك غرس الله محبة الوطن في أعماق الفطرة الإنسانية، وجعلها الشرع الحنيف من صميم القيم الدينية السامية، والدلائل الفطرية الإيمانية على رقي إنسانية الإنسان، ولذلك جاء في الأثر: “حب الوطن من الإيمان”.
أيها المؤمنون، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب وطنه مكة، حبا عظيما، لأنها محل مولده ونشأته عليه الصلاة والسلام، فقد ثبت في أخبار هجرته صلى الله عليه وسلم ، أنه لما أخرجته قريش من مكة، بعد أن اشتد عليه وعلى أصحابه الأذى، خرج متخفيا بالليل، ومعه رفيقه في هجرته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فوقف صلى الله عليه وسلم على مشارف مكة، وولى وجهه جهتها، وقال مخاطبا لها ومتحننا: “والله إنك لأحب البلاد إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت أبدا”، فبشره الله تعالى، بعد الهجرة، بقرب العودة إليها زمن الفتح، قال عز من قائل: “إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد”.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أحبها ودعا الله أن يرزقه حبها، فقال صلى الله عليه وسلم: “اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد”، فاستجاب الله تعالى دعاءه، فصار يحب المدينة حبا عظيما، وكان يسر عندما يرى معالمها التي تدل على قرب وصوله إليها، فعن أنس بن مالك قال: “كان رسول الله ص إذا قدم من سفر، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقته- أي أسرع بها- وإن كانت دابة حركها”، وفي رواية البخاري أيضا: “حركها من حبها” أي من التشوق إلى المدينة.
معشر المسلمين، إن حب الوطن من أفضل الخصال، وأحد أوصاف أهل الكمال، ولذلك جاءت نصوص الشرع كتابا وسنة متظافرة على أن حب الوطن من سليم الفطرة، وأنه معروف في سير الرسل، وهم أكمل رجال أزمانهم، وفطرتهم أنقى فطرة وأبعدها عن الفساد.
وليس أمر المواطنة والوطنية إلا من مقتضيات هذه الفطرة السليمة، والسنة النبوية القويمة، إذ ليست الوطنية إلا غيرة دينية شرعية، تستلزم الدفاع عن حرمة الوطن وحوزته، بحماية الأنفس والأعراض والحرص على المال العام، واحترام النظام والقوانين، والتعامل بالأخلاق الحسنة مع كل الناس، والعمل على الحفاظ على الخلية الأولى للوطن، وهي الأسرة، وذلك بتنشئة الأطفال على الثوابث الدينية والوطنية.
إن الوطنية الصادقة، والإنتماء الحقيقي للوطن لا يقتصر على المشاعر والأحاسيس فقط، بل يتجلى في الأقوال والأفعال، فالوطني الصادق يسهم في تطور وطنه وبناء حضارته وتقدمه، ويحافظ على أمنه واستقراره، ويسترخص الغالي والنفيس لإعلاء شأنه وشأن أهله.
فاللهم اجعلنا لنعمك من الشاكرين، ولوطننا وأهلنا حامين، ولعروة بيعتنا لأمير المؤمنين حافظين، وعلى صراطك المستقيم سائرين، غير مبدلين ولا مغيرين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون، إن أجمل ما يتجلى به حب الوطن الدعاء له، فالدعاء تعبير صادق عن مكنون الفؤاد، لا يخالطه كذب أو مبالغة أو نفاق، لأن له صلة مباشرة بالله، فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام، لما أحب مكة أثمر حبه دعاء صادقا لها بالأمن والرزق الوافر: “وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر”.
وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الدعاء للمدينة بالخير والبركة والصلاح، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة”، وصح عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه قال: “اللهم بارك لنا في تمرنا وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وأنا عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه”، ودعاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يظهر منه ما يفيض به قلبه من حب لبلده، ومستقر عبادته، وموطن أهله.
وأجمل ما يتجلى به حب الوطن غرس قيم المحافظة على أمنه واستقراره في بنينا وبناتنا، وتوخي الحذر من الأفكار الدخيلة والدسائس التي يريد أعداء استقرارنا ووحدتنا أن ينشروه في مجتمعنا، فلنكن على حذر، ولنجعل من أول أولوياتنا الوفاء بعهدنا لأمتنا ولإستتباب الأمن والإستقرار في وطننا، وإن هذه الأمة المغربية قد أورثها الله تعالى حمل راية الإسلام، والدفاع عن حوزته، وصون حرمته، بقيادة من تعاقب على تولي أمرها من أمراء المؤمنين، القائمين على حماية الدين، مؤازرين في ذلك بعلماء الأمة، وفقا لمقتضيات عقد البيعة الشرعية، التي قام على أساسها أمر هذه الأمة وانتظم، فبنوا صرح أمة، موحدة الكلمة، مجتمعة الأمر، معتصمة بحبل الله الوثيق، الذي من اعتصم به أفلح ونجح، وسعد وربح، فاللهم أدم علينا نعمة الأمن والطمأنينة، والسلامة والسكينة، ووحدة الصف والكلمة.
فاتقوا الله عباد الله واشكروه على نعمه التي أسبغها عليكم، وحافظوا على أمن بلادكم ودياركم، واتعظوا بمن حولكم من الشعوب التي حرمت هذه النعمة، وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد نبي الرحمة، وهادي الأمة، وكاشف الغمة، صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا يا رب العالمين.
الدعاء…